21 Kasım 2007 Çarşamba

كتاب التوحيد للإمام أبي منصور الماتريدي










كتاب التوحيد للإمام أبي منصور الماتريدي


أبو منصور الماتريدي


تحقيق : د. فتح الله خليف


دار الجامعات المصرية - الإسكندرية











إبطال التقليد ووجوب معرفة الدين بالدليل


السمع والعقل هما أصل ما يعرف به الدين


مسألة محدث العالم واحد


مسألة في دلالة الشاهد على الغائب


مسألة مناقشة قول الكعبي في أن أفعال الله باختيار


مسألة في أسماء الله عز وجل


مسألة بيان العرش


مسألة رؤية الله


مسألة الوصف لله والتسمية لا يوجبان التشابه


مسألة في التوحيد من عرف نفسه عرف ربه


مسألة معنى القول بان الله شيء


مسألة في أسماء الله


الحكمة في خلق الجواهر الضارة


إختلاف الفرق في العالم


مسألة في طرق التوحيد


مسألة دفاع عن العلم والنظر


مناقشة ابن شبيب في حدث الأجسام


أقاويل الدهرية وبيان فسادها


مسألة أقاويل السمنية من الدهرية وبيان فسادها


مسألة أقاويل السوفسطائية وبيان فسادها


مسألة في صفة أقاويل الثنوية


ثانيا أقاويل الديصانية وبيان فسادها


ثالثا أقاويل المرقيونية وبيان فسادها


أقاويل المجوس وبيان فسادها


مسألة إثبات الرسالة وبيان الحاجة إليها


أقاويل ابن الروندى في الرسالة وبيان فسادها


إثبات نبوة الأنبياء


آراء النصارى في المسيح والرد عليها


مسألة أفعال الله


مسألة في أفعال الخلق وإثباتها


اختلاف الفرق في أفعال الخلق


قدرة العبد أو استطاعته


مسألة القول في صلاحية القدرة للضدين وتكليف ما لا يطاق


مسائل في الإرادة


مسألة في القضاء والقدر


مسألة في ذم القدرية


مسألة في مقترفي الذنوب وهي يخرجون بذنوبهم من الإيمان


مسألة اختلاف المسلمين في مرتكبي الكبائر


مسألة الشفاعة


مسألة في الإيمان


مسألة الإيمان تصديق بالقلب أم معرفة


مسألة في الإرجاء


خلق الإيمان


مسألة ترك الإستثناء في الإيمان


مسألة الإسلام والإيمان






----------------------------------- صفحة 3


بسم الله الرحمن الرحيم


الحمدلله الذي كل حمد حمد به من دونه فراجع بالحقيقة إليه حمدا يوافي نعمه ويكافئ من يده ويبلغ رضاه ونسأله أن يصلى على من ختم به الرسالة وعلى إخوانه من المرسلين وعلى أوليائه أجمعين ونستعصم به من الزلل ونرغب إليه فيما يكرمنا من القول والعمل
إبطال التقليد ووجوب معرفة الدين بالدليل


قال الشيخ أبو منصور رحمه الله أما بعد فإنا وجدنا الناس مختلفي المذاهب في النحل في الدين متفقين على إختلافهم في الدين على كلمة واحدة أن الذي هو عليه حق والذي عليه غيره باطل على اتفاق جملتهم من أن كلا منهم له سلف يقلد فثبت أن التقليد ليس مما يعذر صاحبه لإصابة مثله ضده على أنه ليس فيه سوى كثرة العدد اللهم إلا أن يكون لأحد ممن ينتهى القول إليه حجة عقل يعلم بها صدقة فيما يدعى وبرهان يقهر المنصفين على إصابته الحق فمن إليه مرجعه في الدين بما يوجب تحقيقه عنه فهو المحق وعلى كل واحد منهم معرفة الحق فيما يدين هو به كأن الذي دان به هو مع






----------------------------------- صفحة 4


أدلة صدقه وشهادة الحق له قد حصرهم إذ منتهى حجج كل منهم ما يضطر التسليم له لو ظفر بها وقد ظهرت لمن ذكرت ولا يجوز ظهور مثلها لضده في الدين لما يتناقض حجج ما غلبت حججه وأظهر تمويه أسباب الشبه في غيره ولا قوة إلا بالله العظيم
السمع والعقل هما أصل ما يعرف به الدين


ثم أصل ما يعرف به الدين إذ لابد أن يكون لهذا الخلق دين يلزمهم الإجتماع عليه وأصل يلزمهم الفزع إليه وجهان أحدهما السمع والآخر العقل


وأما السمع فما لا يخلو بشر من انتحاله مذهبا يعتمد عليه ويدعو غيره إليه حتى شاركهم في ذلك أصحاب الشكوك والتجاهل فضلا عن الذي يقر بوجود الأشياء وتحقيقها على ذلك جرت سياسة ملوك الأرض من سيرة كل منهم ما راموا تسوية أمورهم عليه وتأليف ما بين قلوب رعيتهم به وكذلك أمر الذين ادعوا الرسالة والحكمة ومن قام بتدبير أنواع الصناعة وبالله المعونة والنجاة


وأما العقل فهو أن كون هذا العالم للفناء خاصة ليس بحكمة وخروج كل ذي عقل فعله عن طريق الحكمة قبيح عنه فلا يحتمل أن يكون العالم الذي العقل منه جزء مؤسسا على غير الحكمة أو مجعولا عبثا






----------------------------------- صفحة 5


وإذا ثبت ذلك دل أن إنشاء العالم للبقاء لا للفناء


ثم كان العالم بأصله مبنيا على طبائع مختلفة ووجوه متضادة وبخاصة الذي هو مقصود من حيث العقل الذي يجمع بين المجتمع ويفرق بين الذي حقه التفريق وهو الذي سمته الحكماء العالم الصغير فهو على أهواء مختلفة وطبائع متشتتة وشهوات ركبت فيهم غالبة لو تركوا وما عليه جبلوا لتنازعوا في تجاذب المنافع وأنواع العز والشرف والملك والسلطان فيعقب ذلك التباغض ثم التقاتل وفي ذلك التفاني والفساد الذي لو أمر كون العالم له لبطلت الحكمة في كونه مع ما جعل البشر وجميع الحيوان غير محتمل للبقاء إلا بالأغذية وما به قوام أبدانهم إلى المدد التي جعلت لهم فلو لم يرد بتكوينهم سوى فنائهم لم يحتمل إنشاء ما به بقاؤهم وإذ ثبت ذا لا بد من أصل يؤلف بينهم ويكفهم عن التنازع والتباين الذي لديه الهلاك والفناء


فلزم طلب أصل يجمعهم عليه لغاية ما احتمل وسعهم الوقوف عليه على أن الأحق في ذلك إذ علم بحاجة كل ممن يشاهد وضرورة كل من المعاين أن لهم مدبرا عالما بأحوالهم وبما عليه بقاؤهم وأنه جبلهم على الحاجات لا يدعهم وما هم عليه من الجهل وغلبة الأهواء مع ما لهم من الحاجة في معرفة ما به معاشهم وبقاؤهم دون أن يقيم لهم من يدلهم على ذلك ويعرفهم ذلك ولا بد من أن يجعل له دليلا وبرهانا يعلمون خصوصه بالذي خصه به من الإمامة






----------------------------------- صفحة 6


لهم وأحوجهم إليه فيما عليه أمرهم فيكون في ذلك ما بينا من صدق من ينتهي قوله إلى قول من دل عليه العالم بأمر العالم أنه هو الذي جعله المفزع لهم والمعتمد ولا قوة إلا بالله


قال أبو منصور رحمه الله ثم اختلف في الأسباب التي بها يعلم المصالح والحق والمحاسن من أضدادها فمنهم من يقول هو ما يقع في قلب كل منهم حسنه لزمه التمسك به ومنهم من يقول يعجز البشر عن الإحاطة بالسبب ولكن يتمسك بما ألهم لما يكون ذلك ممن له تدبير العالم


قال الشيخ رحمه الله وهما بعيدان من أن يكونا من أسباب المعرفة لأن وجوه التضاد والتناقض في الأديان بين ثم عند كل واحد منهم أنه المحق ومحال أن يكون سبب الحق يعمل هذا العمل لما تصور الباطل بنفس صورة الحق فمحال الثقة بمن ظهر كذبه كل هذا الظهور مع ما كان معتقدا لمذهب بإعتقاد الحق بما ذكرت عند ضده وفي إلهامه أنه مبطل ولم يكن لواحد منهما دليل غير الذي لآخر في خطابه وذلك نوع ما لا يدفع الإختلاف والتضاد اللذين بهما التفاني وعلى ذلك يبطل إعلام القرعة فيما يعجز عنه ذو العقل ولم يجعل في الحكم الجبر على الرضا إذ هي تخرج مختلفا وكذلك أمر القائف فلم يجز أن يكونا سببى الحق ولا قوة إلا بالله






----------------------------------- صفحة 7


السبل الموصلة إلى العلم هي العيان والأخبار والنظر


قال الشيخ أبو منصور رحمه الله ثم السبيل التي يوصل بها الى العلم بحقائق الأشياء العيان والأخبار والنظر فالعيان ما يقع عليه الحواس وهو الأصل الذي لديه العلم الذي لا ضد له من الجهل فمن قال بضده من الجهل فهو الذي يسمى منكره كل سامع مكابرا تأبى طبيعة البهائم أن يكون ذلك رتبتها إذ أكل منها يعلم ما به بقاؤها وفناؤها وما يتلذذ به ويتألم وصاحب هذا ينكر ذلك وأجمع أن لا يناظر مع من كان ذلك قوله إذ لا يثبت إنكاره ولا حضوره بنفسه والمناظرة في مائية الشيء أو هستيته وهو لهما وللدفع جميعا دافع ولكنه يمازج فيقال له تعلم بأنك تنفى فإن قال لا بطل نفيه وإن قال نعم أثبت نفيه فيصير بما يدفع دافعا لدفعه ويؤلم بالألم الشديد من قطع الجوارح ليدع تعنته إذ نحن نعلم أنه يعلم العيان إذ هو علم الضرورة ولكنه بقوله متعنتا وحق مثله ما ذكرت ليجزع ويضجر فيقابل بتعنت مثله فينهتك لديه ستره ولا قوة إلا بالله


قال الشيخ رحمه الله والأخبار نوعان من أنكر جملته لحق بالفريق الأول لأنه أنكر إنكاره إذ إنكاره خبر فيصير منكرا عند إنكاره إنكاره مع ما فيه جهل نسبه وإسمه ومائيته واسم جوهره واسم كل شيء فيجب به جهل محسوس وعجزه عن أن يخبر عن شيء عاينه إذا خبر به فكيف يبلغ هو إلى العلم بما يبلغه مما غاب عنه أو متى يعلم ما به معاشه وغذاؤه وكل ذلك يصل






----------------------------------- صفحة 8


إليه بالخبر مع ما فيه الكفران بعظيم نعم الله عليه وبأصل ما حمد هو به وبما فضل به على البهائم من النطق بالسمع وذلك نهاية المكابرة


قال أبو منصور رحمه الله ثم لا يوصل بهما إلى إدراك المحاسن والمساوئ التي لا يعمل العقول على الإحاطة بها إلا بإستعمال الألسن بالتكلم بها وإدناء السمع إليها وحق مناظرة هذا وإن كانت مناظرته سفها فيمازج أيضا فنقول له عند إنكاره الخبر ما تقول فإن عاد إليه فاعلم أنه قبل خبرك حيث عاد إلى قوله وهو استعادتك الخبر وإن لم يعد إليه كفيت شره وحمدت الله وضحكت منه


ومثله لمن ينكر العيان تقول له ما تقول فإن عاد إليه ظهر لك أنه يعلمه ولكنه يتعنت وإن لم يعد إليه كفيت شره وشكرت الله تعالى على ما ألهمك أو تضربه وتؤلم فإنه لا يقدر أن يضجر أو يقابلك بالعتاب لما لا يحتمل ذلك إلا بتسمية فعلك وذلك يعرف بالخبر وقد أنكره ولا قوة إلا بالله


ثم إذ قد لزم قبول الأخبار بضرورة العقل لزم قبول أخبار الرسل إذ لا خبر أظهر صدقا من خبرهم بما معهم من الآيات الموضحة صدقهم إذ لا يوجد خبر يطمئن إليه القلب مما بينا من المعارف التي يصير منكر ذلك متعنتا بضرورة العقل أوضح صدقا من أخبار الرسل صلوات الله عليهم فمن أنكر ذلك فهو أحق من يقضى عليه بالتعنت والمكابرة ثم الأخبار التي تنتهي إلينا من الرسل تنتهي على ألسن من يحتمل منهم الغلط والكذب إذ ليس معهم دليل الصدق ولا برهان العصمة فحق مثله النظر فيه فإن كان مثله مما لا يوجد






----------------------------------- صفحة 9


كذبا قط فهو الذي من انتهى إليه مثله لزمه حق شهود القول ممن اتضح البرهان على عصمته وذلك وصف خبر المتواتر إن كلا منهم وإن لم يقم دليل على عصمته فإن الخبر منهم إذا بلغ ذلك الحد ظهر صدقه وثبتت عصمة مثله على الكذب وإن أمكن خلاف ذلك في كل على الإشارة وهكذا القول فيما طريقه الإجتهاد وإن احتمل خطأ كل على الإنفراد والغلط فإنهم لم يتفقوا بمن يوفقهم لذلك ليظهر حقه إذ الآراء لا تؤدي إليه بعد اختلاف الأهواء وتفرق الهمم لذات ذي الرأي دون لطف العزيز الحميد الذي يملك إظهار حقه وعصمة خلقه فيما شاء ولا قوة إلا بالله


وخبر آخر لا يبلغ هذا القدر في إيجاب العلم والشهادة بأنه الحق عن نبي الرحمة فيجب العمل به والترك بالإجتهاد والنظر في أحوال الرواة والظاهر مما ظهر حقه وجوازه في السمع الذي قد أحيط ثم يعمل بما يغلب عليه الوجه وإن احتمل الغلط إذ ربما يعمل به في علم الحس الذي هو أرفع طرق العلم بضعف الحواس وببعد المحسوس ولطفه على أن ترك العمل به والعمل جميعا لا يرجع فيه إلى الإحاطة وإلى أيهما مال كان في ذلك إعراض عن حق الخبر فلذلك لزم القول فيه بالإجتهاد بالوجهين ولا قوة إلا بالله


ثم الأصل في لزوم القول بعلم النظر وجوه أحدهما الإضطرار إليه في علم الحس والخبر وذلك فيما يبعد من الحواس أو يلطف وفيما يرد من الخبر أنه في نوع ما يحتمل الغلط أولا ثم آيات الرسل وتمويهات السحرة وغيرهم في التمييز بينها وفي تعرف الآيات بما يتأمل فيها من قوى البشر وأحوال الآتي بها






----------------------------------- صفحة 10


ليظهر الحق بنوره والباطل بظلمته وعلى ذلك دل الله بالذي ثبت بالأدلة المعجزة أنه منه من نحو القرآن الذي عجز الإنس والجن أن يأتوا بمثله مع الأمر به بقوله سنريهم آياتنا من الأفاق إلى آخر السورة وقوله أفلا ينظرون إلى الإبل وقوله إن في خلق السماوات والأرض وقوله وفي أنفسكم أفلا تبصرون وغير ذلك مما رغب في النظر وألزم الإعتبار وأمر بالتفكر والتدبر وأخبر أن ذلك يوقفهم على الحق ويبين لهم الطريق ولا قوة إلا بالله


مع ما ليس لمن ينكر النظر على دفعه دليل سوى النظر فدل ذلك على لزوم النظر بما به دفعه مع ما لا بد من معرفة ما في الخلق من الحكمة إذ لا يجوز فعل مثله عبثا وما فيه من الدلالة على من أنشأه أو على كونه بنفسه أو حدث أو قدم وكل ذلك مما لا سبيل إلى العلم به إلا بالنظر على أن البشر خص بملك تدبير الخلائق والمحنة فيها وطلب الأصلح لهم في العقول واختيار المحاسن في ذلك وإتقاء مضادة ذلك ولا سبيل إلى معرفة ذلك إلا بإستعمال العقول بالنظر في الأشياء على أن مفزع الكل عند النوائب واعتراض الشبه إلى النظر في ذلك والتأمل فدل أنه يدل على الحقائق ويوصل به إليها على نحو الفزع عند اشتباه اللون إلى البصر والصوت إلى السمع وكذا كل شيء إلى الحاسة التي بها دركها فمثله النظر ولا قوة إلا بالله


على أن محاسن الأشياء ومساويها وما قبح من الأفعال وما حسن منها فإنما نهاية العلم بعد وقوع الحواس عليها وورود الأخبار فيها إذا أريد تقرير كل جهة من ذلك في العقول والكشف عن وجوه ما لا سبيل إلى ذلك إلا بالتأمل والنظر فيها وعلى ذلك أمر المكاسب الضارة والنافعة على أن البشر جبل






----------------------------------- صفحة 11


على طبيعة وعقل وما يحسنه العقل غير الذي ترغب فيه الطبيعة وما يقبحه غير الذي ينفر عنه الطبع أو يكون بينهما مخالفة مرة وموافقة ثانيا لا بد من النظر في كل أمر والتأمل ليعلم حقيقة أنه في أي فن ونوع مما ذكرنا ولا قوة إلا بالله


الدليل على حدث الأعيان


قال الشيخ أبو منصور رحمه الله الدليل على حدث الأعيان هو شهادة الوجوه الثلاثة التي ذكرنا من سبل العلم بالأشياء فأما الخبر فما ثبت عن الله تعالى من وجه يعجز البشر عن دليل مثله لأحد إنه أخبر أنه خالق كل شيء وبديع السماوات والأرض وأن له ملك ما فيهن وقد بينا لزوم القول بالخبر وليس أحد من الأحياء ادعى لنفسه القدم أو أشار إلى معنى يدل على فدمه بل لو قال لعرف كذبه هو بالضرورة وكذا كل من حضره بما رأوه صغيرا ويذكر ابتداؤه أيضا لذلك لزم القول بحدث الأحياء ثم الأموات تحت تدبير الأحياء فهم أحق بالحدث والله الموفق


وعلم الحس وهو أن كل عين من الأعيان يحس محاطا بالضرورة مبنيا بالحاجة والقدم هو شرط الغنا لأنه يستغنى بقدمه عن غيره والضرورة والحاجة يحوجانه إلى غيره فلزم به حدثه وأيضا أن كل شيء جاهل يبدو حاله عاجز عن إصلاح ما يفسد منه في الحال التي هو فيها موصوف بالكمال في القوة والعلم إذا كان ذلك حيا ولو كان ميتا فسلطان الحي عليه جار ثبت






----------------------------------- صفحة 12


أنه لم يكن واحد منهما إلا بغيره وإذا ثبت الغير لزم الحدث إذ القدم يمنع الكون لغيره


وأيضا أن كل محسوس لا يخلو عن إجتماع طبائع مختلفة ومتضادة مما حقها التنافر والتباعد لأنفسها ثبت إجتماعها بغيرها وفي ذلك حدثه والله الموفق


وأيضا أن العالم ذو أجزاء وأبعاض ويعلم أكثر أبعاضه أنه حادث بعد أن لم يكن ويعلم نماؤه وإتساعه وكبره لزم ذلك في كله إذ لا يصير إجتماع أجزاء متناهية غير متناهية


وأيضا أن منه طيب وخبيث وصغير وكبير وحسن وقبيح ونور وظلمة وهذه آيات التغير والزوال وفي التغير والزوال فناء وهلاك إذ معلوم أن الإجتماع يؤكد ويقوى ويعظم دليله النشر وأنه إذا تفرق بطل ذلك فثبت أن ذلك آية الفناء وما احتمل الفناء لم يجز كونه بنفسه


ويلزم أيضا إحتمال الإبتداء وليس لقول من يقول يغيب عن الأبصار ولا يفنى معنى لما علم العالم بالبصر لا بالدلائل وبه يدعى القدم فقد زال ذلك مع ما أنا بينا من وهنه ولا فرق بين حياة تفنى وبين ذاته ولا قوة إلا بالله


وعلى ذلك طريق علم الإستدلال مع ما أنه لا يخلو الجسم من حركة أو سكون وليس لها الإجتماع فيزول من جملة أوقاته نصف الحركة ونصف السكون وكل ذي نصف متناه على أنهما إذ لا يجتمعان في القدم لزم حدث أحد الوجهين ويبطلانه أن يكون محدثا في الأزل لزم في الآخر وفي ذلك حدث ما لا يخلو عنه


وأيضا أن كل جسم لا يخلو عن سكون دائم أو حركة دائمة أو هما وما هو عليه منهما مدفوع إليه مسخر به ومجعول لمنافع غير وإذا كان ذلك وصف جواهر العالم التي لا توصف بالحياة ثبت أنها محدثة إذ هي لا على ما هي بنفسها ولكن على تسخيرها وتذليلها وإستعمالها في حوائج غيرها وإذا ثبت ذلك في أصل






----------------------------------- صفحة 13


الجواهر والأحياء الذين هم فيها وبها نقر وننتفع وهم مجبولون عن الحاجات والمنافع أحق بذلك والله الموفق


ودليل آخر أن العالم لا يخلو من أن يكون قديما على ما عليه أحواله من إجتماع وتفرق وحركة وسكون وخبيث وطيب وحسن وقبيح وزيادة ونقصان وهن حوادث بالحس والعقل إذ لا يجوز إجتماع الضدين فثبت التعاقب وفيه الحدث وجميع الحوادث تحت الكون بعد أن لم تكن فكذلك ما لا يخلو عنا ولا يسبقها أو كان إنشاء عن أصل لا بهذه الصفة أو انتقل إليها بإعتراضها فيه فإن كان ذلك ثبت أن هذا العالم حادث وبطل قول من ينكر الحدوث وإن كان غير هذا فإن كان الأول هو المنشئ له فهو قولنا هو الباري وسموه هيولى وإن كان على الإنتقال إليه فذهب الأول وصار هذا غيره فهذا محدث بما لم يكن هو الأول والأول محدث بما هلك لما انتقل إلى الثاني مع ما لا يكون شيء من شيء من أن يكون مستجنا فيه فيظهر أو محدثا فيه فيتولد ويخرج أو يتلف الأول فيكون الثاني فالأول كالولد والشيء الموضوع في الوعاء ومحال كون أضعاف ما فيه فيما هو فيه لذلك يبطل القول بكون الإنسان من النطفة والشجر في الحب وعلى ذلك من يقول بالبروز بالقوة مع ما كان في ذلك إيجاب حدث ذاته لأن القوة عليه غيره إذ هو وجد بالفعل لا بالقوة أو تلف الأول نحو النطفة ثم النسمة ونحو ذلك فيصير الأول هالكا حتى لا يبقى له الأثر والثاني حادثا حتى لم يبق من الأول فيه أثر وفي ذلك حدث الأول والثاني


فإن قال قائل إذا جاز عندكم بقاء الأعيان في الآخرة بما لا يبقى لم لا جاز قدمها بما لا يتقدم


قيل لوجوه أحدها للتناقض وهو أن معنى الحدث هو الكون بعد ان لم يكن فمن لا يسبقه ففيه حقيقة فالقول فيه بالقدم ينقضه ومعنى البقاء






----------------------------------- صفحة 14


هو الكون في مستأنف الوقت معه غير أو لا لذلك اختلفا والثاني أن القول بالذي ذكرت من البقاء إنما هو سمعي فإما أن تسلم لي ذلك فيجب حدث الأعيان لما به عرفناه أو لا تسلم فيبطل حجاجه بالسمعي على الإنكار به والله المستعان


وأيضا إن الشيء إذا لم يكن إلا بغير يتقدمه وذلك شرط كل الأغيار فيبطل كون الجميع ولا كذلك أمر البقاء ألا يرى أن من قال لآخر لا تأكل شيئا حتى تأكل غيره وكذا كل غير فيه ذلك الشرط فبقى أبدا غير آكل ولو قال كلما أكلت لقمة فكل أخرى فهو يبقى أبدا في الأكل فمثله الأول وعلى ذلك أمر تضاعف الحساب إنه إذا لم يجعل له ابتداء منه يبدأ لا يجوز وجود شيء منه بتة وإذا حصل البداية يجوز أن يبقى فيه فيما يزيد ثم يزيد دائما ولا قوة إلا بالله


مع ما يذكر أوائل الحساب في كل عدد إذ به بلغ ذلك ولا يذكر نهايتها لذلك اختلفا


وأيضا أنا لو توهمنا أن لا جسم وأنه يجوز وجود عرض قبل عرض لم يجز وجود شيء منه إذ لم يجعل له أولية وإبتداء ويجوز الوجود أبدا بلا نهاية له فمثله ما لا يخلو عنه من الأعراض والله الموفق


وأيضا أن كل حركة أو إجتماع نشير إليه هو نهاية ما مضى من ذلك النوع فمحال وجود نهاية الماضي بلا إبتداء له ولا قوة إلا بالله


وأيضا أن قد يوصف جسم بالبقاء مع بقاء واحد وإن كان ذلك البقاء لا يبقى ولا يوصف جسم مع حدث واحد لا يخلو بالعدم عنه فكذلك ما كثر منه على أن حدوث البقاء في الجسم هو سبب إبقائه ويدوم بقاؤه على دوام






----------------------------------- صفحة 15


تتابع البقاء فيه ولا يجوز أن يكون سبب قدم الجسم حدوث عرض فيه فصار هو عديله وقرينه فلذلك لا يتقدمه والله الموفق


وعارض بعض من يقول بهذا لما لا يوجد الشيء بلا لون ثم لا يجب أن يكون لونا وذلك لا معنى له لما أن الحدث هو وصف الكون بعد أن لم يكن فإذا وجد غيره غير مفارقة وفيه هذا الوصف لزمه هذا الحكم وليس اللون بلون لمعنى يوجد في المتلون به لذلك اختلفا لكن جملة الجسم إذ لا يخلو من الألوان فلا يسبقها ولكن يسبق واحدا فواحدا وكذلك أمر الإحداث


ومن قال لا يعلم صنع شيء لا من شيء فهو المقدر بالموجود حسا والمعارف نفسها خارجة عن الحس وكذلك القول بيجوز ولا يجوز وكذلك ما يدعى من التفرق لا الهلاك لا نعرفه بالحس ثم قال به فمثله ما نحن فيه مع ما كان فيه عقل وسمع وبصر وروح وغير ذلك مما لا يدرى مم صنع فذلك يمنعه القول بما قال وأيضا إنه إذا يكن أحد يخبرنا عن قدمه أو كان أزليا من جوهر العالم فلا وجه للعلم به إلا بالإستدلال


ثم لا نعلم كتابة بلا كاتب ولا تفرقا إلا بمفرق وكذلك الإجتماع وكذلك السكون والحركة فيلزم في جملة العالم ذلك إذ هو مؤلف مفرق بل الأعجوبة في تأليف العالم أرفع فهو أحق أن لا يتفرق ولا يجتمع إلا بغيره ثم كل ما في الشاهد من التأليف والكتابة يكون أحدث ممن به كان فمثله جميع العالم إذ هو في معنى ما ذكرت وبالله التوفيق


ولو تكلف الإستقصاء في مثل هذا ليخرج عن طوق البشر إذ ما من شيء مما يحس أو يسمع به من أجزاء العالم إلا ودلالة حدثه ظاهرة من جهله بإبتداء حاله وبإصلاح ما يفسد أو ينشيء مثله وعجزه عما به حفظ نفسه أو تقليبه عن جوهره مع ما فيه الخبيث والقبيح والذليل والمهان الذي لولا تدبير غيره فيه ما احتمل أن يكون كذلك وبالله التوفيق






----------------------------------- صفحة 16


ثم معلوم أن تكون الحركة والسكون والإجتماع والتفرق غير الجسم إذ قد يكون جسما متفرقا يجتمع ومتحركا يسكن فلو كان لنفسه يكون كذلك لم يكن ليحتمل مضادات الأحوال على بقاء الجسم بحاله وعلى هذا يخرج الفناء والبقاء إذ قد يوجد غير باق ولا فان في أوقات فيلزم أن يكون غيره وكذلك من أراد بقاء الشيء أو فناءه يقصد إلى غير الوجه الذي يقصد بالآخر ثبت أنهما غيران يحلان


وكثير من المعتزلة يقولون بهذا في الأول ويأبون في البقاء والفناء مع ما يبطل قولهم إذ كان مختلفا بنفسه في إحتمال ذلك ولو جاز ذلك وجاز بقاء الأجسام بأنفسها لجاز كونها لا بغير على أن هذا بالمعتزلة أولى لأنهم لا يجعلون من الله إلى جملة العالم غير العالم به كان العالم إذ الإرادة يجعلونها من العالم والفعل كذلك وذاته كان موجودا عندهم ولم يكن العالم ولم يحدث شيء سوى كون العالم فإذا كان بنفسه وبه يبقى وفي ذلك فساد التوحيد ولا قوة إلا بالله


ثم قد ثبت التغاير واختلف أهل الكلام في مائية اسم ذلك فمنهم من يسميه عرضا ومنهم من يسميه صفة وحق هذه المسألة التسليم لما يجري الإصطلاح به لما يراد بالتسمية والتعريف وإفهام المراد فأي شيء يعمل ذلك كفى ولا يعرف الإسم بالعقل والقياس كذلك قولنا في تخطئة قول الكعبي إنه لما ثبت أنه ليس بجسم بان أنه عرض






----------------------------------- صفحة 17


قال أبو منصور رحمه الله وإنما يجب ذلك إذا سلم أن ما سوى الجسم من الخلق عرض وفي كتاب الله تسمية العرض على إرادة أعين الأشياء كقوله تعالى تريدون عرض الدنيا وقوله لو كان عرضا قريبا فعلى هذا تسمية ذلك صفة أقرب إلى الأسماء الإسلامية ولا قوة إلا بالله


الدليل على أن للعالم محدثا


قال أبو منصور رحمه الله ثم الدليل على أن للعالم محدثا أنه ثبت حدثه بما بينا وبما لا يوجد شيء منه في الشاهد يجتمع بنفسه ويفرق ثبت أن ذلك كان بغيره والله الموفق


والثاني أن العالم لو كان بنفسه لم يكن وقتا أحق به من وقت ولا حال أولى به من حال ولا صفة أليق به من صفة وإذا كان على أوقات وأحوال وصفات مختلفة ثبت أنه لم يكن به ولو كان لجاز أن يكون كل شيء لنفسه أحوالا هي أحسن الأحوال والصفات وخيرها فيبطل به الشرور والقبائح فدل وجود ذلك على كونه بغيره والله الموفق


وأيضا أن العالم نوعان حي وميت وكل حي جاهل بإبتدائه عاجز عن إنشاء مثله وإصلاح ما فسد منه وقت قوته وكماله فثبت أنه كان بغيره والميت أحق بذلك


وأيضا أن العالم لا يخلو كل عين منه إلى ما يحتمله من الأعراض قهرا وما اعترضه من الأعراض لا قيام لها ولا وجود دونه فثبت بذلك دخول كل واحد منهما تحت حاجة الآخر فيبطل أن يكون بنفسه محتاجا إلى غير به يوجد ويقوم ولا قوة إلا بالله






----------------------------------- صفحة 18


وأيضا أن كل عين ما اجتمع فيه الطبائع المتضادة التي من طبعها التنافر لم يجز أن يكون بنفسه يجتمع ثبت أن له جامعا والله الموفق


وأيضا أن كل عين محتاج إلى آخر به يقوم ويبقى من الأغذية وغيرها مما لا يحتمل أن يبلغ علمه ما به بقاؤه أو كيف يستخرج ذلك ويكتسب فثبت أنه بعليم حكيم لا بنفسه وبالله النجاة والعصمة


وأيضا أنه لو كان بنفسه لكان يبقى به ويكون على حد واحد فلما لم يملك دل على أنه كان بغيره


وأيضا لا يخلو كونه بنفسه من أن كان بعد الوجود فيبطل كونه به لما كان موجودا بغيره أو قبله وما هو قبله كيف يوجد نفسه مع ما لو كان به قبل الوجود لتوهم أن لايوجد فيكون عديما فاعلا وذلك محال ويشهد لما ذكرنا أمر البناء والكتابة والسفن أنه لا يجوز كونها إلا بفاعل موجود فمثله ما نحن فيه وبالله التوفيق


قال أبو منصور رحمه الله وأصل ذلك أنه لا يعاني منه شيء إلا فيه حكمة عجيبة ودلالة بديعة مما يعجز الحكماء عن إدراك ما ئيته وكيفية خروجه على ما خرج وعلم كل أحد منهم بقصور على ما عنده من الحكمة والعلم عن إدراك كنه ذلك فهذه الضرورة وغيرها دلالة حكمة مبدعها وخالقها ولا قوة إلا بالله


وأيضا أنه لو جاز أن يكون العالم يبدأ من قبل نفسه بمره لجائز أن يذهب كله بمرة فإذا لم يكن بل كان على الإختلاف حتى لم يكن تختلف عليه الأحوال إلا بالأغيار نحو حي يموت ومتفرق يجتمع وصغير يكبر وخبيث يطيب أبدا يتغير بأغيار تحدث فعلى ذلك جملته لا يحتمل أن يكون لا بغيره ولو جاز ذا لجاز أن تتغير ألوان الثوب بنفسه لا بأصباغ أو السفينة تصير






----------------------------------- صفحة 19


على ما هي عليها بذاتها فإذا لم تكن ولا بد من عليم ينشئها قدير به يكون فكذلك ما نحن فيه وبالله التوفيق


ويبعد أيضا كون العالم بنفسه بما فيه من دلالة العلم بما هو عليه والقدرة عليه ومحال وجود مثله بعاجز جاهل فكيف بالمعدوم الفاني وبالله التوفيق


ودلالة كون العالم لا من شيء هي حدوثها وقد بينا ذلك
مسألة محدث العالم واحد


قال أبو منصور رحمه الله والدلالة أن محدث العالم واحد لا أكثر السمع والعقل وشهادة العالم بالخلقة فأما السمع فهو اتفاق القول على إختلافهم على الواحد إذ من يقول بالأكثر يقول به على أن الواحد اسم لإبتداء العدد واسم للعظمة والسلطان والرفعة والفضل كما يقال فلان واحد الزمان ومنقطع القرين في الرفعة والفضل والجلال وما جاوز ذلك لا يحتمل غير العدد والأعداد لا نهاية لها من حيث العدد وفي تحقيق ما يعد يخرج عن النهاية العدد فيجب أن يكون العالم غير متناه إذ لو كان من كل منهم شيء واحد فيخرج الجملة عن التناهي بخروج المحدثين وذلك بعيد ثم ما من عدد يشار إليه إلا وأمكن من الدعوى أن يزاد عليه وينقص منه فلم يجب القول بشيء لما لا حقيقة لذلك بحق العدد لا يشارك فيه غيره لذلك بطل القول به وبالله التوفيق






----------------------------------- صفحة 20


وبعد فإنه لم يذكر عن غير الإله الذي يعرفه أهل التوحيد دعوى الإلهية والإشارة إلى أثر فعل منه يدل على ربوبيته ولا وجد في شيء معنى أمكن إخراجه عن حمله ولا بعث رسلا بالآيات التي تقهر العقول ويبهر لها فتثبت أن القول بذلك خيال ووسواس


وأيضا مجيء الرسل بالآيات التي يضطر من شهدها أنها فعل من لو كان معه شريك ليمنعهم عن إظهارها إذ بذلك إبطال ربوبيتهم وألوهيتهم فإذا لم يوجد ولا منعوا عن ذلك مع كثرة المكابرين لهم والعاندين ممن لو أحبوا وجود الإبصار لهم في إظهار آياتهم لوجدوا فثبت أن ذلك إنما سلم للرسل لما لم يكن الإله الحق والخالق للخلق غير الواحد القهار الذي قهر كل متعنت مكابر عن التمويه فضلا من التحقيق ولا قوة إلا بالله


ثم دلالة العقل أنه لو كان أكثر من واحد ما احتمل وجود العالم إلا بالإصطلاح وفي ذلك فساد الربوبية ومعنى آخر أن كل شيء يريد احد ممن ينسب إليه إثباته يريد الآخر نفيه وما يريد أحدهما إيجاده يريد الآخر إعدامه وكذلك في الإبقاء والإفناء وفي ذلك تناقض وتناف فدل الوجود على محدث العالم واحد تدبيره


مع ما كان الأمر المعتاد بين الملوك بذل الوسع منهم في قهر أشكالهم ليكون الملك للقاهر ومنع كل منهم غيره عن إنفاذ حكمه وإظهار سلطانه ما استطاع فإذ لم يكن بل نفذ سلطان العزيز الحكيم ثبت أنه الواحد وهذا تأويل قوله قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا والأول على ما أودع قوله لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا


وأيضا أنه لو كان مع الله إله لأظهر الآخر حكمته وفصل فعله من فعل






----------------------------------- صفحة 21


الله الحق ليعلم به قدرته وسلطانه فإذ لم يفعل بان أن الله المتوحد بالإلهية والمتفرد بالربوبية وذلك معنى قوله وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق وكذلك قوله أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه


ثم وجه الإصطلاح يدل على العجز والجهل مع ما لو كان كذلك لم يكن الأمر لواحد في نسبه الخلق وتحقيقه له إلا من حيث يقهرهم ويدخلهم تحت قدرته وصنعه والله الموفق


وأيضا أنه لو كان مع الله إله لا يخلو من أن يقدر على فعل يسره من الآخر أو لا وكذلك الله سبحانه منه فإن قدرا جميعا ملك كل واحد منهما تجهيل الآخر وفي ذلك زوال الربوبية وإن لم يقدرا عجز كل واحد منهما والعجز يسقط الألوهية أو قدر أحدهما دون الآخر فهو الرب والآخر مربوب مع ما كان علم الغيب علم الربوبية فمن ليس له فهو مربوب ثم لا يخلو أيضا من قدرة كل واحد منهما على غيره في منع ما يروم الفعل بغيره ويريده أولا فيكون فيهما إمكان خروج كل عن القدرة وتحقيق عجز وذلك يسقط الربوبية أو يقدر الواحد خاصة فيكون هو الرب سبحانه


وأما دلالة الإستدلال بالخلق فهو أنه لو كان أكثر من واحد لتقلب فيهم التدبير نحو أن تحول الأزمنة من الشتاء والصيف أو تحول خروج الإنزال وينعها أو تقدير السماء والأرض أو تسيير الشمس والقمر والنجوم أو أغذية الخلق أو تدبير معاش جواهر الحيوان فإذ دار كله على مسلك واحد ونوع من التدبير وإنساق ذلك على سنن واحد لا يتم بمدبرين لذلك لزم القول بالواحد وبالله التوفيق


والثاني أن الأجناس على اختلافها وتباعد ما بينها من نحو السماء والأرض وأطراف الأرض وجعل أرزاق أهلها متصلة بالمنافع حتى كان كل أنواع






----------------------------------- صفحة 22


الخارج من الأرض يكون بأسباب السماء وحاجات كل أهل البلدان منتشرة في جميع الأطراف ومعاش البشر مجعول في أنواع المكاسب على هذا أمر الجميع فلو كان ذلك لعدد لم يحتمل أن ترجع منافعها إلى من له العالم من الخلق على اختلاف العالم ثبت أن مدبر ذلك كله واحد وعلى ما ذكرت الأوقات من الليل والنهار والساعات ودخول بعض في بعض على قدر الحاجات وهذا والله أعلم معنى قوله ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فهذا مع ما جعلت الأجسام وهي الأعيان على جهات ست ثبت أن مدبر كل على اختلاف الأجناس واحد حتى جمع الكل تحت معنى واحد ولا قوة إلا بالله


والثالث أنه لا يوجد جوهر واحد يرجع بجوهره إلى معنى واحد من الضرر أو النفع أو الخبيث أو الطيب أو النعمة أو البلاء بل كل شيء يوصف بالخبث فهو يصير طيبا من وجه غير من له خبث وكذلك سائر الصفات وعلى ذلك أحوال الأشياء إنها ليست على نفع بكل حال أو ضرر بكل حال ثبت أن مدبر ذلك كله واحد حتى جمع في كل وجوه المضار والمنافع ولم يجعل شيئا ذا نوع ليعلم أنه عن أصل يرجع إلى جوهره أو عن تدبير عدد يفعل كل جهة فيتناقض بما تفرد كل بالجهة التي هي منه ولا قوة إلا بالله


أن الأعيان تراها تحت حد الأجسام كلها وهي مجتمعة على طبائع متضادة حقها التنافر والتباعد بما بينها من التعادي الذي لو توهم تركها وطباعها لكان في ذلك فساد الكل فثبت أن مدبر الجميع بينها واحد يجمعهم باللطف ويحبس ضرر كل عن غيره بالحكمة العجيبة التي لا تبلغها الأوهام ولو كان لعدد لجرى فيها حق الإختلاف والتضاد على ما عليه إرادة الفاعلين من السر بغيرهم وبصنع غيرهم ليتبين صنعه وبالله النجاة


وأمكن الجمع بين الحرفين في جميع ما ينتهي إليه الإعتبار من الإشارة إلى الدلالة إنها تخرج على النظر إلى الأحوال والأفعال فالأحوال هي أن يكونوا






----------------------------------- صفحة 23


في جميع معاني الربوبية سواء فيكون في ذلك تدافع وتمانع مع ما كان ذلك صفة فرد سموه عددا أو تختلف فيكون الأتم لها أحق بالربوبية وأما الأفعال فما ذكرت من اتساق جميع العالم مع تناقض الطبائع وتضادها صارت كأنها أشكال في قوام بعض ببعض وكون بعض لبعض عونا وناصرا في البقاء وإن كانوا بالوجه الذي ذكرت ثبت أن ذلك التألف مع التضاد لا يحتمل إلا بمدبر حكيم عليم لطيف لا ينازع في التدبير ولا يخالف في التقدير ولا قوة إلا بالله


وإذا ثبت القول بوحدانية الله تعالى والألوهية له لا على جهة وحدانية العدد إذ كل واحد في العدد له نصف وأجزاء لزم القول بتعاليه عن الأشباه والأضداد إذ في إثبات الضد نفى إلهيته وفي التشابه نفى وحدانيته إذ الخلق كلهم تحت إسم الأشكال والأضداد وهما علما احتمال الفناء والعدم ونفى التوحيد عن الخلق


والله واحد لا شبيه له دائم قائم لا ضد له ولا ند وهذا تأويل قوله ليس كمثله شيء وأصل ذلك أن كل ذي مثل واقع تحت العدد فيكون أقله أثنين وكل ذي ضد تحت الفناء إذ يهلك ضده وعلى ذلك كل شيء سواه له ضد يفنى به وشكل يعد له ويصير به زوجا فحاصل تأويل قوله واحد أي في العظمة والكبرياء وفي القدرة والسلطان وواحد بالتوحد عن الأشباه والأضداد ولذلك بطل القول فيه بالجسم والعرض إذ هما تأويلا الأشياء وإذ ثبت ذا بطل تقدير جميع ما يضاف إليه من الخلق ويوصف به من الصفات بما يفهم منه لو أضيف إلى الخلق ووصف به وبالله التوفيق


وفي ذلك ظهور تعنت المشبهة وذلك سبب إلحاد من ألحد أنه ظن به ما احتمله الشاهد فمنهم من جعله أحد الأعيان وأنكر الصانع للعالم وأدعى أنه على ما عليه في الأزل ومنهم من صيره محتملا للحوادث وأنكر حدثه






----------------------------------- صفحة 24


وزعم أن غيره حوادث اعترضت بقوته وهم أصحاب الهيولي والمسلمون لزمهم القول بهستيته ضرورة فقالوا ونفوا عنه جميع ما احتمل غيره إذ احتمل غيره التفاضل في الذوات والإختلاف في الصفات أو احتمل غيره الإستحالة والتغير بما يتمكن فيه الزيادة والنقصان وإن كان بعض ذلك ثوابت فهو نوع المحتمل لذلك على أن ثباته بالتسخير على ما هو عليه من دوام الحركة أو السكون أو بإحتمال التضاد الذي هو آفة الموجود بما فيه إحتمال الفناء ووجود الأشباه له ليبطل عنه صفة الكمال والتمام أو تمكن النهاية له والحد الذي يتوهم معه الأتم والأنقص والأوفر والأقصر فهذه الوجوه من آيات حدث العالم وأدلة محدثة فلو كان لمحدثه مما به عرف حدث العالم وأن له محدثا ليلحقه من ذلك الوجه ما لحق غيره وفيه فساد العالم وشهادته على محدث حكيم عليم متعال عن الأشباه والأضداد مع ما كان كل غير له حدث من جميع الوجوه فلو كان لشيء منه شبه يسقط عنه من ذلك القدم أو عن غيره الحدث ولا قوة إلا بالله


على أن الشبه من كل جهة في الخلق ممتنع لما يصير واحدا وإنما يكون في جهة دون جهة فلو وصف بالشبه بغيره بجهة فيصير من ذلك الوجه كأحد الخلق ولا قوة إلا بالله


قال الشيخ أبو منصور رحمه الله وليس في إثبات الأسماء وتحقيق الصفات تشابه لنفى حقائق ما في الخلق عنه كالهستية والثبات ولكن الأسماء لما لم يحتمل التعريف ولا تحقيق الذات بحق الربوبية إلا بذلك إذ لا وجه لمعرفة غائب إلا بدلالة الشاهد ثم إذا أريد الوصف بالعلو والجلال فذلك طريق المعرفة في الشاهد وإمكان القول إذ لا يحتمل وسعنا العرفان بالتسمية بغير الذي شاهدنا ولا الإشارة إلى ما لا نأخذ من الحس وحق العيان لو احتمل وسعنا ذلك لقلنا ذلك






----------------------------------- صفحة 25


لكنا اردنا به ما يسقط الشبه من قولنا عالم لا كالعلماء وهذا النوع في كل ما نسميه به ونصفه والله الموفق


مع ما كان التشابه الذي تقدره أوهامنا ليس عن قول اللسان نقدره بل بما كنا نعرف الشبه بين الذاتين والفعلين فإلى ذلك يرجع وههنا عند التسمية وذلك يحققه لو لم يكن لهما اسم عرفا به ووصف وصفا به فإذا كان الله سبحانه فيما اعتقدنا وحدانيته اعتقدنا غير شبيه بالمعروفين في تسمية الآحاد لم يلزمنا التسمية بما تعرفنا ما لولا الإسم لم يجب التشبيه بالإسم لذلك ولا قوة إلا بالله


على أن من نفى الأسماء والصفات من الفلسفة لم يقل بالتعطيل وكل مثبت معناه في التحقيق نفى التعطيل ثم لم يجب به التشابه فمثله في الأسماء


وإذا لم يحققوا فما يقولون لو قيل لهم ما تعبدون وإلى ماذا تدعون وبأي دين تدينون ومن أمركم ونهاكم عما تنهون وتؤمرون ومن به بدء العالم العلوي والسفلي وبمن كان أولية الأشياء ليرجعوا إلى معنى يقرب إلى الفهم أو يلحقوا بمنكري حدث العالم ويبطلوا قولهم في الأول إنه العقل أو الأصل السابق أو الروحاني الأول أو ما قالوا في ذلك وفي ذلك اختيار الحيرة والتمسك بالجهل ودفع ما يعرف غير العالم به ولا قوة إلا بالله


ثم نذكر طرفا من الشبه التي اعترض من استحوذ عليه الشيطان وصرفه بها عما ظهر من البيان ليعلم أن الذي بعثه على ما اختار خدعة نفسه بتسويل عدوه وذلك لا بتقصير من الله في نصب البرهان ولا قوة إلا بالله


فنقول سول الشيطان لمنكر العيان بما قد يخرج على غير الذي حسبه






----------------------------------- صفحة 26


المتأمل فيه ليصده عن عبادة الرحمن المؤوف بصره أو الذي تنازعه نفسه في المنام أو الذي يبعد عنه أو يدق عن الإحاطة ثم لم يعمل عليه كيد الشيطان في الصرف عن الملاذ وكف النفس عن الشهوات ويوقيه من الجواهر المؤذية وصون النفس عن اقتحام النيران والبحار ولو كان عن حقيقة جهل ينطق لكان لا بقاء له لما يقتحم المهالك ويمتنع عن تناول الأغذية فثبت أن الذي دعا إلى ما يقوله حب اللذات والميل إلى الشهوات مع ما في الذي ذكر من اختلاف الأحوال وتبين الخلاف دليل كاف على أنه قد علم العيان حيث أخبر عن الخلاف لما ذكر من الحسبان وعندنا أن ذلك بمعنى العيان إن المؤوف وفي حال المنام والبعد والدقة لا يصل إلى حقائق الأشياء وعند الإرتفاع يصل فذلك الذي أوجب من الإختلاف هو حق العيان لم يجز أن ينكره وعلى مثله قول مثبتي العيان ومنكري الخبر بما قد يظهر فيه الكذب بعد أن ينتشر به القول


ثم قد قيل الإخبار في العيان اللذيذة والجواهر الشهية في الإنتفاع مما لولا الإخبار عما فيه من اللذة ما احتمل عاقل المخاطرة بنفسه من الإمتحان وكذلك اتقاء المضار من غير أن سبق منهم الإمتحان فما نالوا إلا بالإخبار وعلى ذلك المكاسب والحيل والحذر ونحو ذلك مما يرجع منافع ذلك إلى أبدانهم ودنياهم وكذلك المضار فثبت أن الذي بعث هذا إلى التكذيب ما في القول به من إثبات الحرمات وكف النفس عن الشهوات فيصير السبب الذي به خدع الشيطان هذا الصنف هو السبب الذي خدع الصنف الأول مع ما يوجد ذلك في العيان من الوجه الذي بينا ولم يمنع هؤلاء القول به فمثله في الأول لأنه يظهر الكذب في الإخبار بما اعترض المخبر من الآفات التي تحملهم عليه






----------------------------------- صفحة 27


وبعد فقد ظهر صدق كثير من الأخبار فلم يكن أحد الوجهين به أولى من الآخر إلا بدليل يوضح والله الموفق


وقد يعامل بالمعاملة الوحشة وضرب مما يؤذيه ويؤلمه حتى يضطر إلى القول بما لا يحتمل معرفته إلا بالخبر ولا قوة إلا بالله


وعلى مثله قول المقرين بعلم العيان والخبر المنكرين لعلم الإستدلال على عقله لوجوه المنافع في الدنيا ولعواقب مأمولة ليس عنده علم من جهة العيان والخبر وإنما ذلك بالإستدلال وما في ذلك من ظنون الإصابة وكذا معرفة صدق الإخبار وكذبه مع ما يقال له في كل شيء يعلم مما ليس فيه علم الحس بم علمت ذلك فإن قال بالخبر يسأل عن معرفة صدقه وكذبه وتدخل ذلك في جميع الملاذ والمضار مما يتقى ويؤتى مع ما كانت الضرورة تلزم النظر بما عاين وسمع ليعلم منشأ العالم أو حدثه وقدمه


وبعد فإنه ليس في شيء يمنع الإستدلال له خبر في المنع أو عيان فكأنه بالإستدلال يمنع القول به ولا قوة إلا بالله


وبعد فإن معرفة إنسان أو نار أو شيء بالذي شوهد مرة لا يخرج إلا على الإستدلال بالذي عرف ولو لم يدله للزمه أن لا يعامل أحدا قط ثم لا يقبل تعليم أحد لأنه لا دليل عنده يعلم أنه من ويجوز أن يوجد بخبره أو لا ثبت أن كل ذلك إستدلال وهو لازم ولا قوة إلا بالله
مسألة في دلالة الشاهد على الغائب


قال أبو منصور رحمه الله ثم اختلف في وجه دلالة الشاهد على الغائب فمنهم من يقول على مثله إذ هو أصل للذي غاب عنه ولا يخالف الأصل






----------------------------------- صفحة 28


فرعه مع ما كان طريق معرفة الغائب الشاهد وقياس الشيء نظيره فبه أثبتوا قدم العالم إذ الشاهد يدل على مثله فصار الغائب به عالما أيضا ثم هو يدل في كل وقت على مثله قبله وفي ذلك إيجاب القدم للكل


ومنهم من يقول ما من وقت يتوهم فيه ابتداء العالم إلا وقد يتوهم قبله فيبطل له الغاية


ومنهم من يقول يدل على المثل والخلاف ودلالته على الخلاف أوضح لأن من شاهد شيئا من العالم يدله على حدثه أو قدمه وقدمه وحدثه ليس هو مثلهما ولا نظيرهما ثم يدله على محدثه أو كون بنفسه وهما خلافه ثم يدله على حكمة فاعله وسفهه وإختياره وطبعه وكل ذلك خلاف لما شاهده ولا يدله على أن له مثلا إذ لو كان يدله لكان يجب أن يتوهم كل من عاين نفسه أن يكون كل العالم مثله وذلك بعيد فثبت أن الجوهر لا يحقق رؤية مثله غائبا ويحقق أحد الوجوه التي ذكرناها لكن إذا عرفت كيفية المشاهد إذا أخبرت بتلك الكيفية لغائب علمت أنه مثله لا أن ذلك يحقق المثل وقد يجوز أن يدل على مثله بهذا الوجه وبما عرف يعنى الجسم والنار فيعرف كل جسم ونار وإن لم يشهده ولا قوة إلا بالله


وما زعم من الأصل والفرع فمقلوب لما كان القديم والقدم ولم يكن ما به إستدلال فلذلك لم يجب جعله فرعا لهذا بل هو الأصل لكون هذا به


ثم كل كائن بغيره من طريق العقل خارج عن جوهره في الشاهد كالبناء والكتابة وكل أنواع الأفعال والأقوال التي هي أغيار لمن كن بهم لم يجز أن يلحقهم بالجوهر والصفة فمثله الذي به العالم


على أنه جاز في الشاهد إثبات ما لا يدرك ولا يحاط به نحو السمع والبصر والروح والعقل والهوى ونحو ذلك وما يدرك نحو الأجسام الكثيفة فلو كانت هي قديمة الأصل فيجب أن يكون كل نوع يتولد ويحدث من جوهره العقل من العقل وكذلك البصر والسمع ومعلوم الإختلاف بين كل جوهر والمتولد






----------------------------------- صفحة 29


منه في ذلك فلزم الكون والحدث إن كان مختلفا وفي تثبيت الإختلاف بطلان أن يكون الذي في وصف القدم عالما أو على ما عليه صفته وفي ذلك إثبات حدث العالم بمن ليس كمثله


وبعد فإن الكتابة تدل على الكاتب ومن لا يدل على كيفيته أو مثله لا يجوز أن يكون ملكا أو بشرا أو جنا فتكون الكتابة غير دالة على مائية الكاتب وكيفيته ولا على مثلها وهي تدل على كاتب ما فمثله العالم بما فيه يدل على محدث ما لا يدل على كيفيته ومائيته وكذلك البناء والنسخ والنجر والصناعات لذلك لزم القياس في إثبات صانع العالم بالعالم بما فيه من العجائب والأشياء التي لا يحتمل كونها إلا بحكيم عليم ولا يجب به تعرف الكيفية له والمائية ولا قوة إلا بالله


قال الشيخ أبو منصور رحمه الله والأصل أن دلالة العالم مختلفة على اختلاف جهاته دل احتماله الإستحالة والزوال وإجتماع الأضداد في عين في حال على حدثه ثم دل جهله بمباديه وعجزه عن إصلاح ما فسد منه أنه لم يكن بنفسه ثم دل اجتماع الأحوال المتضادة وإتساق جواهر الخلق على الإستقامة على أن مدبر الكل ومحدثه واحد ويدل أيضا اتساقه وإستقامته وحفظ الأضداد في عين على قدرة مدبره وحكمته وعلمه فاختلفت جهات الدلالة فيما عليه دلالات العيان فصار دليل إثبات المحدث عجز المحدث ودليل علمه لما اتسق جهله بنفسه فصار وجود الدلالة به على الخلاف لا الوفاق


وأصل آخر أيضا أن الضروريات والحاجات هي التي دلت على غير فلم يجز أن يحتمل ما أحتمل هو لما يحوج إلى غير ثم ذلك إلى آخر إلى ما لا نهاية له وذلك فاسد والله أعلم






----------------------------------- صفحة 30


أقاويل من يدعى قدم العالم


قال أبو منصور تم ذكر أقاويل من يدعى قدم العالم على ما عليه من كون شيء من شيء إلى ما لا نهاية له بلا منشئ بما كذلك شهده والشاهد دليل الغائب فيلزم ذلك في الذي غاب لأنه لو جاز إيجاب خلاف العيان بالعيان لجاز إيجاب إنسان وجسم بخلاف المعقول على أن فيه إيجاب الخروج من التصور في الوهم والتقدر في العقل وذلك آية النفى فمثله اعتقاد شيء لا من شيء نحو الأوقات إنها تقع تباعا وقد اعتبرها بما لا وقت يتوهم كونه إلا وأمكن توهم ذلك قبله إلى ما لا نهاية له واعتبر أيضا بجواز البقاء بما لا يبقى


ومنهم من يقول يكون شيء بشيء إلى ما لا نهاية له بمنشيء حكيم وجعلوه علة كون العالم ومحال كون العلة ولا معلول مع ما لا يخلو من لا يوصف بالقدرة والجود في القدم وذلك آية العجز والحاجة أو يوصف فيجب المقدور عليه وإفاضة الجود على كل شيء وما ذكر من التوهم لهم أيضا


ومنهم من يقول بقدم الطينة وهي الأصل وحدث الصنعة


قال أبو منصور رحمه الله فقوله بقدم الطينة لما ذكرنا من رفع كون شيء لا عن شيء ثم كان كل شيء حدث عن شيء حدث عند انقلاب الأول وهلاكه نحو ما يحدث من النطفة والبيضة


ومنهم من جعل حدثه بعوارض حلت بالطينة فانقلبت على ما عليه الطبائع من الإعتدال والإختلاف


ومنهم من جعل حدثه بالباري


ومنهم من قال بالأصل وسماه هيولي


قال الشيخ أبو منصور رحمه الله فجملة ما ذهب إليه هؤلاء دفع ما لا






----------------------------------- صفحة 31


يتصور في الوهم ولا يتمثل في النفس إذ كذلك وجد لم يحتمل قلوبهم إيجاب خلافه


فيقال أيتصور في أوهامكم دفع ما لا يتمثل في النفس فإن قال نعم كابر لمشاركتنا إياه في ذي الصور وليس يتصور دفعه هذا في أوهامنا وإن قال لا بل تقديره فيقال له متى يتصور في الوهم قدم الشيء أو بقاؤه بعد التفرق وأن يصير بحيث لا يأخذه البصر وقد يقول بذلك كله ومع ذلك في الأنفس ما لا يتمثل في الأنفس من السمع والبصر وجرى قوى جوهر واحد من الطعام وتولد قوة الجواهر المختلفة به كالسمع والبصر والفهم واليد والرجل وغيرها مما ينكر مثله في تلك الجملة بالأدلة


ثم يقال له لا يعدو كون الشيء من الشيء من أن يكون مستجنا فيه فظهر ومحال أن يكون الإنسان بكليته والشجر بكليته مع ما يثمر في ذلك الأصل أو جميع البشر بجوهرهم يكونون في أصل الماء الذي كان في صلب فيسع الشيء الواحد ما لا يحصى من الأضعاف وذلك مما لا يحتمل تمثله في نفس صحيحة ولا يصبر عليه عقل سليم وذلك يبطل قوله كون الشيء من الشيء لأنه بكليته لم يكن من النطفة


وليس له أن يدعى كونه في الأغذية لأنه يبلغ في وقتا في العظم لا يزداد البتة وتلك الأغذية كلها موجودة أو فيها زيادة بالجوهر وكم من جوهر يسمن وآخر يأكل ذلك عمره فلا يظهر وترى التوت وورقه يأكله نعم فيخرج من كل غير الذي يخرج من غيره وكذلك التمر وغيره فهذا يبين أن ذلك ليس






----------------------------------- صفحة 32


بعمل الأغذية على أن الأغذية هن موات لا يحتمل أن تصير كذلك إلا بتدبير مدبر عليم لا أن استفاد ذلك المعنى من غيره بلا تدبير وفي ذلك لزوم القول بالذي قلنا


أو إن كان حدث شيء منه أو بعضه لا أن كان في شيء مما ذكر فيجب القول بحدث العالم بما لزم في بعضه


ثم يقال لهم إذ كل مشاهد ذو نهاية وجعلتموه دليل العالم لم لا كان الكل كذلك وإلا لو جاز كون شيء منه متناه وجملته لا لم لا جاز كون شيء منه عن شيء وجملته لا وكذلك نرى بعضه لبعضه مكانا ولا يحتمل جملته المكان لزوال الحمل ولا قوة إلا بالله وفي ذلك لزوم الحدث


وما ذكرنا من البقاء قد بيناه فيما تقدم


وما ذكر من التوهم فكذلك ما من وقت يتوهم إلا وأمكن توهم كونه من بعد فيجب به حدثه مع ما إذا لم يجعل لأوليته وقت يبطل كله


وبعد فإنه لو جاز إخلاء العالم أو أصله عما يحتمل من الحوادث لجاز أيضا قلب كل معقول من جواز حي وميت في حال فثبت حدث الكلية بما لا يخلو عنه ولا قوة إلا بالله


قال الشيخ رحمه الله وما ذكر من الخروج عن المعقول بما لا يتصور في الوهم فقد بينا


وبعد فإن ذلك عقل خص به من لا عقل له لأنه طلب معرفة ما ليس طريقه الحس بالحس فهو كمن يريد أن يميز بين الأصوات بالبصر وبين الألوان بالسمع وكذا كل معروف بحس أحب أن يعقل ذلك بغيره فيقصر عنه عقله فمثله ما كان طريق العلم به غير الحواس فأراد الوصول إليه بها لم يسعه عقله وهذا الجواب جواب لقوله أيضا كون شيء من غير شيء خارج من المعقول


وللأمرين جواب آخر وهو أن يقال يعنى بالتصور في الوهم الوجود بالأدلة






----------------------------------- صفحة 33


فهو لازم ولا نقول بما ليس فيه ذلك وإن أردت المثال جل ربنا عن ذلك بل هو الجاعل لكل ذي المثال مثلا وهو منشئ ذلك ودليل حدث العالم إحالة كون حياة في ميت لأنه به يحيى ثبت أن حياة الأشياء حدث فكذلك موتها إذ قد يكون بعد الحياة


قال الشيخ رحمه الله وقوله الباري علة العالم إن أراد به كون المصنوع به بالطبع فهو محال لأنه طريق الإضطرار ومن ذلك وصفه لا يحتمل به كون العالم على أن العالم محدث مختلف ومن كون الشيء به بالطبع فهو ذو نوع وإن أراد به أنه يحدثه فذلك مستقيم وتسميته علة فاسدة وذلك المعنى يوجب كون الشيء بعد أن لم يكن لأوجه


أحدها التناقض إذ العدم يوجد فتقع الحاجة إلى من يوجده فثبت أن في ذلك وجوب كونه حادثا


والثاني كون كلية العالم به ومعلوم كون الحادث بعد أن لم يكن والله أعلم


والثالث أن في ذلك وجود الإجتماع مع التفرق والحركة مع السكون والحياة مع الموت وفي ذلك تناقض وتناف ثبت أنه كان على التتابع بالأول والثاني ونحوه ولا قوة إلا بالله


قال أبو منصور رحمه الله ونحن نقول بأنه عز وجل لم يزل عالما قادرا فاعلا جوادا على الوجوه التي تصح في العقل ويقوم معه التدبير إنه لم يزل كذلك ليكون بفعله كل شيء يكون في وقت كونه بوجه يصح عنه دفع الوصف بالغنا عن التكوين والإمتناع عن وقوع القدرة عليه والغنا بنفسه في الوجود عن الباري ولا قوة إلا بالله


وذلك معلوم في الشاهد في العلم والإرادة بأشياء ليست بكائنة لتكون فمثله عندنا القدرة والإرادة والجود وما ذكر ولا قوة إلا بالله






----------------------------------- صفحة 34


وما ذكر من التوهم فإنه قد يتوهم في كل شيخ في أول ما شاخ بقدمه ولم يجب به الوصف في الأزل وكذا في كل حركة وسكون وتفرق وإجتماع فإن قلت ذا محال فمثله كون الحدث في الأزل محال والله الموفق


ثم زعم من يقول بالإثنين الظلمة والنور بقدم العالم وأحق من يأبى ذلك من يقول بهذا إذ من قولهم إنهما كانا متباينين فامتزجا فكان العالم من امتزاجهما ومعلوم أن الإمتزاج كان حادثا إذ التباين كان هو المتقدم ولم يكونا يلقبان بالعالم إلا أن يقولوا النور والظلمة جوهران اختلفا كانا في الأصل بمكانهما فكان مكان النور نور كله وخير ومكان الظلمة ظلمة كلها وشر فيبطل القول بقدم العالم الممتزج وبخاصة قول الماني حيث زعم أن النور لما رأى الظلمة قدحت فيه ومازجت به أحدث هذا العالم ليتخلص بذلك أجزاء النور من أجزاء الظلمة فصار العالم على هذا القول بعد الإمتزاج المحدث مكون بعد المحدث قديما وذلك هو التجاهل فأوجبوا عجز النور وقت كونه في سلطانه بجميع أعوانه من الخيرات وأنصاره من الحسنات حيث لم يقدر على الإمتناع من قدح الظلمة وأحد أحزابه عنه وجهلوه بوقت القدح فيه ليتخلص منه ثم زعموا أنه أحدث هذا العالم ليخلص أجزاءه منه بعد أن صار في وثاقها


هيهات ما أبعدهم عن ذلك وما أجهل من يقدمونه ويجعلون له كل خير وأول كل خير وعلم وقد جهل ما ذكر وعظم كل خير بقوة وقد عجز






----------------------------------- صفحة 35


من حفظه في أقوى أحواله ثم إذ كان هو المنشيء للعالم كيف صار أكثر العالم شرا فهو إذن فعل الشر ليتخلص به من وثاق الشر فكأنه أعان الشر والظلمة إذ هو عمل ذلك ثم قد زاد من أجزائه في أجزاء النور بإحداث العالم في أجزاء العالم فازداد له حبسا وهلاكا ولا قوة إلا بالله


قال أبو منصور رحمه الله واختلفت الثنوية في الإمتزاج فمنهم من يجعله للظلمة لكنهم اختلفوا فمنهم من يحقق له الفعل ومنهم من يأبى ذلك ويراه كالمنتشر بالطبع وهي كثيفة ستارة والنور رقيق دراك فيقع فيها فوقع الإمتزاج بذلك ومنهم من يجعل ذلك للنور


لكنه كله هذيان ما يدريهم ذلك والأصل فيه أن الظلمة والنور في احتمال التغير والإستحالة وإحتمال التجزئة والتبعيض والحسن والقبح والطيب والخبيث وكل شيء سواء فإن كانا يرجعان إلى أجزاء العالم فهما يحدثان بحدثه ويفنيان بفنائه ثم لا يجوز أن يكون لواحد منهما ألوهيته لظهور العجز والجهل بهما والعالم هو دليل قوى عليم حكيم فهما في تلك الجملة


وبعد إذ لم يكن واحد منهما قدر أن ينشيء فعلا يدل عليه ثبت أنهما مفعولان لا فاعلان ومما يبين أنهما فعل لواحد ما ليس في العالم شيء بجوهره خير حتى لا يكون منه شر في وجه أبدا ولا شر لا يكون منه خير في وجه أبدا ثبت أن إنكار مثله عن الواحد غير ممكن


ثم الأصل أن الإمتزاج لا يخلو من أن يكون شرا أو خيرا فإن كان خيرا لا يخلو من أن يكون من الظلمة فيكون منها الخير وبطل قولهم بالإثنين من حيث لا يكون من الشر خير ولا من الخير شر وإن كان شرا فقد شاركه الخير في القبول فصار شرا وإن كان ذلك من النور فالوجهان قائمان فيه


مع ما إذ كانا غير ممتزجين فامتزجا لا يخلو امتزاجهما من أن يكون بأنفسهما فيكونان ممتزجين بالجوهر متباينين به وذلك متناقض ولو جاز ذلك لجاز أن






----------------------------------- صفحة 36


يكونا متحركين بأنفسهما ساكنين حيين ميتين قاعدين قائمين مع ما يفسد أن يكون التباين لنفسه يقع ثم امتزاج بما كان به التباين ألا ترى أن الأحوال التي تتغير بالأعيان لم يجز وجودها إلا بغير فكذلك التباين والإمتزاج فثبت أنهما بغيرهما امتزجا وبغيرهما كانا متباينين وذلك يوجب حدثهما


وبعد فإنهم يقولون بحرمة الذبائح وأحق من يحل هم إذ بها التفريق بين الجسد المظلم وبين الروح المضيء وبين النور الجلي والظلمة الستارة وبذلك وصفوا النور بأنه رقيق دراك وبالروح ذلك لا بالظلمة فيجب به حل الذبح ولا قوة إلا بالله


وأصله أنهم ينكرون الشر من جوهر الخير والخير من جوهر الشر هذا الذي حملهم على القول باثنين


ثم قد أثبتوا الإقرار بالقتل وبما هو عندهم معصية فلو كان من غير الذي منه القتل فقد كذب وهو شر ولو كان منه فقد صدق بالإقرار بالمعصية ثبت أن العجز عن إدراك الحكمة في خلق الشر لا يضطر إلى القول باثنين لما فيه تحقيقه أيضا ولا قوة إلا بالله


على أنهم أحق الخلق في الإمتناع عن النطق بالحكمة أو طلب العلم لأن قولهم إن جوهر النور لا يجئ منه شر قط والجهل شر فإن كان من ذلك الجوهر فهو عالم بجوهره حكيم به لا يحتمل الجهل ولا السفه والتعلم وطلب الحكمة حق الجهال بهما وإن كان من جوهر الشر فإنه لا ينجع فيه لأنه بجوهره لا يقبل ولا يحتمل الخير وإذا كان كذلك بطلت مناظرتهم ودعواهم الحكمة والعلم لأن مناظرتهم في ذلك لو كانت مع جوهر النور كان هو عالما قبل المناظرة فلا معنى لها ولو كانت مع جوهر الظلمة كان غير قابل ولا






----------------------------------- صفحة 37


مستمع له فهو عبث فلا بد من تحقيق الجهل والعلم في جوهر كل منهما ليصح ذلك المعنى وفي ذلك جمع الأمرين في أحدهما وذلك المعنى ألزمهم القول باثنين فبطل بحمدالله


والأصل فيه أن التكلم منهم بالحكمة لا يعدو إما أن تكلموا بجوهرهم وهو يعلم فيخرج مخرج العبث أو يجهله المكلم وإيهما كان ففيه ثبات الأمرين من واحد أو من غير جوهره فإنه لا يخلو أيضا من قبول أو عبث وأيهما كان ففي ذلك ما قلنا ولا قوة إلا بالله


ثم يقال لهم إذ القول بأن لا يجوز أن يكون واحد يجيء منه خير وشر ومن هذا قوله كيف كان منهما العالم الذي كل واحد منهم هذا وصفه فينتقض عليهما فعلهما ما لذلك ادعى لهما ذلك أترى سفها أعظم مما عملاهما بأنفسهما أو جهلا أبين من ذلك ولا قوة إلا بالله


فإن قال قائلهم كيف زعمتم أنه يجوز أن يكون من الحكيم يجيء فعل السفه


قلنا هذا لا يجيء ممن هو حكيم بذاته إنما يجيء ممن يجهل كما قلتم في النور من الجهل بعمل الظلمة ونحو ذلك فأما الله سبحانه يتعالى عن ذلك لكن قد يجوز أن يكون فعل حكمة لا يبلغها عقل البشر وإلا فهو يجل عن ذلك وما الحكمة إلا الإصابة في أن يوضع كل شيء موضعه ويعطى كل ذي حظ حظه ولا يبخس بأحد حقه وإنما أبى من يظن بالله أو بما يضيف إليه الموحدون ذلك لجهلهم بحدود الحكمة ومبلغ الحظوظ وإيجابهم الحقوق لمن ليست لهم وسنذكره إن شاء الله في موضع هو أملك به من هذا






----------------------------------- صفحة 38


مسألة


لا يجوز إطلاق لفظ الجسم على الله تعالى


قال الشيخ أبو منصور رحمه الله ثم القول بالجسم يخرج على وجهين أحدهما في مائية الجسم في الشاهد أنه اسم ذي الجهات أو اسم محتمل النهايات أو اسم ذي الأبعاد الثلاثة فغير جائز القول به في الله سبحانه على تحقيق ذلك لما هي أدلة الخلق وإمارة الحدث إذ ذلك معنى الأجزاء والحدود التي هن آيات الحدث وقد بينا أن ليس كمثله شيء وفي ذلك إيجاب جعله كأكثر الأشياء


وإن كان على التسمية به بلا تحقيق ما ذكرنا خرج الإسم عن المعروف به فبطل تعرف ذلك من جهة العقل والإستدلال وحقه السمع عن الله إن الجسم ليس من أسمائه ولم يرد عنه ولا عن أحد ممن أذن لأحد تقليده فالقول به لا يسع ولو وسع بالنحت من غير دليل حسي أو سمعي أو عقلي لوسع القول بالجسد والشخص وكل ذلك مستنكر بالسمع وليسع القول بكل ما يسمى به الخلق وذلك فاسد


وثانيهما أن يكون الجسم ليست له مائية تعرف سوى الإثبات فيجوز القول به لو لم يراد به غيره لكنه لا أحد يجعل الجسم من أسماء الإثبات إذ لا يسمى به الأعراض والصفات على احتمالهما اسم الإثبات لذلك بطل القول به






----------------------------------- صفحة 39


فإن عورضنا باسم الفاعل أو العالم ونحو ذلك قيل له جوابان أحدهما أنا لو لم نعقل معنى هذا لكان يجوز التسمية به بما ثبت في السمع ولم يثبت في الأول لذلك اختلفا


والثاني أن معنى الفاعل والعالم كان معقولا في الشاهد وليس ذلك من أدلة الحدث ولا مما في المعروف من معناه دليله وقد احتمل وصف الله به لذلك لزم القول به على نفي الشبه شبه الخلق عنه وبالله التوفيق


فإن قيل لم لا قلت بأنه بما سمى به فاعلا كان جسما وكذلك القادر والعالم إذ لا أحد في الشاهد سمى به إلا وهو جسم


قيل لا سمى بذلك في الشاهد لأنه جسم لوجودنا أجساما لا تسمى به فلذلك لم يلزم به القول على أنا بينا الوجوه التي أحقت التسمية بما سمى من السمع والعبرة ولسنا نجد ذلك في الذي عارض به ولو جاز لنا ليجوز الآخر أيضا أن يقابلنا بمثله في الجسد والشخص ونحو ذلك مع ما كان اسم الجسم غير واقع في الشاهد على ما لا يحتمل التجزئة والتبعيض من نحو العرض والفعل والحركة والسكون ثبت أنه اسم ذي الأجزاء كالطويل والعريض والمؤلف ولو لم يبطل القول بالمؤلف لما يدل ظاهره على فعل به إذ لو بطل ليبطل القول بموجود بذاته في الأزل ولو كان كذلك ليجوز القول بطويل وجسد ولون وطعم ونحو ذلك لما ليس الظاهر إلا ذلك فإذا لم يجز لما في الحقيقة إيجابه وإن لم يكن في اللفظ دليله فمثله في الجسم والله الموفق


يجوز إطلاق لفظ الشيء على الله


فإن قيل إذ قلتم شيء لا كالأشياء لم لا قلتم جسم لا كالأجسام






----------------------------------- صفحة 40


قيل له لأن السبب الذي ألزمنا القول بالشيء لم يوجد في الجسم لذلك لم نقل


وبعد فإنه لا يخلو فيما يريد إلزامنا من القول بالجسمية من أن يلزمنا بقولنا بالشيء فوجدنا أكثر الأشياء وهي الأعراض والصفات من غير لزوم القول فيها بالجسمية يمنع ذلك وإن كان يريد بقولنا لا كالأشياء فليس هو حرف الإثبات ليدل على مائية المثبت فلا وجه لهذا السؤال وهو كمن يقول إذ جاز أن يكون شيئا لا كالأشياء لم لا جاز أن يكون إنسانا لا كالناس


قال الشيخ رحمه الله فجواب مثله أن يقال لأنه ليس بجسم فيقال جسم لا كالأجسام وليس هذا النوع بمعارضة إنما هو محاكمة ونحن لا نملك إيجاد الإله حتى نقابل بمثل هذا فيقال لنا إذ جعلتم ذا لم لا جعلتم ذا بل يتعالى عن الجعل على جهة بل يوصف بما هو عليه ولا قوة إلا بالله


ثم المعارضة عند التحصيل تناقض لأنه قال إذ قلتم شيء لا كالأشياء لم لا قلتم جسم لا كالأجسام فإذا قلنا جسم يصير قولنا شيء لا كالأشياء هو شيء لا كبعض الأشياء إذ الجسم أحد قسمي الأشياء وفي ذلك بطلان القول بجسم لا كالأجسام ولا قوة إلا بالله


قال أبو منصور رحمه الله ثم معنى قولنا شيء لا كالأشياء هو إسقاط مائية الأشياء وهي نوعان عين وهو جسم وصفة وهي عرض فيجب به إسقاط مائية الأعيان وهو الجسم والصفات وهي الأعراض فإذا أزلنا ذلك المعنى الذي هو جسم من الأعيان أبطلنا الإسم الذي هو لذلك المعنى كما إذا أزلنا معنى التشبيه من الإثبات ونفى التعطيل أبطلنا القول به ولا قوة إلا بالله






----------------------------------- صفحة 41


ولنا في القول بالشيء عباراتان


إحداهما أن يجعل الشيء اسما والموافقة في الأسماء لا توجب التشابه لما قد يستعمل في موضع نفى الموافقة في المعنى نحو أن يقال فلان واحد عصره وواحد قومه على نفى أن يكون له فيهم نظير أو شبيه من الوجه الذي أريد وإن كانوا جميعا في تسمية الواحد شركاء ولو كانت الموافقة في الإسم توجب التشابه لا يحتمل استعماله في موضع إرادة نفى الموافقة وكذلك نجد قول كفر وإسلام على تحقيق الإسم لكل واحد منها والموافقة من حيث القول ولكن المعنى متناقض وكذا ذلك في الحركات والأفعال ونحو ذلك


ودليل إثبات القول بالشيء وجهان


أحدهما السمع من قوله ليس كمثله شيء ولو لم يكن هو شيئا لم ينف عنه شيئية الأشياء باسم الشيئية إذ الشيء في التحقيق خلاف ما لا يحتمل القول بالشيء وكذلك قوله قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد فلو لم يكن يقع عليه اسم الشيء لكان لا يحتمل تضمنه ذلك القول حتى ينسب إليه


وأما العقل فهو أن الشيئية اسم الإثبات لا غير في العرف إذ القول بلا شيء نفى إذا لم يرد به التصغير فثبت أنه اسم الإثبات ونفى التعطيل فإن كان قوم لا يعرفون أن معنى الشيء الإثبات والخروج من التعطيل يتقى عن ذلك بينهم كراهة أن يعتقد قلوبهم معنى مكروها ويقولون بالهستية فإنه أوضح في معنى الإثبات وإن كانا واحدا عند أهل العلم بهذا اللسان






----------------------------------- صفحة 42


مع ما كان القول بلا شيء يستعمل في نفى الحقيقة أو تصغير الثابت فثبت أن القول بالشيء إنما هو في إثبات الذات وتعظيمه والله حقيق لذلك والقول بلا جسم لا يوجب واحدا منهما فكذلك القول بالجسم ليس فيه تثبيت واحد مما يحمد وجوده أو يعظم لذلك اختلفا


وعلى ذلك القول بلا عالم ولا قادر اسم ينفى العظمة والجلال فمثله في العالم والقادر إيجاب الوصف بالعظمة والجلال وبالله التوفيق


فإنه في الشاهد لا يفهم من قول الرجل شيء مائية الذات ولا من قوله عالم وقادر الصفة وإنما يفهم من الأول الوجود والهستية ومن الثاني أنه موصوف لا أن فيه بيان مائية الذات كقول الرجل جسم إنه ذكر مائية أنه ذو أبعاد أو ذو جهات أو محتمل للنهايات وقابل للأعراض وكذا ذا في الإنسان وسائر الأعيان ولا قوة إلا بالله


وبعد فإن القول بهذا كله واجب بما ثبت في السمع التسمية به وبالله التوفيق


قال أبو منصور والأصل في حرف التوحيد أن ابتداءه تشبيه وإنتهاءه توحيد دفعت إلى ذلك الضرورة إذ بالمدرك المفهوم يستدل على ما قصرت الأفهام من إدراك ما عن الأوهام نحو ما يدرك ثواب الآخرة وعقابها بلذات الدنيا والأذيات التي فيها وكذا وصف الله تعالى بالمدرك من خلقه للدلالة والعبارة فقيل عالم وقادر ونحو ذلك إذ في الإمساك عن ذلك تعطيل وفي تحقيق المعنى الموجود في خلقه تشبيه فوصل به لا كالعلماء ونحوه ليجعل نفى التشبيه ضمن الإثبات فهذا فيما ألزمت ضرورة العقل القول به والسمع جميعا فأما ما لا سمع فيه ولا في العقل إحتماله فالتسمية به جرأة عظيمة ولا قوة إلا بالله






----------------------------------- صفحة 43


وجواب آخر أن الشيء ليس باسم لأن لكل اسم خاصيه إذا ذكرت أعلمت مائية الشيء نحو أن يقال ما الجسم فنقول ما له أبعاد ثلاثة وما الإنسان فنذكره حده المعروف في الشاهد من الحي الناطق الميت أي المحتمل لذلك وكذلك كل جوهر له حد يذكر باسم الخاصية له وعلى ذلك عالم قادر لا يذكر خاصيته بحرف يحد ذاته أو يعلم مائيته إنما يذكر ارتفاع الجفاء عنه وتأتي الأشياء له ولا تذكر مائية ذاته فجائز القول بذلك وليس في ذلك حرف التشبيه في مائية الذات فخشي أن يفهم غيرية العلم والقدرة كما هما في الشاهد فقيل لا كغيره ممن ذكر ليعلم أنه بذاته عالم لا بغيره قادر وبالله التوفيق


قال أبو منصور رحمه الله وسئل واحد عن معنى الواحد قال ينصرف على أربعة كل لا يحتمل التضعيف وجزء لا يحتمل التنصيف والذي بينهما يحتمل الوجهين كارتفاعه عما لا يتنصف وانحطاطه عما لا يتضعف إذ لاشيء وراء الكل والرابع هو الذي قام به الثلاثة هو ولا هو هو أخفى من هو والذي انخرس عنه اللسان وانقطع دونه البيان وانحسرت عنه الأوهام وحارت فيه الأفهام فذلك الله رب العالمين


ومن أحب أن يقول في الله بالجسم على التحقق مما بينا من معاني الأجسام التي هي محل الأعراض المحتملة للنهايات ونحو ذلك يجب أن يكلم في معاني خلق الأجسام المشاهدة إن أمكن تثبيته من كل جهة من جهاته من حيث تلك الجهة فالقول به في الله محال فاسد لأنه وصف له بما قام دليل حدثه وإن كان لا يتهيأ إيجابه فحقه التسمية وإن ثبت قيل به وإلا لا ولا وقوة إلا بالله






----------------------------------- صفحة 44


مسألة


في صفة الله تعالى


قال أبو منصور رحمه الله ثم الوصف لله بأنه قادر عالم حي كريم جواد والتسمية بها حق من السمع والعقل جميعا فالسمع ما جاء به القرآن وسائر كتب الله وسمى بالذي ذكرت الرسل والخلائق كل منهم إلا أن قوما وجهوا تلك الأسماء إلى غيره ظنا منهم أن في إثبات الإسم تشابها بينه وبين كل مسمى ولو كان به ذلك لكان بنفى التعطيل ذلك وبنفيه أيضا تشابه بينه وبين ما لا يدخل تحت إسم وهو ما ليس كذلك ولكن قد بينا بعد التشابه لموافقة الإسم فهو مسمى بما سمى به نفسه موصوف بما وصف به نفسه


والعقل يوجب ذلك لأن الله سبحانه إذ ثبت عنه مختلف الخلق بجوهره وصفاته دل أن فعله ليس بفعل الطباع بل هو فعل الإختيار


وأيضا أن اتساق الفعل المتوالي بلا فساد يظهر ولا خروج عن طريق الحكمة يثبت كون المفعول بالإختيار من الفاعل فثبت أن الخلق كان بفعله حقيقة ولا قوة إلا بالله


وأيضا أن الله تعالى إذ أنشأ شيء ثم أفناه وفيه أيضا ما قد أعاده نحو الليل والنهار ثبت أن فعله بالإختيار إذ تحقق به صلاح ما قد أفسده وإعادة ما قد أفناه وإيجاد المعدوم وإعدام الموجود فثبت أن طريق ذلك الإختيار إذ من كان الذي منه يكون بالطبع لا يجئ منه نفى ما يوجد وإيجاد ما يعدمه ولا قوة إلا بالله






----------------------------------- صفحة 45


وأيضا إنا قد بينا حدث العالم لا من شيء وذلك نوع ما لا يبلغه إلا فعل من هو في غاية معنى الإختيار وما يكون بالطبع فحقه الإضطرار ومحال أن يكون من يبلغ شأنه إلى إنشاء الأشياء لا من شيء ثم يكون ذلك بالطبع مع ما كان وقوع الشيء بالطبع هو تحت قهر آخر وجعله بحيث يسقط عنه الإمكان وذلك آية الحدث وأمارة الضعف جل ربنا عن ذلك وتعالى مع ما جرى التعارف المتوارث من الخلق بالدعوات والتضرع إلى الله تعالى بالفرج وأنه قهر كذا ونصر كذا وأعان فلانا وخذل فلانا وأن كل ذي قوة يفعل بقوة أنشأها ولا ينال شيء من ذلك بالمضطر ولا يرغب فيه دل ذلك على أن العالم بإختياره


فإذا ثبت الإختيار ثبتت له القدرة على الخلق والإرادة لكونه على ما هو عليه لأن من لا قدرة له يخرج الذي يكون منه مضطربا فاسدا ولا يملك الشيء وضده فثبت أن ما كان منه بقدرة كان وإختيار وذلك أمارات الفعل الحقيقية في الشاهد الذي هو أصل للعلم بالغائب ولا قوة إلا بالله


وعلى ما ذكرنا من تواصل الفعل أعني الواقع به بالفعل وتتابع محكما متقنا هو الدليل أنه كان فعله على العلم به ولا قوة إلا بالله وأيضا أنه إذ خرج كل الجواهر التي لا يمتحن في مصالح الممتحنين وخلق كل شيء أريد به البقاء مع خلق ما به بقاؤه علم أنه كان بمن يعلم كيفية كل شيء وحاجته وما به القوام والمعاش ولا قوة إلا بالله


وأيضا أن الله سبحانه خلق الخلق خلقا دل على حدثه وعلى أن له محدثا وعلى وحدانية محدثه فلولا أن علم بالخلق يعلم أنه إذا خلق على ما خلق كان فيه دليل العلم به وبخلقه لا يحتمل أن يخرج على ذلك خلقه وبالله التوفيق






----------------------------------- صفحة 46


وعلى ذلك مجئ الرسل بالأمر الذي لو اتبعوا وعملوا بما جاءوا به ما احتمل الخلاف ولا التفريق ولا الفساد لولا علمه أمكنة متفرقة


كذلك قول من قال كان الله ولا خلق ثم كان الخلق بلا تكوين هو غير الخلق كقول من ذكر بلا غير المضاف إليه العالم والله الموفق


على أن قوله قول من نسب إلى الطبائع والأغذية أحق إذ في ذلك إثبات أمر كان به غيرها من قول من يجعل الخلق لله بعد أن لم يكن بلا شيء من الله سوى كون الخلق فيكون للنسبة منهم تحقيق وليس من هؤلاء تحقيق ولا قوة إلا بالله


وكذلك لا يوجد في الشاهد قادر غير ممنوع لا فعل له وقادر على الكلام لا كلام له والشاهد هو دليل الغائب فلزم ذلك فيه وبالله التوفيق


مع ما قد يوصف الخلق بالفساد والشر والقبح والسوء فلو كان لذاته فعل الله لكان بذلك كله موصوفا مسمى فيقال مفسد شرير قبيح الفعل سيء العمل فإذا كان الوصف بهذا والتسمية كفرا ثبت أن الذي سمى به ووصف هو غير هذا وبالله النجاة على ذلك الولاد والطاعة والمعصية والكسب لو كان في الحقيقة له لسمى به ولا قوة إلا بالله


وأيضا أن الله تعالى إذ لم يجز منه الفعل في الأصل ثم جاز فإما أن يكون لا يجوز لنفسه فيجب أن يكون كذلك أبدا أو لغيره وهو الذي عنه السؤال وإذ ثبت أنه لا لنفسه يجوز غير فاعل فهو لنفسه فاعل والله الموفق


وقال بعض من يزعم أن الخلق هو فعل الله في الحقيقة إنه كالصلاة وهي فعل في الحقيقة


قال أبو منصور رحمه الله وذلك وهم إذ ذلك اسم هو اسم لفعله في الحقيقة ثم لم يدل على أن الخلق هو في الحقيقة فعله ليسلم له على أنا قد بينا من حق التسمية به ما يبين إحالة ذلك






----------------------------------- صفحة 47


فإن قيل إذ وصف الله بالتكوين في الأزل لم لا كان المكون قيل لما كون ليكون الأشياء على ما تكون وذلك نحو القول بالقدرة على الأشياء والإرادة لها والعلم بها ليكون كل شيء في وقته والحدث على الذي يكون لا على العلم به وإن كان الذي يكون من بعد في حد الكائن من غير تغير العلم به والقدرة عليه


والأصل أن الله تعالى إذا أطلق الوصف له وصف بما يوصف من الفعل والعلم ونحوه يلزم الوصف به في الأزل وإذا ذكر معه الذي هو تحت وصفه به من المعلوم والمقدور عليه والمراد والمكون يذكر فيه أوقات تلك الأشياء لئلا يتوهم قدم تلك الأشياء ولا قوة إلا بالله


دليل الأول ما سبق له الوصف ودليل الثاني أنه إذا لم يذكر وقت المفعول به يومئ قدم المفعول أو الجهل به في غير وقته وكذلك العجز لأنه إذا قيل هو مكون للساعة يومئ أنه كون ليكون في هذه الساعة وكذلك العلم به والقدرة عليه والإرادة ولا قوة إلا بالله


ولفعل القيامة والفناء معنى آخر إن السائل عنها إن أراد أنه يفعل الساعة لا يخلو من أن يريد جعل هذه الساعة وقتا للقيامة أو لتكوين الله القيامة فالأول محال لما ليست كذلك والثاني فاسد لما فيه جعل الوقت للتكوين وذلك أمارة الحدث


فإن قيل في التكوين ولا مكون إثبات العجز


قيل إنما يكون ذلك لو كان التكوين ليكون لوقت فلم يكن وكذلك في الإرادة والعلم به إذا لم يكن جهل وإضطرار فأما ليكون للوقت الذي يكون فيه فلا على ما بينا من العلم وعلى ذلك السمع والبصر والكرم والجود إنه موصوف بها في الأزل وإن كان ما يسمع ويبصر وما ذكر حادث وعلى ذلك جرى الحدوث ولا بد من ذكر الوقت للمسموع عند ذكر الأمرين فمثله الأول ولا قوة إلا بالله






----------------------------------- صفحة 48


والأصل أن الذي لا يعدو الواقع بفعله وقت الوصف له بالفعل وصف عجز والذي يعدوه ويقع عنده وصف قدرة كمن يكون منه فعل الشيء وضده المتمكن منه أنه أتم من جهة فعله وكذلك من لا يعدو و فعله حيزه هو دون من يقع فعله في كل حيز كذلك وصف الله بالذي ذكرت إذ هو وصف التمام مع ما لا يقع فعل العبد لغير وقته لأنه عن شغله بالفعل يكون وبالآلات والله سبحانه بنفسه يفعل وذلك كما علم سبحانه بذاته وقدر بذاته وكل من سواه بغير الذي ذكرت لولا ذلك لما قام به فعل واللله هو ينشيء من لا شيء لذلك بطل التقدير بالذي قالوا


وعلى مثل ما ذكرت أمر القدرة والإرادة وجميع ما بينا


ودليل آخر أنه يوجد من العبد الفعل المتولد يقع الفراغ بعده بأوقات كالرمى والجنايات يستحق اسم القاتل والجاني والمصيب بعد انقضاء حقيقة فعله فمثله مستقيم من الله وإن كان لا يوصف فعله بالطباع والتولد لما أن خروج أحد الوجهين في الشاهد لم يمنع من تحقيق الفعل فمثله في الغائب وإن لم يكن من ذلك الوجه على ما بينا من إثبات شيء ليس بجسم على جواز القول في الله بالشيء وإن لم يكن عرضا وكل شيء في الشاهد غير جسم فهو عرض بحق الوجود لا أن ذلك اسمه فمثله الأول ولا قوة إلا بالله


وأيضا إن الذي قالوا أمارة العجز إذ لا يقدر العبد على ما لا يتحقق مفعوله معه كما لا يقدر عليه دون استعمال نفسه بالتحريك والتسكين ولا قوة إلا بالله






----------------------------------- صفحة 49


وبعد فإنه لا أحد أبى القول بأنه مأمور منهى في وقته من غير مجئ أمر في هذا الوقت وكذلك الوعد والوعيد فيصير بالمنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم هو للحال مأمورا منهيا ما ينكر أن يكون للحال كائنا بالتكوين في الأزل وكذلك الله سبحانه يوصف بكل كائن أنه عالم به كائنا وإن كان يوصف من قبل بعلمه والكون والحدث كله على الكائن دونه وبالله التوفيق


على أن معنى التكوين وإن كان لا يبلغه فهم البشر لأمكن الأداء بأيسر قول يحتمله من القول ب كن كل شيء على ما علم أنه يكون فيكون به مكونا كل شيء على ما عليه كونه في وقت كونه من غير تكرار وفيه يدخل الأمر كله والنهى والوعد والوعيد ويصير إخبارا عن كائن وعما يكون على اختلاف أحوال الكائنات بأوقاتها وأمكنتها أبدا لكن وسع الخلق لا يحتمل درك التكوين الذي لا يشغل ولا يتعب ولا قوة إلا بالله


وهذا باب لو استقصى فيه لشغل عن بلوغ النهاية عن المقصود ونرجو أن يكون فيما أشرنا إليه مقنع لذى اللب والفهم


مسألة


آراء الكعبي في صفات الذات وصفات الفعل والرد عليها


ونذكر بعض ما ذكر الكعبي لتعلموا مبلغه في معرفة الله والعلم به فيكون في ذلك الإحاطة بمبلغ مذهب الإعتزال إذ هو عندهم إمام أهل الأرض ولا قوة إلا بالله






----------------------------------- صفحة 50


قال ما احتمل اختلاف الحال والشخص فهو صفة الفعل نحو القول يرزق فلانا ويرحم في حال ولا يرحم في حال وكذلك الكلام ومثله في الأشخاص ومثله في القدرة والعلم والحياة لا يحتمل فهو صفة الذات


وقال كل ما يقع عليه القدرة فهو صفة الفعل نحو الرحمة والكلام وما لا يقع عليه فهو صفة الذات نحو أن لا يقال أيقدر أن يعلم أو لا ثم يسأل عن صفة الذات أنه لم لا يجب الوصف بضده قال لأنه يرجع إلى ذاته وذاته غير مختلف وذلك يوجب الإختلاف ثم قال وإذا كان ذاته غير مختلف لم يجز الإختلاف ثم ما بقيت نفسه كالشيء الذي يجب لعلة يدوم بدوامها


قال الشيخ رحمه الله ومن قوله أن ليس لله في الحقيقة صفة وإنما هو وصف الواصف له أو تسمية المسمى وقد وجد الأمران جميعا في وصف الواصفين أنى وصفوه بالعلم والقدرة والفعل على غير اختلاف من حيث الوصف ثم سمى هو في الحقيقة عالما خالقا قادرا في التحقيق فلا وجه لتعريفه من حيث وصف إذ حقيقتهما ترجع إلى ما فيه الوفاق


ثم قد يقال سمع دعاء فلان ولم يسمع دعاء فلان ويقول الرجل ما علم الله ذلك مني ويقول علم مني في وقت كذا ولم يعلم مني في وقت كذا ثم لم يجب به أن السمع والعلم لا يكونان من صفات الذات فما منع كذلك في التكليم والرحمة


فإن قال يريد نفى المعلوم والمسموع


قيل له كذلك في الأول يريد نفى فرعون من بره وإكرامه بذكر نفى الكلام وهو شيء يريد به بره وذلك معروف مما بشر المؤمنين بالكلام وأيأس الكفار وذلك عندنا على ذلك






----------------------------------- صفحة 51


وبعد فإن المسألة ساقطة لأنه علق الحكم بجواز القول وقد بينا المسألة قد عرفنا بما سبق أن لا يجوز أن يوصف الله بحادث ولو جاز ذلك لجاز الوصف بمصلح ومفسد وخير وشرير وذلك باطل فثبت أنه لا بما ظن ولا قوة إلا بالله


وأيضا أن كل غير الصوت لا يتكلم فيه بتسميع وجائز أن يتكلم فيه بعلم ثم لم يجب التفريق بينهما بالإختلاف في حرف الإثبات ولم يوجب في ذاته إختلافا فما منع كذلك في حق النفى ولا قوة إلا بالله


وأيضا أنه لا يجوز وصفى الله تعالى بنفى العدل ثم لم يقل هو صفة الذات عندهم ثبت أن تقديره فاسد


ثم يقال له تعنى بصفة الفعل الفعل نفسه وهو الخلق أهو عندك فعل أو غيره


فإن قال الخلق قيل لم قلت إن الخلق صفة وهو صفة من إذ لا صفة إلا لموصوف


فإن قال هو صفة الله أعظم القول بأن يجعل الخلق لله صفة والخلق فساد وقبيح وضرورة وعجز وأنجاس وخبائث وكل بصفته موصوف وهذه الأوصاف مما يأبى كل من له عقل أن يوصف بها فكيف يوصف بها الله


وإن قال غير الخلق لزمه القول أن المراد أن صفته هي فعل وقد بينا ذلك تعالى الله عن الوصف بخلقه فثبت أن صفته التي هي الفعل هي صفة ذاته






----------------------------------- صفحة 52


وكذلك يقال الله خالق رحمن رحيم فإنما سمى به ذاته فمثله صفة الفعل أي الفعل وتوصف به ذاته وذلك كما يقال كلام حكمة وصدق وكذب على أنه كذلك وهو صفة لصاحبه فمثله يضاف إلى الله


وبعد فإنه يقال له قولك رحمة ومغفرة صفة للفعل ولعنة وشتم أيضا عندك صفة الفعل فما الفعل الذي سمى رحمة ولعنة حتى يوصف الله به


فإن قال جنة ونار وقبول ورد ونحو ذلك بطل قوله في المسائل التي ذكر في الأصلح والتعديل والتجوير إن الله رحيم لا يفعل بعباده ذلك وكل ذلك مما فعل بعباده وإن أثبت معنى سوى ذلك فصارا غير خلقه بهما يوصف على أن قوله يشتم كلام قبيح لا يوصف الله به


ثم يقال له لم اعتبرت بالذي ذكرت في صفة الذات والفعل وقد رأيت صفات الذات مختلفة في الإستعمال من وجه الإثبات نحو أن يقال بالعلم في أشياء لا يوصف بالقدرة فيها وبالقدرة على أشياء لا يوصف بالسمع فيها وبالرؤية في أشياء لا يوصف بالكرم فيها وبالجود وبالحكمة في أشياء لا يوصف بالسمع لها ونحو ذلك مما يكثر الإختلاف به لم يجب بها الفرق بل هو الموصوف بها في الأزل لم لا قلت كذلك في جميع ما يوصف به إذ هو يتعالى عن الإستحالة والفساد إنهما آيتان للحدث أمارتان للكون بعد أن لم يكن


وأيضا يقال له رأيت الخلق أقساما يسمى الله عندك ببعض الخلق ولا يسمى ببعض ثم لم يدل على اختلاف في حق الصفة ما منع كذلك في أمر الصفات وبالله التوفيق


قال الفقيه أبو منصور رحمه الله ثم قوله ما يوصف بالقدرة عليه فليس من صفات الذات فهو عند خصمه لا يوصف بالقدرة على شيء من صفاته إلا على مجاز اللغة من إرادة المفعول في ذلك كما يسمى ما يفعل بالأمر أمرا ونحو ذلك






----------------------------------- صفحة 53


وبعد فإنا قد بينا اختلاف أحوال الصفات في التوسيع والتضييق في أشياء على الإتفاق في أنها صفات الذات فلنقل فيما ذكر كذلك


ثم من مذهبه أن الله تعالى كان غير خالق ولا رحمن وقدر على أن يجعل ذاته خالقا رحمانا ويجوز أن نعبد الرحمن الخالق فيكون على قوله قدر على أن يجعل للخلق معبودا وذلك اسم تقع عليه القدرة فيصير في الحقيقة يعبد غير الله وهو أيضا من وجه هذه الأسماء محدث من حيث كانت مما تقع عليه القدرة


ثم يقال له أيقدر الله أن لايخلق الخلق


فإن قال لا صيره خالقا بالضرورة أو بنفسه وبطل قوله وإن قال يقدر فيلزمه أن يجعل غير المخلوق خلقا بوقوع القدرة عليه وفي ذلك إثبات قدم الخلق ولا قوة إلا بالله


واحتج في حدث الكلام بذكر الإتيان والمجئ وهو من ذلك الوجه محدث وقد بينا أن الله تعالى إذ وصف بالكلام على تعاليه عن إحتمال التغير والزوال فمثله في صفة الكلام والفعل وما ذكرت


على أن الله قد أضاف المجئ إلى نفسه ثم لم يجب أنه حدث بل صرف إلى الوجه الذي يحق بالربوبية فمثله الأول


وكذلك وجب صرف الإتيان إلى الوجه الذي يحق بالربوبية لا إلى ما عرف به الخلق من التغير والزوال فمثله في حقيقة الفعل والكلام على ما قال إبراهيم لا أحب الآفلين ومن يكون على حال ثم على أخرى فهو من الآفلين بالتحقيق والله أعلم






----------------------------------- صفحة 54


واحتج بما يحفظ وقد يحفظ الله وقد يكون ذلك على حفظ حدوده وما اشتمل عليه الكلام وما يضاف إلى الله من الكلام بين الخلق فهو مجاز على الموافقة بما يعرف به الكلام الذي هو صفته وذلك كما ذكرنا من المجئ وغيره والعهد ونصر الرب ونحو ذلك مما لا يحقق ذلك المعنى لذاته فمثله القرآن


وقد احتج بأنواع هو من ذلك الوجه محدث مخلوق من النسخ والسور والآيات ونحو ذلك ومن ذلك الوجه لا يوصف الله به ثم رجع إلى أنه لو قيل هو صفة الذات كالعلم فزعم أنه لا يقول له علم في الحقيقة


قال الفقيه أبو منصور رحمه الله وما قاله فاسد لأنه عورض بقوله صفة الذات فليقل به كما قلت في العالم بلا حقيقة وكذا السمع ونحوه ونحن قد بينا بحمد الله ما يكفى ذا العقل دونه


ثم عارض الكلام بالفعل ولا فرق بينهما عند خصمه ثم عارض بما لا يخلو في الشاهد من يجوز منه الكلام يجوز منه خرس أو سكوت وقد أخطأ في السؤال إنما هو من عجز أو سكوت وعارض بالفعل وهو كذلك عند الخصم مع ما ذكر فيه الفعل والترك وما الترك إلا الفعل لكن الحيرة تعمل به ما ذكر ثم عارض بالصبي أنه ليس بأخرس وقد بينا أنه يعجز عن ذلك مع ما كان من عظم الجزئية أن لا يجد لنفسه مثلا يعرف به الرب إلا الصبيان والمجانين ولا قوة إلا بالله


وأجاب لما عورض بما لا يخلو القادر مما له القدرة من فعل وكلام به في






----------------------------------- صفحة 55


حال حدوث القدرة من فعل وذلك جهل المعتزلة جعله دليلا فبورك له في توحيده الذي ذلك دليله


قال أبو منصور رحمه الله والأصل في ذلك أن الوصف بالكلام والعلم والفعل الحمد عليه إنما هو وصف بالبراءة من الآفات والتعالى عن العيوب وهو كذلك في الأزل مع ما لو كان بغيره خالقا رحمانا متكلما يجوز أن يصير لا كذلك والقول بيا من ليس برحمن ولا رحيم ولا خالق قول ذم وإلحاق بغيره من الخلائق ثبت أنه بذاته رحمن رحيم خالق ولا قوة إلا بالله


على أنه لو كان يسمى بما يحل في غيره ليجب أن يسمى بكل شيء يحل في غيره مع ما لو جاز ذلك لجاز أن يكون أحد يحتمل مثله في الشاهد وفي امتناع ذلك في محتمل التغير وصف له بالعلو عن ذلك والله الموفق


ثم قال يريد بصفات أن لا يثبت ثمة غير ولم يرد أنها ذاته بل كل صفة لقديم أو حديث فهي غيره وهي قول أو كتاب وصفات الله هي قولنا الذي نصفه أو قوله وكتابه وهما محدثان


قال أبو منصور رضي الله عنه ذكرت جملة قوله الذي به ختم مسألته لتعلموا مبلغ علمه بالله ثم بالصفات مرة قال لا يثبت ثمة غير ولا يريد أنها هو فإذا لم يرد بالصفات هو ولا غيره أما يعلم أنه قول أهل الإثبات ثم قال هو قولنا فقولنا هي ليست غيره حتى نقول ليس ثمة غير ثم ذكر أن صفات الله هي ما ذكر وقال هي صفات الذات فإذا ما ذكر هي صفات الذات وهو لم يزل بها موصوفا وهي أغيار له جل ربنا عما يصفه المبطلون






----------------------------------- صفحة 56


ثم قال فإن قيل لم لا جعلتم الرحمة صفة في الحقيقة دون أن يقول رحيم فزعم أن رحيم صفة دون الرحمة إذ كل من فعل صفة الشيء فقد وصفه كمن يشتم آخر أو يسوده أنه شتمه وسوده فكذلك خلق الرحمة ولا يجوز أن يوصف بها إذ خلقها حتى يقول إني رحيم فبذلك علمنا أن الصفة قوله إنه رحيم


قال أبو منصور رحمه الله ما أعرف هذا التائه بالصفات حتى يشرع في تفسير صفات الله جل الله عن مثل هذا المتحير الخيال وتعالى ولو كانت الصفة في الحقيقة وصف الواصف ليبطل قول الخلق بأن الخلق أعيان وصفات ويبطل قوله في الإجتماع والتفرق والحركة والسكون التي لا تخلو الأعيان عنها في إثبات حديها إذ هي تخلو عن وصف واصف لها فثبت أنها صفات تلزم الأعيان لا ما ذكر ولا قوة إلا بالله


ثم نتم هذاالنوع من حماقته لتحمدوا الله معاشر إخواني على ما أكرمكم الله بمعرفته ولتعلموا عظيم مقت الله على من زعم أنه قد استوعب جميع ما عند الله من المصالح له في الدين حتى لو أراد الله أن يزيد له شيئا لا يملكه مما به صلاحه لا يقدر عليه بل به يفسد لتتبينوا أنه جعل خذلانه صلاحا في الدين وإضلاله نعمة من نعم الرب جل ثناؤه


قال لم نقل إن الله إذا خلق الحمرة في الثوب أنه جعل له صفة ولو كانت الحمرة صفة له جاز أن يقال إذ خلقها الله وصف الثوب بها ومثله في الحركة السكون وكذا من يكتب إلى آخر يصف طوله يجوز أن يقال وصفه لنا في كتابه زعم أن هذا واضح






----------------------------------- صفحة 57


ثم قال إنا لا ننكر جواز إطلاق القول بأن الحمرة صفة الأحمر والرحمة صفة الفعل لكن على المجاز والحقيقة ما ذكرت


ثم عورض بأنه يجوز إذا أن يكون للصفة صفة


قال نعم بمعنى أنها توصف لكن ذلك إنما يوجد ما دام الواصف به قائلا فإذا أمسك لا


قال الفقيه رحمه الله تأملوا عظيم منزلة المعتزلة بهذا الذي هذا مبلغ علمه بالصفة والموصوف والمجاز والحقيقة مما لو قرن به أجهل أهل توحيد الله لاستعظمه ثم يقدم قومه يوم القيامة فيوردهم المورد الذي هذا وصف سبيله نسأل الله العصمة


قال أبو منصور رحمه الله الأصل أن الله عز وجل قد ثبت وصفه بالكلام بحجة السمع والعقل فالسمع قوله وكلم الله موسى تكليما ذكره بالمصدر مع غير تمانع بين الخلق بكلام الله وقد وجد الإتفاق على أنه متكلم وأن له كلاما في الحقيقة وإن اختلفت الآراء في مائيته ولا أنكر على الذين قالوا يكلمنا الله إلا بوصف التكبر والجهل بمنزلة أنفسهم وكذلك قوله وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله


وأما العقل إن كل عالم قادر لا يتكلم فعن آفة يكون من عجز أو منع والله عنه متعال ثبت أنه متكلم على أن الذي لا يتكلم في الشاهد إنما لا يتكلم بالمعنى الذي لايسمع ولا يبصر من الآفة والله منزه عن المعنى الذي يقتضى الصمم والعمى وكذلك البكم وهو أولى إذ هو أجل ما يحمد به






----------------------------------- صفحة 58


في الشاهد وبه ينفصل البشر من سائر الحيوان مع ما كان كل محتمل الكلام فعن عجز لا يتكلم أو عن سكوت


ثم لا يخلو من أن يكون على تقدير كلام غيره فيكون فيه تشابه ودل قوله ليس كمثله شيء على نفى الشبه له في الصفة والذات وأيد ذا قوله خلقوا كلخقه دل أن شبه الفعل يوجب التشابه مع القول أن الخلق لو اجتمع لا يأتون بمثله فانتفى الشبه إذ فيه تماثل فثبت له الخلافية لكلام الخلق جميعا على ما ثبت لذاته مع ما لم يمتحن جميع كلام الخلق ليدرك منتهى معانيه وقد ذكر كلام النمل والهدهد وتسبيح الجبال وغيرها مما لا يفهم شيء من ذلك بالحروف المعجمة ولا على المفهوم من كلام البشر


وإذ ثبت أن من الكلام ما لا يبلغ تقديره وسع الخلق ولا يبلغه فهم فمن أحب تقدير كلام الرب بذلك فهو مغفل وكذلك فعله تعالى خارج عن وصف فعل الخلق وفي ثبوت الخلافية من جميع الوجوه نفى الحدثية لما به يقع الوفاق وبطل معنى الأعراض والتفرق والإجتماع والحد والغاية والزيادة والنقصان إذ ذلك وصف كلام الخلق والله الموفق


ثم لا يخلو من أن يكون غيره فيزول عنه ما ذكرنا من الآفة بغيره وذلك علم الحاجة وأمارة الحدث أو ليس غيره فيكون بنفسه متكلما قادرا عالما وبالله التوفيق


ويجوز القول بما يسمع من الخلق كلام الله على الموافقة كما يقال في الرسائل والقصائد والأقاويل دليله أن ذلك خلق من الخلق ولا يحتمل أن






----------------------------------- صفحة 59


يكون الله بذاته متكلما مع ما لا يخلو أن يكون المسموع عرضا فمحال كونه في مكانين وكذلك الجسم أو لا هما فمحال كونه في مكان وعن المكان يسمع فثبت أن وجه الإضافة إليه على ما ذكرنا مع ما يجوز أن يسمعنا الله كلامه بما ليس بكلامه كما أسمع كل منا الآخر كلامه وإن لم يكن ذلك بعينه كلامه وكما أعلمنا قدرته وعلمه وربوبيته بخلقه وإن لم يكن هو هو وبالله التوفيق


فإن قال قائل هل أسمع الله كلامه موسى حيث قال وكلم الله موسى تكليما قيل أسمعه بلسان موسى وبحروف خلقها وصوت أنشأه فهو أسمعه ما ليس بمخلوق


والقول بالوقف يخرج على وجهين أحدهما أن يقال ليس هو الله ولا غيره فيكون وقفا عن علم وهو حق على ما ثبت في العلم والقدرة والثاني أن يكون لا يعلم أخلق هو أو غيره فإنه بعيد لما لا يخلو من أن يذهب مذهب التقليد وأكثر القوم على نفى ذلك بل أجمع على لزوم العلم أنه الخلق أو غيره


وبعد فإنه لا يعدو من أن يعلم أنه بذاته متكلم فيكون بمعنى ما ذكرت أو لا بذاته فهو غيره وكل الأغيار لله خلق على ما روى فيه سمع أو لا ثبت أن القول بالغيرية لله يوجب الحدث والحدث والخلق إذ هو منه أو لا يعلم أنه بذاته متكلم أو لا فيكون الوقف وقفا للجهل به فحق مثله التعلم لأنه لا دليل دفعه إلى ذلك القول ليتكلم فيه إنما هو الجهل أو أن يكون الوقف بما لا يعلم مراد السائل فيه أنه ما يعنى بكلام الله والقرآن أهو هذا المتبعض المتجزئ أو الذي لا يوصف بشيء من ذلك وذلك على الوصف الذي بينا فهو حق أن لا يجيب لأحد يسأله عن كلام متوجه حتى يعلم ما يريد به والله أعلم






----------------------------------- صفحة 60
مسألة مناقشة قول الكعبي في أن أفعال الله باختيار


وقال الكعبي أفعال الله باختيار لأن المطبوع يكون فعله نوعا


قال أبو منصور رحمه الله وما قاله حسن وذلك مذهب أهل التوحيد لكنه لا معنى له على مذهبه لما يقال الخلق اختياره أو غيره وكذلك ما يقال في أفعاله فإن قال اختياره فمعنى أفعاله إذا اختياره فالقول بأن أفعال الله باختيار خطأ بل هو اختيار ولا غير هنالك ليقال الذي قال وإن قال غير فإما أن يكون فعله فيجب أن يكون باختيار إلى ما لا نهاية له وذلك محال لأن الخلق متناه أو هو فعل بلا اختيار فيبطل قوله


وذلك يلزم من يصف الله بالإرادة في الأزل وهي اختيار كون شيء في وقته


ثم الدلالة عندنا على الأختيار خروج الخلق على تفاوت مائيته على ما فيه من الحكمة والدلالة على وحدانية الله فدل ذلك على اختيار كون كل شيء على ما هو عليه ولا قوة إلا بالله


ثم من يقول بخروج الخلق على ما عليه بالطبائع والأغذية ومن يقول ذلك عمل النجم والشمس والقمر ومن يقول ذلك بدوران الفلك ومن يقول في التوالد بتدبير الآباء والأمهات يرجع كله إلى كون شيء بشيء إذا لم يثبت له أولية يبطل بالأدلة التي مر ذكرها وإذا ثبت له أو لكل جنس من ذلك أولية ثم استحال كونه بنفسه لما يوجد نفسه إما حين عدمه وذلك محال أن يوجد عديما مع ما إذ رجع إليه تدبير كل شيء لا يحتمل أن يبلغه






----------------------------------- صفحة 61


العديم فإنه لو جاز أن يوجد نفسه لجاز في ذلك الوقت أن يعدمه وذلك متناقض أو بعد الوجود فثبت الوجود بغيره وبالله التوفيق


وأيضا أن جميع ما يذكر إنما هو نوع الموات إلا من ذكر من الآباء والأمهات مما يعلمون أن تدبيرهم لا يبلغ مبادي الأولاد وأنهم يكونون على غير ما يأملون وأنهم لو فسدوا لا يمكن إصلاحهم وأن وسعهم لا يبلغ ما استتر من الأشياء فضلا من تقديرها هنالك وغير ذلك من الوجوه التي يبطل كون ذلك بهم ونوع الموات غير عالم بما فيه من المنافع ولا بالذي يحتمل منهم منع ذلك ثبت أن الذي يكون بالإغتذاء وبالطبائع إنما كان ذلك فيهم بجعل حكيم عليم جعل كل شيء على ما عليه من النفع والضرر


على أنه في الحيوان معان ليس في شيء مما وصف آثار ذلك من نحو السمع والبصر وبخاصة في البشر من نحو النطق والميز والوقوف على أشياء مع ما كان ذلك في أول الأحوال غير كائن ولا يربى إلا بأغذية الآباء والأمهات ثم لم يؤثر ذلك فيهم فكيف في الأولاد


وبعد فإن كل شيء له حد إذا بلغ ذلك الحد لا يزداد له طول ولا عرض ولا سمع ولا بصر ولا عقل بل يأخذ كل شيء من ذلك بالإنتقاص على قيام الأغذية ودوام التربية عقل أن ذلك كذلك لا بما ذكر ولكن بمن هو عالم بذاته حتى لا يعزب عنه شيء قادر بنفسه فلا يعجزه شيء جل ثناؤه


وأيضا أنه ما من شيء مما ذكر من أنواع الجواهر إلا وقد يحتمل الإفساد والإصلاح جميعا وذلك أيضا كله متضاد متدافع لا يحتمل الإجتماع للتعاون ثبت أنها كانت على ما عليه بغيرها إذ كل شيء على جهة بنفسه لا يحتمل التغير ما دامت نفسه وبالله العصمة


وأيضا أن كل حي فيما يعاين مبنى على الحاجات والشهوات التي تغلبهم






----------------------------------- صفحة 62


وتقهرهم ولولا ذلك ما احتاجوا إلى الأغذية ثم كانت هي أسبابا عند وجودها للغنا لم يحتمل أن يكون منها تهيج الشهوات وحدوث الحاجات ولا يجوز أن تكون لأنفسها شهوات وحاجات لأوجه أحدها أن القيام بالذات دون الغير دليل الغنا لا يجوز أن يصير حاجة ولأن ما كان لذاته على جهة لا يحتمل زواله وقد يقع لها الغنا بالغير أو للإحالة أن يكون الشيء من حيث نفسه محوجا إلى غير بل إذا أحوج إلى غير من حيث نفسه بدوم الحاجة ما بقيت نفسه فثبت أن هنالك غير أنشأهم على الحاجات وركب فيهم الشهوات ثم أنشأ لهم ما به الغنا وقضاء الشهوات فيكون بما أريد به نفى المدبر العالم تثبيته ولا قوة إلا بالله


مع ما لا يوجد شيء من أعيان العالم وصفاتها إلا مسخرا مذللا بما لولا ذلك كان أهون عليه وألذ نحو القرار الدائم والسير المتتابع مما كان به معاش أحد وما له المعاش فصار العالم بكليته بالمعنى الذي ذكرت ولا يجوز أن يكون المسخر المذلل بملك التدبير حتى يكون به غنى الغير وقيامه ولا يملك إزالة الذلة عن نفسه والسخرة ثبت أن لكل ذلك مدبرا عليما علم وجوه حاجاتهم وغناهم فخلقهم على ذلك مع ما أحوج بعضنا إلى بعض في القيام والبقاء على جهل كل منهم بالوجه الذي أحوج إلى غيره وعجزه عن صرف وجه الحاجة عن نفسه ثبت أن لذلك كله مدبرا عليما على تدبيره جرى أمرهم


وبعد لو خلى بين أعقل الخلق وأعظمهم تدبيرا وبين تقدير أحواله وأفعاله من الزمان والمكان فيما لطف منها لما احتمل وسعهم فمن دونه أحق ثم لا يملك أحد منهم صرف قهر الزمان عن نفسه ولا إحاطة المكان ثبت أن العالم على ما هو عليه لا يجوز كونه به دون خارج من معناه في إحاطة الحاجة به بل بالقيام بذاته عالما قادرا ولا قوة إلا بالله


ثم من يقول بقدم طينة العالم فأما إن كانت من جوهر هذه المعاني فيلحقها






----------------------------------- صفحة 63


ما يلحق العالم ويظهر جوهرها عجزها وحاجاتها وهما دليلا حدث العالم وكونه بغيره فيلزم فيها ما يلزم في غيرها أو كانت خارجة من هذا الجوهر غنية قوية لا تمسها الحاجات ولا يعترضها الشهوات الباعثة على الحيل المفزعة إلى غير به تأمل غناها وقوتها فأما إن كان العالم بها بأن اعترضت بها العوارض وانقلبت بجوهرها عما كانت عليه فصارت إلى هذه الحاجات والشهوات فصارت بجوهرها محتملة لكل حاجة محتملة لكل شهوة متمكنة للإستحالة والتغير فيبطل عنها جميع أوصاف الغنى والقوة وصارت أصل الحاجات وأم الشهوات فلزم إنصراف تدبيرها إلى حكيم عليم على ما لزم ذلك في جميع العالم أو كانت هي بحالها لكن العالم كان فيها بقوة ظهر بالفعل وذلك هو قول أصحاب الهيولي ثم دل تلف جميع ما في العالم من كون شيء في شيء بالقوة إذا خرج منه بالفعل نحو ما يقولون من كون النسمة في النطفة وكل حيوان في النطف أو البيض والعصف في الحب والشجر في النواة وكذلك كل الجواهر ومثله عندهم البقاء في الأغذية والنماء ونحو ذلك فيجب أن يكون أمر الطينة التي قالوا بها وأمر الهيولى كذلك إذ هما الأصل لجميع العالم


وكذلك يلزم القرامطة في قولهم إن المبدع الأول فيه جميع العالم مبروزا






----------------------------------- صفحة 64


تستمد منه النفس الكل فيمد الهيولى ومنه تركيب العالم أن يتلف الأول إذ هذا حق كل شيء في شيء بالقوة يظهر بالفعل


وقد صيروا جميعا الوجود للحال دليل الأولية لكن الأول جوهر الكل والثاني جوهر الجزء وقد صار جوهر الكل معروفا بجوهر الجزء إذ ليس مما يبلغه أحد بالحس وبالله التوفيق


وإذا ثبت هذا ثبت جميع ما بينا من الحوادث والحاجات التي هي الأدلة للحدث لذلك الأصل إذ صار محتملا للتلف والفناء وذلك أيضا يلزم القرامطة يجعلونه أبديا وإن كانوا يقولون كان بعد أن لم يكن بالإبداع ولا قوة إلا بالله


ودليل الجهل ممن فيه ما فيه بالقوة بأحوال ما فيه ومن فيه وما يكون منه كما ذكرت من جهل النطف والحبوب وغيرها فيلزم كذلك في الهيولى والطينة وما قالوا ولزم أن ليس لما قالوا تدبير ولا كان شيء من ذلك به ولكن إن كان فهو بمن علم ما يكون فيجعل أصله مبروزا فيه بالقوة يظهر بالفعل بما جعل له من المواد والأمكنة التي بها تنمو


في ذلك القول بالتوحيد وأنه منشئ ذلك كله ليكون به كل شيء يكون على ما قالوا أو أن يكون محدثا لكل شيء يكون أبدا على ما يشاء أن يكون من أصول وإبتداء أو كيف شاء على ما يقوله أهل التوحيد وإذ الله سبحانه قادر على إنشاء أصل فيه كل شيء مبروزا هو قادر على إبتداء كل شيء كما شاء من غير بروز بالقوة ولا خروج بالفعل ولكن بالتقدير والتكوين وإن زعموا أن الأشياء كانت في الأصل مستجنة بجوهرها فيظهر بالفعل فهي أيضا ترجع إلى ما قلنا لأن ذلك قولهم في النطف والحبوب مع ما في هذا مما في العقل دفعه بما لا يحتمل تمكن أضعاف الشيء بجوهره فيه للتناقض والفساد وتكذيب العيان






----------------------------------- صفحة 65


أو أن يكون ذلك الأصل الذي سموه طينة أو هيولى أو مبدعا أو نفس الكل يملك إنشاء العالم لا بأن كان فيه ولكن بالفعل والتكوين على ما شاء كيف شاء لا مرد لحكمه ولا نقيض على تدبيره فهو قول أهل التوحيد لكنهم سموا بأسماء غير الأسماء التي هي أسماء منشئ العالم عند أهل التوحيد ومبدعه ولا قوة إلا بالله
مسألة في أسماء الله عز وجل


قال أبو منصور رحمه الله القول في أسماء الله عز وجل عندنا على أقسام في مفهوم اللغة قسم منها يرجع إلى تسميتنا له بها وهن أغيار لأن قولنا عليم غير قولنا قدير وعلى هذا المروى إن لله تعالى كذا وكذا إسما وذلك نحو ما ذكر من خلق كذا وكذا رحمة لا أنه كان رحيما بتلك الرحمة المخلوقة إذ لا يحتمل أن يكون في أول خلقه غير رحيم أو كان كذلك غير رحيم حتى خلق تلك الرحمة وجعل واحدة بين خلقه ولكن بما كانت برحمته سميت به وكذلك اسم الجنة والمطر ونحوه وعلى ذلك قيل في العبارات هي أمره وإنما كانت به لا أنها هو ومثله يتكلم بعلمه وقدرته على إرادة معلومه ومقدوره إذ ذلك سببه فمثله الأول ولا قوة إلا بالله


والثاني يرجع معناه إلى ذاته مما عجز الخلق عن الوقوف على مراد ذاته إلا به وإن كان يتعالى عن الحروف التي بها يفهم وذلك أيضا يختلف بإختلاف الألسن على إرادة حقيقة ذاته به وذلك نحو الواحد الله الرحمن الموجود والقديم والمعبود ونحو ذلك


والثالث يرجع إلى الإشتقاق عن الصفات من نحو العالم القادر مما لو كانت






----------------------------------- صفحة 66


في التحقيق غيره لاحتمل التبديل ولصارت التسمية على غير تحقيق المعنى المفهوم ولجازت تسميته بكل ما يسمى غيره إذا لم يرد تحقيق المفهوم من معناه ولا قوة إلا بالله


مع ما يسأل من يجعل هذه الأسماء حادثة ثم لا تحقق لله علما في الأزل إذ كيف كان أمره قبل الخلق أكان يعلم ذاته أو ما يفعل أو لا وكذلك أكان يعلم ذاته شيئا أو لا يعلمها فإن كان لا يعلمها فهو إذا جاهل حتى أحدث العلم له فصار به عالما وإن كان يعلمها فإذا بعلم ذاته عالما أو لا فإن كان بعلم ذاته عالما فلزم القول بهذا الإسم في الأزل وفي غيرية الإسم فساد التوحيد


والأصل على قول منكري الصفات إذ لم يكن له هذا الإسم ولم يكن له صفة هي علم يعلم ذاته في الأزل يجب ما قاله جهم بنفى الأسماء والصفات وحدثها فيكون غير عالم ولا قادر ثم علم جل الله عن ذلك وتعالى


ثم يسأل كيف كان إن علم أنه كان كذلك في الأزل فيلزمه الإسم كذلك أو علم أنه لم يكن فيلحقه إسم الجهل وهو بقولهم لازم لأن تأويل العالم عندهم نفى الجهل فإذا لم يكن عالما في القديم فهو إذا عند ذلك كان جاهلا ولا قوة إلا بالله


بم يكلم في العلم إذ لم يكن حتى كان إن حدث فيجب ذلك في كل شيء مع ما يقال كيف حدث به ولم يكن له قدرة أو بغيره فيبطل به توحيدهم






----------------------------------- صفحة 67


ثم يقال له في الفصل الذي ذكرت إنه كان يعلم ذاته قبل الخلق أو لم يكن له علم في الحقيقة كيف كان يعلم ذاته فإن كان بعلم ذاته عالما بطل قوله بحدث الإسم وإن قال غير عالم ولا قادر عليه دخل عليه جميع ما ذكرت مع إحالة الوصف له بالعلم به في الأزل مع فساد ما بينا في الحدث وإن قال من بعد بغيره رآه ممن يعترض فيه العوارض به تكون العالم وفي ذلك موافقة الدهرية في الطينة وأصحاب الهيولي والثنوية في كون العالم بإعتراض العوارض في الأصل ولا قوة إلا بالله


وهذه المسألة هي مسألة الصفات في التحقيق وقد بينا ذلك
مسألة بيان العرش


قال أبو منصور رضي الله عنه ثم اختلف أهل الإسلام في القول بالمكان فمنهم من زعم أنه يوصف بأنه على العرش مستو والعرش عندهم السرير المحمول بالملائكة المحفوف بهم ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية وقوله وترى الملائكة حافين من حول العرش وقوله الذين يحملون العرش ومن حوله واحتجوا للقول به بقوله الرحمن على العرش استوى






----------------------------------- صفحة 68


ويرفع الناس إلى السماء بالدعوات أيديهم وما يأملون من الخيرات ويقولون هو صار إليه بعد أن لم يكن لقوله ثم استوى على العرش


ومنهم من يقول هو بكل مكان بقوله ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم وقوله ونحن أقرب إليه من حبل الوريد وقوله ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون وقوله وهو الذي في السماء إله وفي الأرض وظنوا أن القول بأنه في مكان دون مكان يوجب الحد وكل ذى حد مقصر عما هو أعظم منه وذلك عيب وآفة وفي ذلك إيجاب الحاجة إلى المكان مع ما فيه إيجاب الحد إذ لا يحتمل أن يكون أعظم من المكان لما هو سخف في المتعارف أن يختار احد مكانا لا يسعه فيصير حد المكان حده جل ربنا عن ذلك وتعالى


ومنهم من قال بنفى الوصف بالمكان وكذلك بالأمكنة كلها إلا على مجاز اللغة بمعنى الحافظ لها والقائم بها


قال الشيخ أبو منصور رحمه الله وجملة ذلك أن إضافة كلية الأشياء إليه وإضافته عز وجل إليها يخرج مخرج الوصف له بالعلو والرفعة ومخرج التعظيم له والجلال كقوله له ملك السماوات والأرض رب السماوات والأرض إله الخلق رب العالمين وفوق كل شيء ونحوه وإضافة الخاص إليه يخرج






----------------------------------- صفحة 69


مخرج الإختصاص له بالكرامة والمنزلة والتفضيل له على من هو بجوهره نحو قوله إن الله مع الذين اتقوا وقوله إن المساجد لله ناقة الله بيت الله وغير ذلك ولا يخرج شيء من ذلك على مثل المفهوم من إضافة الخلق بعضهم إلى بعض لا قطع إحتمال مثله في الخلق إذ قد تخرج أيضا إضافة التخصيص مخرج التفضيل والعموم مخرج فضل السلطان والولاية


قال أبو منصور رحمه الله الأصل فيه أن الله سبحانه كان ولا مكان وجائز ارتفاع الأمكنة وبقاؤه على ما كان فهو على ما كان وكان على ما عليه الآن جل عن التغير والزوال والإستحالة والبطلان إذ ذلك أمارات الحدث التي بها عرف حدث العالم ودلالة إحتمال الفناء إذ لا فرق بين الزوال من حال إلى حال ليعلم أن حاله الأولى لم تكن لذاته إذ لا يحتمل زوال ما لزم ذاته وبين أنها ليست لذاته لما احتمل هو قبول الأعراض وانتقال الأحوال ولا قوة إلا بالله


وبعد فإن في تحقيق المكان له والوصف له بذاته في كل مكان تمكين الحاجة له إلى ما به قراره على مثل جميع الأجسام والأعراض التي قامت بالأمكنة وفيها تقلبت وقرت على خروج جملتها عن الوصف بالمكان فمن أنشأها وأمسك كليتها لا بمكان يتعالى عن الحاجة إلى مكان أو الوصف بما عليه العالم أن كليته لا في مكان وأنه بجزئياته في المكان


ثم إن الله تعالى لو جعل في مكان لجعل بحق الجزئية من العالم وذلك أثر النقصان بل لما استقام قيام جميع العالم لا بالأمكنة للجملة فقيمه على ذلك أحق وأولى ولا قوة إلا بالله






----------------------------------- صفحة 70


قال أبو منصور رحمه الله ثم القول بالكون على العرش وهو موضع بمعنى كونه بذاته أو في كل الأمكنة لا يعدو من إحاطة ذلك به أو الإستواء به أو مجاوزته عنه وإحاطته به فإن كان الأول فهو إذا محدود به محاط منقوص عن الخلق إذ هو دونه ولو جاز الوصف له بذاته بما يحيط به من الأمكنة لجاز بما يحيط به من الأوقات فيصير متناهيا بذاته مقصرا عن خلقه وإن كان على الوجه الثاني فلو زيد على الخلق لا ينقص أيضا وفيه ما في الأول وإن كان على الوجه الثالث فهو الأمر المكروه الدال على الحاجة وعلى التقصير من أن ينشئ ما لا يفضل عنه مع ما يذم ذا من فعل الملوك أن لا يفضل عنهم من المعامد شيئا


وبعد فإن في ذلك تجزئة بما كان بعضه في ذي أبعاض وبعضه يفضل عن ذلك وذلك كله وصف الخلائق والله يتعالى عن ذلك


وبعد فإنه ليس في الإرتفاع إلى ما يعلو من المكان للجلوس أو القيام شرف ولا علو ولا وصف بالعظمة والكبرياء كمن يعلو السطوح أو الجبال إنه لا يستحق الرفعة على من دونه عند إستواء الجوهر فلا يجوز صرف تأويل الآية إليه مع ما فيها ذكر العظمة والجلال إذ ذكر في قوله تعالى إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض فدلك على تعظيم العرش أي شيء كان من نور أو جوهر لا يبلغه علم الخلق وقد روى عن نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه وصف الشمس أن جبريل يأتيها بكف من ضوء العرش فيلبسها كما يلبس أحدكم قميصه كل يوم تطلع وذكر في القمر كفا من نور العرش فإضافة الإستواء إليه لوجهين أحدهما على تعظيمه بما ذكره على أثر ذكر سلطانه في ربوبيته وخلقه ما ذكر والثاني على تخصيصه بالذكر بما هو أعظم الخلق وأجله على المعروف من إضافة الأمور العظيمة إلى أعظم الأشياء كما يقال تم لفلان ملك بلد كذا واستوى






----------------------------------- صفحة 71


على موضع كذا لا على خصوص ذلك في الحق ولكن معلوم أن من له ملك ذلك فما دونه أحق وعلى ذلك قوله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم بما صارت له أم القرى وأيس الذين كفروا من دينهم وكذا ما ذكر من إرسال الرسل إلى الفراعنه وإلى أم القرى لا يتخصص ذلك ولكن بذكر عظم الأمر فمثله أمر العرش وهو كقوله أكابر مجرميها وقوله أمرنا مترفيها على لحوق غير بهم ويحتمل أن يكون على المنفى بوصف المكان إذ هو أعلى الأمكنة عند الخلق ولا تقدر العقول فوقه شيئا فأشار إليه ليعلم علوه عن الأمكنة وتعاليه عن الحاجة وعلى ذلك قوله ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم والنجوى ليس من نوع ما يضاف إلى المكان ولكن يضاف إلى الأفراد فأخبر بعلوه عن الأمكنة وتعاليه عن أن يخفى عليه شيء ثم بقدرته بقوله ونحن أقرب إليه من حبل الوريد أي بالسلطان والقوة وبألوهيته في البقاع كلها لأنها أمكنة العبادة وبقوله وهو الذي في السماء إله ويملك كل شيء بقوله له ملك السماوات والأرض ثم بعلوه وجلاله بقوله وهو القاهر فوق عباده وقوله وهو بكل شيء عليم






----------------------------------- صفحة 72


وقوله وهو على كل شيء قدير فجمع في هذه الأحرف ما فرق في تلك ليعلم أنه بكل ما سمى به ووصف كان ذلك له بذاته لا بشيء من خلقه وكذلك عزه وشرفه ومجده جل ثناؤه عن الأشباه ولا إله غيره


وقال بعضهم يريد بالعرش الملك إذ هو اسم ما ارتفع من الأشياء وعلا حتى سمى به السطوح ورؤوس الأشجار والإستواء قيل فيه بأوجه ثلاثة أحدها الإستيلاء كما يقال استوى فلان على كورة كذا بمعنى استولى عليها والثاني العلو والإرتفاع كقوله فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك والثالث التمام كقوله تعالى ولما بلغ أشده واستوى وقد قيل بالقصد إلى ذلك وجه بعض أهل الأدب قوله ثم استوى إلى السماء بمعنى خلق على التمثيل بفعل الخلق فيما يتلو فعلهم أن يكون بالقصد وإن كان لا يقال له قصد ولا قوة إلا بالله


قال الشاعر ... ظننت أن عرشك لا يزول ولا يغير ...


وقال آخر ... إذا ما بنوا مروان ثلث عروشهم ... وأودوا كما أودت إياد وحمير ...


وقال النابغة ... عروش تفانوا بعد عز وأنهم ... هووا بعد ما نالوا السلامة والغنى






----------------------------------- صفحة 73


وقال آخر ... بعد ابن جفنة وابن ماثل عرشه ... والحاربين تؤملون فلاحا ...


قال أبو منصور رحمه الله ثم الوجه في ذلك لو كان على الإستيلاء والعرش الملك إنه مستول على جميع خلقه وعلى هذا التأويل المحمول غير هذا يدل على الأمرين قوله تعالى وهو رب العرش العظيم بمعنى الملك العظيم وفيه إثبات عروش غيره فذلك يحتمل ما يحمل ويحف به الملائكة والله الموفق


وأما على التمام والعلو فهو أن الله تعالى قال قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين إلى قوله فقضاهن سبع سماوات فأخبر بخلق ما ذكر في ستة أيام على التفاريق ثم أجملها في موضع فقال إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش بمعنى خلق الممتحن من خلق الأرض والسماوات فبهم ظهر تمام الملك وعلا وارتفع إذ هم المقصودون من خلق ما بينا فبذلك تم معنى الملك وعلا إذا وصل إلى الذين لهم وقد قيل ذا في خلق البشر خاصة بقوله هو الذي خلق لكم ما في الأرض وقوله وسخر لكم الليل والنهار وقوله وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وذكر ابن عباس رضي الله عنه أن البشر خلق






----------------------------------- صفحة 74


اليوم السابع فيه التمام والعلو إذ خلق لهم كل شيء وهم لعبادة الله ولحق بهم الجن بقوله وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون لكن المقصود البشر إذ تسخير ما ذكرت كله لهم ثم بما يرجع إلى منافعهم والله الموفق


قال أبو منصور رحمه الله وأما الأصل عندنا في ذلك أن الله تعالى قال ليس كمثله شيء فنفى عن نفسه شبه خلقه وقد بينا أنه في فعله وصفته متعال عن الأشباه فيجب القول بالرحمن على العرش استوى على ما جاء به التنزيل وثبت ذلك في العقل ثم لا نقطع تأويله على شيء لاحتماله غيره مما ذكرنا وإحتماله أيضا ما لم يبلغنا مما يعلم أنه غير محتمل شبه الخلق ونؤمن بما اراد الله به وكذلك في كل أمر ثبت التنزيل فيه نحو الرؤية وغير ذلك يجب نفى الشبه عنه والإيمان بما أراده من غير تحقيق على شيء دون شيء والله الموفق


الأصل في هذا أن الأمر يضيق على السامع بما يقدره من المفهوم عن الخلق في الوجود وإذ لزم القول في الله بالتعالى عن الأشباه ذاتا وفعلا لم يجز أن يفهم من الإضافة إليه المفهوم من غيره في الوجود مع ما كان الوقوف على المعنى يصرف إليه الكلام في الخلق بما هو علمه به قبل سمع ذلك الكلام والله سبحانه عرف قبل سمع ذلك الكلام على غير الذي عرف عليه الخلق لم يجز صرف التأويل إلى ما فهمه من الخلق إذ سببه العلم المتقدم منه على إحتمال ذلك المعنى معنى قد يفهم من الشاهد من على ومن العرش ومن الإستواء معان مختلفة لم يجز صرف ذلك إلى أوحش وجه وثمة لأحسن ذلك مساغ مع ما كان الله يمتحن بالوقوف في أشياء كما جاء من نعوت الوعد والوعيد وما






----------------------------------- صفحة 75


جاء من الحروف المقطعة وغير ذلك مما يؤمن المرء أن يكون ذا مما المحنة فيه الوقف لا القطع والله أعلم


وقال الكعبي مرة لا يجوز أن يكون الله عز وجل يحويه مكان لما كان ولا مكان لم يجز أن يحدث له حاجة إلى المكان إذ خلقه لما لا يجوز عليه التغير ثم قال هو في كل مكان على معنى أنه عالم به حافظ له كما يقال فلان في بناء الدار أي في فعله


قال أبو منصور رحمه الله فما قال بأنه لا يحويه مكان بما كان ولا مكان حق إذ ذلك تغير والقول بالحاجة لا يقوله خصمه فتعليق الدفع به خطأ ثم هو يزعم أنه كان غير خالق ولا رحمن ولا متكلم ثم صار كذلك بعد أن لم يكن ثبت به التغير بل التغير في المكان من حيث أن يصير المرء في مكان لم يكن فيه بلا تغير نحو أن يتخذ له مكان يحيط به ولا يجوز أن يوجد تغير من حيث لا تغير في ذات الفاعل في الشاهد وإذ منع القول بهذا في المكان فهو في الفعل أولى إذ يكون التغير فيه أشد وأولى مع ما لا يكون أحد في الشاهد فاعلا بلا تغير يعترضه وجائز كونه في مكان وهو الذي فيه خلق لا تغير لذلك كان معنى التغير في الفعل أشد والله الموفق


ثم العجب في قوله هو في كل مكان بمعنى العالم والعالم اسم ذاته وهو بذاته عنده ليس في مكان ولا تحقق لله علما ليبلغ المكان الذي قال هو فيه


تأملوا لتفهموا تناقضه في القول


ثم زعم أنه يحفظه مرة ومرة أنه يفعله وحفظه وفعله في الأمكنة ليس غير الأمكنة فصار حاصل قوله الله في كل مكان في الأمكنة وذلك خلف من القول بل هو عالم بالأمكنة كلها قبل كونها وبعد كونها والله الموفق


قال الفقيه أبو منصور رحمه الله وأما رفع الأيدي إلى السماء فعلى العبادة






----------------------------------- صفحة 76


ولله أن يتعبد عباده بما شاء ويوجههم إلى حيث شاء وإن ظن من يظن أن رفع الأبصار إلى السماء لأن الله من ذلك الوجه إنما هو كظن من يزعم أنه إلى جهة أسفل الأرض بما يضع عليها وجهه متوجها في الصلاة ونحوها وكظن من يزعم أنه في شرق الأرض وغربها بما يتوجه إلى ذلك في الصلاة أو نحو مكة لخروجه إلى الحج وفي المشاعر بالسعي فيها ضالة أو ناحية العدو ويقصدون قصد من يغلب على شيء يستنفد منه جل الله عن ذلك ثم الله سبحانه إذ ليس وجه أقرب إليه من وجه ولا أحق أن يعلمه من وجه ولا في وسع الخلق وجه الوصول إليه من وجه دون وجه ولا طمع العقول بما هو عالم بذاته غنى عن عبادة خلقه فعبدهم لأنفسهم أن يقوموا بشكر نعمه له المحنة كيف شاء لا يسبق إلى وهم أحد الوصول إليه في جهة دون جهة إلا من يعرف الله حق المعرفة


وقد بينا فيما تقدم وصف قربه وذلك بالإجابة كقوله تعالى وإذا سألك عبادي عني فإني قريب وبالنصر والمعونه كقوله تعالى إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون والتقرب إلى المنزلة والمحل كقوله تعالى واسجد واقترب وما روى أن من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا إلى آخر ذلك وقوله وابتغوا إليه الوسيلة وفي الكلأ والحفظ كقوله وربك على كل شيء حفيظ وهو على كل شيء وكيل وقوله أفمن هو






----------------------------------- صفحة 77


قائم على كل نفس بما كسبت وبالعلم بقوله يعلم سركم وجهركم وغير ذلك فعلى مثل بعض هذه الوجوه المجئ والذهاب والقعود مع ما كان مجئ الأجسام يفهم منه الإنتقال ثم مجيء الحق يفهم منه الظهور كقوله قل جاء الحق وعلى ذلك ذهاب الباطل بطلانه وذهاب الجسم إنتقاله فهذا محل المجيء والذهاب في المعروف من الأعراض والأجسام والله يتعالى عن المعنيين جميعا لم يجز أن يفهم من المضاف إليه ذلك ولا قوة إلا بالله


للمسألة عبارة أخرى إنه ما من جهة ولا حالة إلا لله على عباده فيها نعم لا تحصى فجعل عليهم بها وفيها عبادات كما جعل في الجوارح والأموال بها له فيهما من النعم ولا قوة إلا بالله


على أن السماء هي محل ومهبط الوحي ومنها أصول بركات الدنيا فرفع إليها البصر لذلك ولا قوة إلا بالله
مسألة رؤية الله


قال أبو منصور رحمه الله القول في رؤية الرب عز وجل عندنا لازم وحق من غير إدراك ولا تفسير فأما الدليل على الرؤية فقوله تعالى لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ولو كان لا يرى لم يكن لنفى الإدراك حكمة إذ يدرك غيره بغير رؤية فموضع نفى الإدراك وغيره من الخلق لا يدرك إلا بالرؤية لا معنى له وبالله التوفيق






----------------------------------- صفحة 78


والثاني قول موسى عليه السلام رب أرني أنظر إليك ولو كان لا يجوز الرؤية لكان ذلك السؤال منه جهل بربه ومن يجهله لا يحتمل أن يكون موضعا لرسالته أمينا على وحيه


وبعد فإن الله تعالى لم ينهه ولا أيأسه وبدون ذلك نهى نوحا وعاتب آدم وغيرهما من الرسل وذلك لو كان لا يجوز يبلغ الكفر ثم قال فإن استقر مكانه فسوف تراني فإن قيل لعله سأل آية يعلم بها قيل لا يحتمل ذلك لوجوه أحدها أنه قال لن تراني وقد أراه


وأيضا إن طلب الآيات يخرج مخرج التعنت أو قد أراه الآيات وذلك تعنت الكفرة أنهم لا يزالون يطلبون الآيات وإن كانت الكفاية قد ثبتت فمثله ذلك


وأيضا أنه قال فإن استقر مكانه فسوف تراني والآية التي يستقر معها الجبل دون الآية التي لا يستقر معها ثبت أنه لم يرد بذلك الآية ولا قوة إلا بالله


وأيضا محاجة إبراهيم قومه في النجوم وما ذكر بالأفول والغيبة ولم يحاجهم بأن لا يحب ربا يرى ولكن حاجهم بأن لا يحب ربا يأفل إذ هو دليل عدم الدوام ولا قوة إلا بالله






----------------------------------- صفحة 79


وأيضا قوله تعالى وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ثم لا يحتمل ذلك الإنتظار لأوجه أحدها أن الآخرة ليست لوقت الإنتظار إنما هي الدنيا هي دار الوقوع والوجود إلا وقت الفزع وقيل إنهم يعاينوا في أنفسهم ما له حق الوقوع والثاني قوله وجوه يومئذ ناضرة وذلك وقوع الثواب والثالث قوله إلى ربها ناظرة و إلى حرف يستعمل في النظر إلى الشيء لا في الإنتظار والرابع أن القول به يخرج مخرج البشارة تعظيم ما نالوا من النعم والإنتظار ليس منه مع ما كان الصرف عن حقيقة المفهوم قضاء على الله فيلزم القول بالنظر إلى الله كما قال على نفى جميع معاني الشبه عن الله سبحانه على مثل ما أضيف إليه من الكلام والفعل والقدرة والإرادة يجب الوصف به على نفى جميع معاني الشبه وكذلك القول بالهستية فمن زعم أن الله تعالى لا يقدر أن يكرم أحدا بالرؤية فهو يقدر بالرؤية التي فهمها من الخلق وإن كان القول بالرحمن على العرش استوى وغير ذلك من الآيات لا يجب دفعها بالعرض على المفهوم من الخلق بل يحقق ذلك على نفى الشبه فمثله خبر الرؤية والله الموفق


وأيضا قوله تعالى للذين أحسنوا الحسني وزيادة وجاء في غير خبر النظر إلى الله وقد يحتمل غير ذلك مما جاء فيه التفسير لكنه لولا أن القول بالرؤية كان أمرا ظاهرا لم يحتمل صرف ظاهر لم يجيء فيها إليها ويدفع به الخبر ولا قوة إلا بالله


وأيضا ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير خبر أنه قال






----------------------------------- صفحة 80


سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر لا تضامون وسئل هل رأيت ربك فقال بقلبي قيل فلم ينكر على السائل السؤال وقد علم السائل أن رؤية القلب هي العلم وأنه قد علمه وأنه لم يسأل عن ذلك وقد حذر الله عز وجل المؤمنين عن السؤال عن أشياء قد كفوا عنها بقوله يأ أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء فكيف يحتمل أن يكون السؤال عن مثله بحي وذلك كفر في الحقيقة عند قوم ثم لا ينهاهم عن ذلك ولا يوبخهم في ذلك بل يلين القول في ذلك ويرى أن ذلك ليس ببديع والله الموفق


وأيضا أن الله تعالى وعد أن يجزى أحسن مما عملوا به في الدنيا ولا شيء أحسن من التوحيد وأرفع قدرا من الإيمان به إذ هو المستحسن بالعقول والثواب الموعود من جوهر الجنة حسنه حسن الطبع وذلك دون حسن العقل إذ لا يجوز أن يكون شيء حسنا في العقول لا يستحسنه ذو عقل وجائز ما استحسنه الطبع أن يكون طبع لا يتلذذ به كطبع الملائكة ومثله في العقوبة لذلك لزم القول بالرؤية لتكون كرامة تبلغ في الجلالة ما أكرموا به وهو أن يصير لهم المعبود بالغيب شهودا كا صار المطلوب من الثواب حضورا ولا قوة إلا بالله


وأيضا أن كلا يجمع على العلم بالله في الآخرة العلم الذي لا يعتريه الوسواس وذلك علم العيان لا علم الإستدلال وكثر الآيات لا تحقق علم الحق الذي لا يعتري ذلك دليله قوله ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وما ذكر من استعانة الكفرة بالتكذيب في الآخرة وإنكار الرسل وقولهم لم نمكث إلا ساعة من النهار وغير ذلك


وبعد فإنه إذ لا يجوز أن يصير علم العيان نحو علم الإستدلال لم يجز أن يصير علم الإستدلال نحو علم العيان فثبت أن الرؤية توجب ذلك






----------------------------------- صفحة 81


وبعد فإن في ذلك العلم يستوى الكافر والمؤمن والبشارة بالرؤية خص بها المؤمن ولا قوة إلا بالله


قال الفقيه أبو منصور رحمه الله ولا نقول بالإدراك لقوله لا تدركه الأبصار فقد امتدح به بنفى الإدراك لا ينفي الرؤية وهو كقوله ولا يحيطون به علما كان في ذلك إيجاب العلم ونفى الإحاطة فمثله في حق الإدراك وبالله التوفيق


وأيضا إن الإدراك إنما هو الإحاطة بالمحدود والله يتعالى عن وصف الحد إذ هو نهاية وتقصير عما هو أعلى منه على أنه واحدي الذات والحد وصف المتصل الأجزاء حتى ينقضي مع إحالة القول بالحد أو كان ولا ما يحد أو به يحد فهو على ذلك لا يتغير على أن لكل شيء حدا يدرك بسبيله نحو الطعم واللون والذوق والرائحة وغير ذلك من حدود خاصية الأشياء جعل الله لكل شيء من ذلك وجها يدرك به ويحاط به حتى العقول والأعراض فأخبر الله أنه ليس بذي حدود وجهات هي طرف إدراكه بالأسباب الموضوعة لتلك الجهات وعلى ذلك القول بالرؤية والعلم جميعا ولا قوة إلا بالله


وبعد فإن القول بالرؤية يقع على وجوه لا يعلم حقيقة كل وجه من ذلك إلا بالعلم بذلك الوجه حتى إذا عبر عنه بالرؤية صرف إلى ذلك وما لا يعرف له الوجه بدون ذكر الرؤية لزم الوقف في مائيتها على تحقيقها وأما الإدراك إنما هو معنى الوقوف على حدود الشيء ألا ترى أن الظل في التحقيق يرى لكنه لا يدرك إلا بالشمس وإلا كان مرئيا على ما يرى لوقت تسبح الشمس ولكن لا يدرك بالرؤية إلا بما يتبين له الحد وكذلك ضوء النهار يرى لكن حده لا يعرف بذاته وكذلك الظلمة لأن طرفها لا يرى فيدرك ويحاط به وبالحدود يدرك الشيء وإن كان يرى لا به ولذلك ضرب المثل






----------------------------------- صفحة 82


بالقمر أنه لا يعرف وحده ولا سعته ليوقف ويحاط به ويرى بيقين ولا قوة إلا بالله


قال أبو منصور رحمه الله والأصل فيه القول بذلك على قدر ما جاء ونفى كل معنى من معاني الخلق ولا يفسر لما لم يجيء في ذلك تفسير والله الموفق


ثم احتج الكعبي بأنه الإدراك وقد بينا ذلك ثم زعم أن العلم بالغائب إذ لم يخرج عن الوجوه التي بها يعلم فكذلك لا يرى إلا بالوجوه التي بها يرى من المباينة للمرئى ولما حل فيه المرئى بالمسافة والمقابلة وإيصال الهواء والصغر وعدم الصغر والبعد ولو جازت الرؤية بخلاف هذا لجاز العلم به


وقال أبو منصور رحمه الله وقد أخطأ في هذا الفصل بوجوه أحدها أنه قدر برؤية جوهره وقد علم أن غير جوهره جواهر يرون من الوجه الذي لا يقدر على الإحاطة بجوهره فضلا عن إدراك بصره نحو الملائكة والجن وغيرهم مما يروننا من حيث لا نراهم والجثة الصغيرة نحو البق والبعوض ونحو ذلك مما يرى لما لو توهم ذلك البصر لما احتمل الإدراك ويرى الملك الذي يكتب جميع أفعالنا ويسمع جميع أقوالنا على ما إذا أردنا تقدير ذلك بما عليه جبلنا للزم إنكار ذلك كله وذلك عظيم وكذلك ما ذكر من نطق الجلود والجوارح وغيرها مما لو امتحن بمثلها أمر الشاهد لوجد عظيما


وبعد فإنه في الشاهد يفصل بين البصر في الرؤية والتمييز على قدر تفاوتهما بما اعتراهما من الحجب مما لو قابل أحدهما حال الآخر على حالته وجده مستنكرا وإذا كان كذلك بطل التقدير بالذي ذكر والله الموفق


وأيضا أنه في الشاهد بكل أسباب العلم لا يعلم غير العرض والجسم ثم جاء من العلم بالغائب خارجا منه فمثله الرؤية والله أعلم






----------------------------------- صفحة 83


والثالث ما بينا من رؤية الظل والظلمة والنور من غير شيء من تلك الوجوه


والرابع أنه قد يجوز وجود تلك المعاني كلها مع عدم الرؤية إما بحجب أو جوهر فجاز تحقيق الرؤية على نفي تلك المعاني نحو ما أجيب القائل بالجسم عند معارضته بالفاعل والعالم أنه جسم لا كذلك فيجوز وجود ذلك ولا جسم فمثله في الرؤية


على أن البعد الذي يحجبنا والدقة يجوز أن يبلغه بصر غيرنا فصار ارتفاع الرؤية بالحجاب فإذا ارتفع جاز ولا قوة إلا بالله


وبعد فإن الذي يقوله تقدير برؤية الأجسام ولم يمتحن بصره بغير الأجسام والأعراض أن كيف سبيل الرؤية له


وبعد فإن كل جسم يرى وإن كان الدقة والبعد يحجبان فيجوز إرتفاعهما عن بصر غيره فيرى علما ما يرى ملك الموت من بأطراف الأرض ووسطها مما لو اعتبر ذلك ببصر البشر لما احتمل الإدراك فثبت أن الذي قدر به ليس هو سبب تعريف ما يبصر ولكن سبب تعريف ما يحجب به البصر فإذا ارتفع رأى مع ما كان المنفى رؤيته لذاته عرض وإلا فكل جسم يرى فإن لزم إنكار الرؤية لما ليس بجسم أو لما لا يرى إلا بما ذكر ليلزم الإقرار به لأن الذي لا يرى لذاته هو العرض وإلا فكل عين يرى ولا قوة إلا بالله


وعارض بأمر الدنيا ولا يحال ذلك ولكن يسقط المحنة ويرفع الكلفة والدنيا لهما خلقت


ثم ذكر في أمر موسى عليه السلام أن ذلك على علم الإحاطة بالآيات وقد بينا فساد ذلك وما ذلك بلغ العلم بالذي يسأل وهو رسول بعث إلى ما به نجاة الخلق وذلك لا يكون بغير الممتحن إذ هو تبليغ الرسالة والدعاء






----------------------------------- صفحة 84


إلى العبادة وهي محنة بل سأل الرؤية ليجل قدره وليعرف عظيم محله عند الله أو أن يكون الله أمره به ليعلم الحلق جواز ذلك وبالله التوفيق


ثم استدل بأنه لم ير من يعقل إنما أرى الجبل والجبل لا يعقل ليعلمه وليراه


فيقال له ولو كانت آية فالجبل لا يراها ولا يعقل وإذا كان كذلك فالآية إذا صار اندكاك الجبل لا أن أراه الآية ليندك بها وفي هذا آية قد أرى موسى الآية وهو اندكاك الجبل والله تعالى يقول لن تراني وحملته على الآية وقد رآها ولا قوة إلا بالله


ثم سأل نفسه عن معنى توبته ولا يسأل عنه فزعم أنه لوجهين أحدهما أنه علم بما أراه من الأدلة أن ذلك صغيرة تاب عنها والثاني على العادة في الخلق من تجديدها عند الأهوال بلا حدوث ذنب


قال أبو منصور رحمه الله ولو كان صغيرة لكان أولى من تركه إلى أن يعلم بالأدلة وهي في الأعلام في غير حال الإغماء أحق منها في حال الإغماء والثاني يصح ذلك عند معاينته الهول لا عند سكونه وإبداله بالأمن والإفاقة وذلك وقت معاينته عصاه يهتز فولى مدبرا أحق والله الموفق


لكنه يحتمل أن يكون إذ قال له لن تراني وكان عنده جواز الرؤية في الشاهد وإحتمال وسعه ذلك بما وعد الله له في الآخرة رجع عما كان عنده وآمن بالذي قال لن تراني وإن كان في أصل إيمانه داخلا على نحو إحداث المؤمنين الإيمان بكل آية ينزل وبكل فريضة تتجدد وإن كانوا في الجملة مؤمنين بالكل والله الموفق


وقد بينا ما قال في قوله وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة


قال الفقيه أبو منصور رحمه الله والأصل في الكلام أنه إذا كان على أمر معهود أو يقرن به المقصود إليه صرف عن حقيقته وإلا لا نحو قوله






----------------------------------- صفحة 85


ألم تر إلى ربك كيف مد الظل و ألم تر كيف فعل ربك وأصله أن من قال رأيت فلانا أو نظرت إلى فلان لم يحتمل غير ذاته وإذا قال رأيته يقول كذا ويفعل كذا أنه لا يريد به رؤية ذاته فمثله أمر قصة موسى عليه السلام وهذه الآية


ثم الأصل أن من تأمل الذي ذكر عرف أنه مشبهي النحله لأنه لم يذكر المعنى الذي له يجب أن تكون الرؤية بتلك الشرائط إنما أخبر أنه كذلك وجد وهو قول المشبه إنه وجد كل فاعل في الشاهد جسما وكذا كل عالم فيجب مثله في الغائب ثم ذكر معنى رؤية الجسم ولم يذكر معنى رؤية غير الجسم حتى يكون له دليلا


وبعد فإنه نفى بالدقة والبعد وهما زائلان عن الله سبحانه ثم احتج بامتداح الله بقوله لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وقال لا يجوز أن يزول فمثله عليه في قوله خالق كل شيء وقوله وهو على كل شيء قدير فلا يجوز أن يزول ثم قد وصف الله بالرؤية على إسقاط ما ذكر فثبت أن ذلك طريق لا يؤدي على كنه ما به الرؤية


فإن قيل كيف يرى


قيل بلا كيف إذ الكيفية تكون لذى صورة بل يرى بلا وصف قيام وقعود وإتكاء وتعلق وإتصال وانفصال ومقابلة ومدابرة وقصير وطويل ونور وظلمة وساكن ومتحرك ومماس ومباين وخارج وداخل ولا معنى يأخذه الوهم أو يقدره العقل لتعاليه عن ذلك






----------------------------------- صفحة 86


شيئية المعدوم عند المعتزلة والإجابة عنها


قال الفقيه رحمه الله ثم نذكر طرفا مما يدل العاقل على مذهب الإعتزال في أصوله ومضاهاتهم أهل الأديان ليعلم المتأمل أن مذاهبهم نتيجة مذاهبهم


قالت المعتزلة المعدوم أشياء وشيئية الأشياء ليست بالله وبالله إخراجها من العدم إلى الوجود


قال أبو منصور رحمه الله فعليهم في ذلك تحقيق الأشياء في الأزل لكنها معدومة ثم وجدت من بعد وفي تقديمها نفى التوحيد لما كانت الأشياء بعد معدومة فاختلفا في الخروج والظهور وإلا فهي في القدم أشياء معدومة فصيروا مع الله أغيارا في الأزل وذلك نقض للتوحيد


وفيما قالوا قدم العالم لأنه الأشياء سوى الله والمعدوم أشياء سواه لم يزل وفي ذلك مخالفة جميع الموحدين في إنشاء الله تعالى الأشياء من لا شيء وعلى قولهم إنما هو إنشاء بمعنى الإيجاد وإلا فهي أشياء قبل الإنشاء والله الموفق


فقول من يقول من الدهرية بالباري على أنه لم يزل صانع الأشياء لتكون في الأزل أقرب من قول هؤلاء وفيما قالوا أيضا إيجاب موافقة الدهرية في قولهم طينة العالم قديمة وكذلك قول أصحاب الهيولي أن حدثت الأعراض فظهر بها العالم وكذلك هؤلاء يجعلون الأشياء بالشيئية غير حادثه ثم وجدت مع ما في ذلك من أن الله لم يكن خالقا ولا منشئا كما كانت الأشياء لا موجودة فوجدت والله سبحانه كان بذاته غير فاعل ثم ظهر بخلق الخلق أو كان غير خالق ثم وجد خالقا والله الموفق


وقولهم إن الله كان بذاته ولم يكن العالم ولا شيء منه ثم كان العالم من غير أن كان منه إليه معنى به كان لأن الإرادة عندهم هي العالم وكذلك التكوين






----------------------------------- صفحة 87


فكان العالم لا معنى منه إليه به كان ثم صيروه دليلا عليه على القول بما ذكرت


فأما إن كذبوا بجعله دليلا وبقولهم أن لم يكن منه غير كونه بعد أن لم يكن ومذهبهم أن العلم بكون شيء لا يوجب تكوينه والقدم لا يوجب كونه به وليس من الله عندهم إلا هذين لا يوجب واحد منهما كونه فأوجبوا كون العالم لا بأحد على ما قال القائلون بقدم العالم إذ كان لا بغيره فضاهوا بقولهم هذا قول أولئك إلا أن أولئك ألزم للقياس إذ لما كان العالم لا بغيره جعلوه أزليا وهؤلاء جعلوه من الوجه الذي بينا لا بغيره حادثا


ثم أعجب منه أن جعلوا العالم خالقا ونفسه مخلوقة وجعلوه صانعا ونفسه مصنوعة فصار العالم عالما لا بصنع لغيره فيه ثم ألزم نفسه كل اسم دنئ وكل اسم سنى لو قلب اسم العالم لكان أعذر ولكن ذا آية عواقب السوء


وأيضا من مضاهاتهم في هذا قول الثنوية إن الأشياء كانت معدومة ثم وجدت من غير أن كانت به ثم إيجادها غير خروجها من العدم وقالت الثنوية كان النور والظلمة متباينين فامتزجا فكان هذا العالم من غير أن كان ثم تباين غيرا وامتزاج غير فصار العالم عالما بنفسه بعد أن لم يكن عالما إذ لا غير هنالك أوجب ذلك وكذا قول المعتزلة على ما ذكرنا ولا قوة إلا بالله


واستدلت المعتزلة وغيرهم على حدث العالم بما لا يخلو عن محدث ولم يكن دليلهم على ذلك سوى وجود العالم فأوجبوا حدثه وقالوا ذلك بمحدث ثم






----------------------------------- صفحة 88


قالت المعتزلة في الله سبحانه إنه كان غير خالق ولا رحمن ولا رحيم وهو اليوم كذلك فصيروه في أول أحواله ما وقع للخلق به العلم غير خال عن الحوادث كالعالم الذي وجدوه بالحس غير خال عنها فصار السبب الذي عرفوا حدث العالم به هو الذي به عرفوا حدث الخالق الرحمن والله قديم لم يزل


ثم بعد هذا وجهان أحدهما أنه إذا لزم القول في جملة العالم بالحدث وإن لم نشهده بوجودنا ما شهدنا منه غير خال من الإحداث للزم ذلك في الصانع الخالق لوجودنا له ما به نسميه حدثا والثاني أنه قد وجب قدم ذاته مع ما لا يعلم وجوده إلا بحوادث لم لا وجب القول بقدم جملة العالم وإن كان غير خال عن الحوادث


وبعد فإن معرفة إحتمال الحوادث فيما لا يحسن من العالم بما أضيف إليه من الإجتماع والإفتراق والتحرك والسكون فالله على قولهم يضاف إليه الرحمة والصنع والأبداع والإعادة وكل هذا عندهم حوادث فيجب القول فيه بما يجب في العالم ويكون لمن هو بهذا الوصف خالق صانع خارج من ذلك ولا قوة إلا بالله


وقالت المعتزلة كان الله سبحانه ثم حدث منه إرادة كان بها العالم من غير أن كان منه إياها إحداث أو إرادة أو لها اختيار إذ لا غير لها سوى ذاته وقد كان ذاك قبلها


وكذلك قالت المجوس أن كان الله سبحانه فحدثت فكرة رديئة كان منها الشيطان وهو الذي كان به كل شر فسمت المجوس تلك فكرة وسمتها المعتزلة إرادة واختيارا وكان حدوثها لا باختيار وإرادة فهي بالفكرة أشبه ثم لم تكن هي غير الشر ولا الإرادة عند المعتزلة غير العالم فهذا والله أعلم






----------------------------------- صفحة 89


معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم القدرية مجوس هذه الأمة


وبعد فإن العالم عندهم إذ لا يخلو عن إجتماع وافتراق وزوال وقرار وهذه أحوال احتمل كونها بغير الله على ما يكون من إجتماع آجر السفن والبنيان والكتابة ونحوها وكذلك التفريق وعلى ما كان سير الشمس والقمر وحركات الخلق وسكونهم ولا عالم بدون وجود هذين النوعين من الأعرض والأجسام وكان ذلك جملة يحتمل الكون بالله وبالخلق فكان العالم جملة يحتمل الكون بالله وبالخلق فكان العالم جملة بعدد وذلك قول الزنادقة بإثنين وأصحاب الطبائع والنجوم بأكثر من إثنين


وبعد فإن الله جل ثناؤه لم يقم على قولهم حجة إحداثه سوى العالم ولا حجة قدمه ثم لم يفصل بين الأعراض التي هي صنع غيره وبين التي هي صنعه لأن الإجتماع والزوال ونحو ذلك قد يوجد في العيان ولا يرى له الجامع المحرك ويحتمل أن يكون ذلك لغيره لا له وإن لم يعاين إذ هو نظير ما يعاين منه فصار ذلك كقول الثنوية وأصحاب الطبائع تكون الأشياء بها من غير أن أقام كل منها دليل صنعه مما يفصل به من صنع غيره وذلك آية العجز


والمعنى الذي احتج الله به على كون العالم بكليته به إذ قال إذا لذهب كل إله بما خلق فعلى قولهم فالله تعالى أيضا لم يذهب بما خلق لأنه لم يجعل عليه علما


وبعد فإن الأجسام اللطيفة إذا توهمت تفرقها أجزاء مما لا يتجزى كل جزء منها امتنع ذلك عن الإدراك بالحس ليؤدي إلى العقل وقد يتهيأ جمعها بغير






----------------------------------- صفحة 90


الله على قدر لطف الجواهر وكثافتها فصارت حجج الله على درك الأجسام فعل غيره في الإمكان ولم يبين الله تعالى الخلق بما يعلمون به أنه منه بدليل يدفع الإمكان من غيره ليقرر كونه منه فيما أحسهم فكيف فيما غيب عنهم فضهى به من ذكرت من الثنوية وغيرهم أنه لم يجعل أحد منهم على فعله دليلا إذ ما من شر إلا وأمكن أن يكون ذلك خيرا لأحد وكذا في الجواهر من الحرارة والبرودة إلى آخر ما تنتهي إليه الطبائع وكذلك النجوم السيارة ولا قوة إلا بالله


قال أبو منصور رحمه الله واستدل أهل التوحيد على نفى قول الثنوية بحرفين أحدهما بقدرة كل واحد منهما على أن يسد شيئا عن الآخر ويقدر أن يفعل ما لا يعلمه الآخر حتى إذا قالوا نعم جهلوهما أو أحدهما وإن قالوا لا عجزوهما والجهل والعجز يسقطان الربوبية والثاني أن ما أراد هذا إثباته يريد الآخر نفيه فيتناقض فدل الوجود على كون الواحد


ثم من مذهب المعتزلة أن العبد يقدر على فعل خارج مما علم الله أن يكون إذ كل من هو في علم الله أن يكون كافرا يقدر على أن يكون مؤمنا وحقيقة كونه خروج عن علمه فأوجب ذلك للعبد قدرة إسرار الفعل عن الله ثم لم ينف وحدانيته فكذلك لو كان ثمة إله آخر فهذا لتعلم أن مذهبهم عند التحصيل مذهب الزنادقة إذ الذي به ثبت التوحيد هو الذي ينقض المذهبين جميعا والله الموفق


والحرف الثاني يثبتون للعبد قدرة في نفى جميع تدبيره من التوالد ودفع وعيده من قوله لأملأن جهنم ويثبتون فعل جميع الكفرة والأبالسة بغير الذي يريد الله كونه بل هو يريد أن لا يكون ويبذل في منع ذلك كل ما في خزائنه حتى لو أراد أن يزيد فيه شيئا لم يقدر عليه ثم لم يمنع القول بالإله وقام الخلق على






----------------------------------- صفحة 91


ما في علمه قيامه وكونه فكذلك في أمر العالم وهو يوضح ما أخبرتك أن مذهبهم ينتج مذهب أهل الدهر والزنادقة لا مذهب أهل الإسلام والله الموفق


ومذهب الزنادقة أن العالم كان فعل اثنين ليس لأحدهما في فعل آخر صنع ولا تدبير ولا قدرة وأن كل واحد منهما ينفرد بنوع من الفعل من الشر والخير لا يقدر عليه الآخر وكذلك مذهب المجوس


وعلى مذهب الإعتزال أن العبد له قدرة على نوع من الفعل وهو الكسب وللمعبود نوع وهو الإيجاد وليس لله على ما للعبد قدره ولا صنع ولا للعبد على ما لله وعلى هذين الأمرين دار تدبير العالم فضهوا به من ذكرت في التحصيل


ثم ازداد مذهب هؤلاء قبحا من حيث جعلوا منه قدرة على ما للعبد من السكون والحركة فلما أقدر الله العبد عليهما ذهبت عنه القدرة ولا نرى الثنوية تزيل قدرة واحد منهما بالتمكين من الآخر ليعلم معنى القدرة في الذي أضيف إليه الربوبية عند الثنوية أحق أن يكون بنفسه منه عند المعتزلة وفي ذلك إزالة القدرة لله أن يكون بذاته وهو أقبح قول


والثاني كذبهم إذ ثبتوا للعبد في نوع فعله جميع ما ثبتوا للصانع ولم يثبتوا له اسم الألوهية الذي عرف الله به من فعل الإنشاء وكذلك اسم الخالق


مع ما كانت المعتزلة يزيدون في رتبة قدرة العبد القادر على قدرة الله لأنهم يقولون إن الله لا يقدر بالموعود أن يكون وبما كان الوفاء فعله مع الوصف بالقدرة وذلك نحو ما ضرب لعبيده مددا ولهم أرزاقا قدرها لهم ثم يجئ عبد فيقتله قبل استيفائه مدته وإنجازه وعده على بقاء قدرته والله تعالى لا يقدر على منع العبد مما هو فعله يريد الوفاء به على غير منع القدرة عنه فصارت قدرة العبد أعظم ومشيئة أنفذ جل ربنا وتعالى عن هذا الوصف


والثنوية تزعم أن النور وقع في حبس الظلمة ووثاقها من الوجه الذي هم به الصلاح ودفع شرها عن جوهره وكذلك الظلمة على قول من يجعل ابتداء






----------------------------------- صفحة 92


القدح منها فأخطأ جميعا لما خرج فعلها على خلاف ما أرادا وصار كل واحد منهما في جهة من يد الآخر فلزمهم القول في النور بالخطأ وبالجهل والعجز أما الخطأ فلما لم يكن عاقبته على ما أراد والجهل لما لم يكن علم أنه يبقى في وثاق عدوه وأما العجز هو أنه في جهد الخلاص وتدبيره فلم يتهيأ له


وكذلك قول المعتزلة إن الله لم يقو كافر ولا أحدا إلا ليطيعه ولا ملك أحدا شيئا إلا ليشكر ولا خلق أحدا إلا ليخضع له وكذلك يريد وله فعل ما فعل ولو كان منه غير هذا كان يكون سفيها ظالما ثم لم يكن بجميع ما أعطى أعداءه ما أراد وله أخطاء وذلك الخطأ المعروف أن لا يخرج الأمر على ما يريده ثم القدرة على ما لم لو فعل لكان خارجا عن علمه ثم ثبت من الفعل فيما بعد هو فعل الله في المنع منه فأوجب قولهم مضاهاة من ذكرت بكل وجوه المذمة


قال أبو منصور رحمه الله وأنكرت الزنادقة قول شيء يحدث لا من شيء لما لا يتصور مثله في الوهم وكذلك المشبهة في قولهم بالجسم


وأنكرت المعتزلة خلق أفعال العباد لما ليس بقائم في العقول ولا متوهم في الأوهام وزعمت القدرية أن الله لا يدع الغاية من الخير الذي يقدر عليه إلا فعله وكذلك قول الزنادقة أنه يفعل غاية الخير وأن خالق الشر غيره وكذلك قول القدرية أن الله لا يقدر على شيء موجود من الشر وأنه كله فعل العباد ويقول المعتزلة إن الله لا يريد كون الشر لأحد ومن أحد ويريده الشيطان ثم يكون ذلك وإن لم يكن ما يريده الله كما قالت الزنادقة في كون ذلك من الشيطان وخالق الشر وإن لم يرده الله






----------------------------------- صفحة 93
مسألة الوصف لله والتسمية لا يوجبان التشابه


قال أبو منصور رحمه الله أنكر قوم أن يكون صفة لله ذاتية يوصف بها أو إسم ذاتي يعرف به وظنوا ان ذلك يوجب التشابه إذ له اسم كما كان لغيره وقالوا وإذ لم يجز أن يكون له موافقة في شيء من جملة الخلق على الإشارة إليه كان أدلة تحقيق الموافقة بالإسم الذي لكل شيء أحرى ولهذا أنكروا القول بالشيء والعالم والقادر وضربوا له المثل بأن القول له وفيه بالمكان إذ يوجب التشبيه والحد فهو بكل مكان كذلك إذ للأمكنة نهاية فالوصف بها وبالواحد منها واحد فمثله الأول وبالله التوفيق


وأما الأصل عندنا أن لله أسماء ذاتية يسمى بها نحو قوله الرحمن وصفات ذاتية بها يوصف نحو العلم بالأشياء والقدرة عليها لكن الوصف له منا والإسم إنما هو بما يحتمله وسعنا وتبلغه عبارتنا بالضرورة إذ سبيل ذلك إنما هو عن المعروف في الشاهد وذلك يوجب التشابه في القول إذ عن معروف به في الشاهد قدر ولكن الضرورة أطلقت لنا على نفى المفهوم من الشاهد لينفى به الشبه ونسميه بالذي ذكرت ضرورة ولو احتمل وسعنا التسمية بما لا يسمى به غيرنا نسميه لكنه إذ كان الشاهد دليله وبه يجب معرفته فمنه قدر اسمه على ما يقرب من الفهم بما يريد به وإن كان الله يتعالى عن أن يكون له مثال أو شبه ألا ترى أن العبارة التي بها نسميه عالما قادرا في الألسن مختلفة من غير أن كان ثمة اختلاف فيدلك أن الأسماء التي نسميه بها عبارات عما






----------------------------------- صفحة 94


يقرب إلى الأفهام لا أنها في الحقيقة أسماؤه ولما تأخذ القلوب منها معاني يتعالى عنها قرن بالتسمية حرف نفى فجعل التوحيد إثبات ذات في ضمن نفي ونفيا في ضمن إثبات على ما فسرت وبالله التوفيق


ثم الدليل على ما قلنا مجيء الرسل والكتب السماوية بها ولو كان في التسمية بما جاءت به الرسل تشبيه لكانوا سبب نقض التوحيد وهم جميعا دعوا إلى عبادة الواحد وإلى معرفة وحدانية الباري لم يجز أن يكون ذلك مما يحقق العدد ويثبت الموافقة للخلق ولا قوة إلا بالله


ولكن لما احتملت تلك الأسماء خروج المسمى بها عن المعروفين من المسمين بها جاز مجيهم بها مع قوله ليس كمثله شيء لينفى به شيئية الأشياء من الإدراكات البسيطة وهي الأعراض والصفات والأعيان المركبة وهي الأجسام وبالله المعونة


وبعد فإنا لما وجدنا جميع ما يعاين من العالم مضطرا عاجزا عن تدبير نفسه جاهلا ببدء حاله وبمقدار الأخذ في كل أحوال من الزمان والمكان فيه يتقلب وبه بكون مجتمعا في الأضداد التي هي بحق الطباع متنافرة عقل أنه لا كان بنفسه وعقل أن الذي دبره وقدره كان له به علم وعليه قدرة إذ خرج على إحتمال الأتفاق لذاته ولا على دلالة قوة له بنفسه وعلم بحاله فلا بد من تحقيق المعنى الذي في الشاهد دليله إذ لاوجه لمعرفته إلا به وكذلك لو كان ذلك بتدبير من دونه فإليه يرجع الأمر الأول وفي ذلك كله ما ذكرنا


وقالت الباطنية وهم الذين يصرفون المذكور من الأسماء إلى المبدع الأول والثاني نحو العقل والنفس ويجعلون كل العالم مبروزا في العقل تستمد منه النفس






----------------------------------- صفحة 95


فيمد الهيولي يقولون كان العقل بالإبداع والإبداع علته مبروز فيه كل شيء يكون ومحال أن يبرزه بالإبداع من لم يعلم ما يكون أو من لا يقدر على أن يبرزه أو من لا يريد أن يكون مبروزا فيخرج الإبداع منه خروج فعل ذي طبع من حيث لا يشعر به ولا يعلمه ولا يوصف بالقدرة عليه فيكون الله تعالى عنده في نفى الصفات عنه والأسماء كراهية التشبيه يصير في حد التعطيل ويصير بحيث لا شيء عليه بدليل ويحصل القول منه على التقليد وذلك بعيد والله الموفق


مع ما يقال الله إسمه أو هو اسم غيره فيرجع في الحقيقة إلى أنه اسم العقل والرحمن اسم النفس وعلى هذا مذهبهم وأبوا الإسم كراهة التشبيه ثم جعلوا المعبود باسم الإله والرحمن والرحيم أغيارا لا يحصى عددهم وأجزاء يصعب احصاؤهم فكأن الرسل جاءوا عندهم بعبادة العدد لا بالتوحيد والله المستعان


ثم يقال لهم عند قولهم ليس له اسم ما تعنون بقولكم ليس له اسم ذاتي ولا صفة ذاتية فلا يجدون السبيل إلى أن يعبروا عن أنفسهم بما قالوا ليس له اسم ويبطل جملتهم الذي قالوا الله الذي ليس له اسم ذاتي ثم زعموا أن له اسما من غيره نحو المبدع بإبداع هو علة لمبدع هو العال لا المعلول ولا علة لأن كل معلول يجوز أن يصير علة محال


فيقال له إذ جعل اسمه عن غيره أكان ما حقق له غيره ذلك الإسم أو سمى به فإن قال لا له أن يسميه ما شاء من الأغيار والعلة والمعلول إذ بغيره استحق لأنه كذلك يقول كان ولا علة ولا معلول فإذا هو قول كان بحق المجاز لا بالحقيقة بالضرورة فأوجب هذا الإسم له غيره من غير أن كان منه ما استوجب فإن قال كان منه الإبداع قيل كان منه الإبداع بعد أن لم يكن حتى حقق له الإسم بأن كان به من أي وجه حتى






----------------------------------- صفحة 96


أوجب له الإسم فيلزم جعله بإبداع إلى ما لا نهاية له وذلك محال ولا يقول به فيجب أن يكون الإبداع بذاته فيكون لم يزل مبدعا وفي ذلك كله وجوب الإسم الذاتي له بالضرورة ولا قوة إلا بالله


قال الشيخ أبو منصور رحمه الله ثم الأصل عندنا أن الإسم المطلق لا يحتمل تحقق التشبيه لما وجد كل متضاد في الشاهد تحت الإسم نحو الحياة والموت والنور والظلمة والشر والخير والكفر والإيمان لكل إسم على حدة فلو كان بالإسم المطلق تشابه لكان لا تضاد يعلم ولا إختلاف بالإسماء ثبت أنها جعلت لما يراد من الإختلاف والإتفاق الذي لا يعلم حقيقة ذلك لو لم يكن له اسم ولو كان بموافقة الإسم عند نفى المعنى الذي له المعلول من المسمى تشابه في الشاهد لكان لو لم يسم للعالم العلو والسفلي والمبدع الأول والثاني ولكان بين من زعموا أن له إسما وبين غيره موافقة في نفى الإسم مع جميع الأشياء على أنه يجد في القول بواحد الخلق نفى التشبيه وإن كان من حيث اسم الآحاد اجتماع


وبعد فإن الإبداع عنده علة ولا يوصف بالشيء لما كان به الأشياء والأعراض كلها لا توصف بعالم ولا قادر ولا نحو ذلك فلو كان في إثبات الإسم تشابه لكان في نفى ذلك كذلك من الوجه الذي ذكرت ولا قوة إلا بالله


بسم الله الرحمن الرحيم


اختلاف الناس في جواب سؤال السائل لم خلق الله الخلق


الحمد لله الذي لا غاية لما يستحق من الشكر والمحامد على ما لدينا من جزيل المنن وعظيم العوائد وإياه نسأل التوفيق لأهدى سبل المراشد


قال أبو منصور رحمه الله اختلف الناس في جواب سؤال السائل لم خلق الله الخلق


قال قوم السؤال فاسد لا يسأل عن ذلك إذ الله سبحانه حكيم






----------------------------------- صفحة 97


لم يزل عليم غنى فعله لا يحتمل الخروج عن الحكمة إذ يخرج الفعل عنها لجهل بها أو لما يخاف فوت نفع لو حفظ طريق الحكمة فإذا كان الله سبحانه عليما لا يجهل غنيا لا يمسه حاجة ينتفع بدفعها بطل أن يخرج فعله عن جهة الحكمة وسؤال لم ليست فيه الحكمة ولذلك نفى الله عز وجل توهم اللعب عن فعله فقال وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين إلى قوله لا يسأل عما يفعل وهم يسألون والحق الويل بمن يظن به الحاجة أو في فعله السفه ولا قوة إلا بالله


وقال قوم من المعتزلة رأى الأصلح كذلك ففعل ولا يسأل عن فعله الأصلح


قال الشيخ رحمه الله وهذا كلام لا يخلو من أن يراد بالأصلح الحكمة فهو الأول وإن أراد به معنى سواه فإن القول في معرفة الأصلح كهو في أنه لم فعل سواء مع ما يسأل عن شرط الأصلح له في الفعل من أين يجب على أن أحق الناس بالإستحياء من هذا اللفظ هم إذ ليس من شيء يجعل شرطا للأصلح إلا وأمكن أن يكون ذلك بعينه شرطا للفساد ويكون به أعظم الفساد ولا يجوز أن يكون شيء حكمة يصير سفها لأن تأويل الأصلح أن يكون أصلح لغيره وقد يكون به الفساد عندهم وتأويل الحكمة الإصابة وهو وضع كل شيء موضعه وذلك معنى العدل ولا يخرج فعله عن ذلك وقال إن الله خالق بذاته إذ هو اسم المدح والعظمة ومحال أن يكون الله سبحانه يستحقه بغيره لما فيه إيجاب النفع له ومن ذلك وصف فعله فهو محتاج وإذ قد ثبت أنه خالق بذاته لم يجز أن لا يكون خالقا البته والسؤال عن اللم محال كالسؤال عن لم قدر ولم علم ولا قوة إلا بالله


وقال قوم إذ هو جواد كريم لزم الوصف بإفاضته الجود فلا بد من خلق






----------------------------------- صفحة 98


يكون بخلقه واهبا مفيضا جوده عليه وهو قادر وقدرة لا تحقق الفعل البته ضائعة فلذلك خلق وبالله التوفيق


وقال قوم السؤال محال لما يوجب تقدم علة لما يخلق والعلة إما أن يكون خلقا فالسؤال عنها هو السؤال عن جملة أو لا يكون فيكون غير إله في الأزل بل خلق بأن فعل الخلق بذاته على ما مر بيانه والله الموفق


وقال قوم السؤال لا يعدو معان إما أن نقول لم خلق هذا العالم دون أن يخلق غيره فيكون هذا السؤال فيه كهو في هذا وكذلك في قوله لم لا خلق الخلق ليكون قبل الوقت الذي كان على أن الخلق ليس هو غير الوقت بل هو إخبار عن كونه يصير كونه وقتا ولا قوة إلا بالله


أو يسأل عن حقيقة هذا العالم فيكون سؤاله منه فكأنه قال لم أسأل ولم عقلت أن أسأل ولم لا كنت غير عاقل وذلك فاسد لأنه في منع نفسه عن السؤال وبالله التوفيق


وقال قوم خلق العالم لعلل يكون منها وفيها وما بعدها وذلك هو المعقول من جميع الحكماء أنه لمقاصد يعقب الصنيع وكذا كل فاعل لا يعلم عواقب فعله أنه لماذا يفعله فهو غير حكيم ثم اختلف في المعنى الذي له خلق من يقول خلق جل العالم للممتحن فيه إذ ظهور الحكمة فيهم وكذلك فيهم يظهر العلو والسلطان والجلال والرفعة وبهم تظهر الحكمة والسفه فهم المقصودون من الخلق وغيرهم من الخلائق خلقوا لهم لمنافع لهم وللإمتحان بها وللدلالة وسخروا لهم والممتحنون خلقوا للعبادة أو لأنفسهم ليسعوا لعواقب يحمدون عليها ويذمون إليهم يقع ذلك وضرورة جل خالقهم عن الوجهين






----------------------------------- صفحة 99


إذ هم الذين خلقوا محتاجين ركب فيهم ما عرفوا به حوائجهم وما يقومون في قضائها ولا قوة إلا بالله


وقال قوم لم يخلق الكل لعلة لأنه ليس وراء الكل شيء يكون ذلك علة وخلق البعض لعلة وذلك كما لم يخلق الكل في مكان لأن المكان في الكل وخلق بعضا لبعض وعلى هذا الأمر التوالد ثم الجزاء والمحنة وبالله التوفيق


وقال الحسين في جواب هذا السؤال إنه خلق لأسباب يكثر منها دلالة وحجة ثم عبرة وعظمة ثم نعمة ورحمة ثم غذاء وقوام ومتصرفا في الحوائج ومنه ما خلق نعمة لأحد بلية على آخر قال ولو خلق ابتداء الخلق للمصالح والمنافع لا غير لم يكن يجوز تقديم شيء ولا تأخيره ولا خلق شيء قبل خلق الممتحن ولا قلب أمرا من حال إلى حال ولا زيادة ولا نقصان وإذ خلق الله من الخلائق ما لا يحيط بهم الأوهام واستترت عن نصرة الأنام ثبت أن الأمر ليس على ذلك لكنه في وضع الأشياء موضعها وصرف الأمور من النفع إلى الضرر والضرر إلى النفع ولا قوة إلا بالله


قال الفقيه رحمه الله وجملة هذا الفصل أنه على قولهم إذ لم يكن له غير الذي فعل لم يكن شيء من فعله مفضلا إذ هو أبقى بكل فعله صفة الجور ولا كان لما يفعله مختارا له إذ لو كان منه غير ذلك كان مفسدا وكان عن جعل الإصلاح في غيره عاجزا وذلك هو النهاية من صفة الذم والله الموفق


ولو كان لا يجوز له غير الذي فعل لكان بفعله منتفعا ويصير هو إليه محتاجا ليحمد به ويثنى عليه إذ من لا يستحق حمدا ولا مدحا إلا بغيره فهو إليه محتاج في أن يحق له الثناء وبه منتفع إذ من قولهم إن فعله غيره ولم






----------------------------------- صفحة 100


يكن له تركه ولاغير الذي فعله إذ غيره يحط رتبته ويسفهه فثبت بما فعل النفع وهو غيره عندهم وهذه صفة الحاجة في عرف العقول ولا قوة إلا بالله


ثم القول بالأمر والنهى والترغيب والترهيب مع ما يقدم منه الكافي من ذلك الذي ذكره الحسين أن الله خلق خلقا مذللا بالتأديب عارفا بالنفع والضر مستدلا بالذي شهد من الحجة على الذي غاب لم يجز أن لا يفرض المعرفة ولا يحضر عليه الجهل فيكون فيه إباحة الكذب وكل ذميم مع ما كان لمن خلقه نعم عليه في الخلقة وشكر النعمة لازم في العقل فاستاده ثم الوعد والوعيد في الترغيب بتعظيمه والترحيب عن الإستخفاف به ثم إذ كرمه بفنون كل الكرم فعلى ذلك ثوابه لا أمد له وإذ كان الكفر غاية في العصيان فكذلك عقوبته وأيضا أن الإيمان تصديق بما لا نهاية له ولا نفاذ والكفر تكذيب بما لا نهاية له ولا نفاذ فعلى ذلك جزاؤهما ولهذا يجوز العفو عما دون الكفر لأنه ليس بجحد لما لا نهاية له ولا قوة إلا بالله


قال أبو منصور رحمه الله ودليل الأمر عندنا والنهى معرفة الآمر والناهي إذ خص الله البشر من بين البهائم في تعرف ذلك لم يحتمل إهمالهم عن ذلك كما لا يحتمل شيء مما فيه النفع إهماله عنه وبما في العقل حسن كل حسن وقبح كل قبيح ثم في الفعل يقبح فعل القبيح ويحسن فعل الحسن فلزم الأمر والنهى لما كان ما به الأمر والنهى ولأن الله خلق خلقا يدل على وحدانيته وحكمته فلم يجز إخلاء الخلق عن معرفة ذلك فيصير خلقه عبثا ولما في رفع الكلفة زوال الخلقة إذ حصلت للفناء وكل بان شيئا للنقض لا غير فهو عابث غير حكيم ثم الوعد والوعيد للترغيب والترهيب إذ لولا ذلك يذهب نفع الإئتمار وضرر العصيان ولم يكن لمن خلق في فعلهم نفع فإذا لم يكن للمؤتمر نفع ولا للعاصي ضرر يبطل معنى الأمر والنهى إذ ليس لنفع الآمر والناهي فلذلك لزم الوعد والوعيد في الحكمة مع ما في الأمر والنهى






----------------------------------- صفحة 101


مجاهدة النفس وحملها على ما يكرهه الطبع والذي يكرهه تنفر عنه النفس فلا يجد الممتحن على قهره وصرفه إلى ما يريده ويؤمر به سبيلا إلا إحضار الوعد والوعيد حتى إذا رأى ذلك سهل عليه ترك الملاذ وهان عليه تحمل المؤن العظام


وبعد فإن البشر خلق خلقا قبح عليه فعل الذي لا يقصده به نفع العواقب أو لاتتقي به ضرر العواقب فلا بد أن يجعل لأعماله ذلك وذلك حق الوعد والوعيد ولولا ذلك لكان يستوى عواقب العدو والولي وعلى ما تفاوتا هما بحيث الإختيار والإيثار يجب تفاوت عواقبهما وبالله التوفيق


وقد أمكن أن نجعل الثواب كله فضلا إذ قد سبق من الله من النعم ما استحق الشكر عليه بعامة ما احتمل الوسع فيكون الثواب فضلا من الله ثم كذلك المضاعفة في ذلك كقوله تعالى من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها فذكر في السيئة ما توجبه الحكمة من الجزاء وضاعف في الثواب على ما تحتمله الأفضال إذ ذلك أصله ولا قوة إلا بالله


فهذا فيما احتمله عقولنا مما يلزم الأمر والنهى ومع ما كان فيما جاء بهما الرسل عن الله دليل كاف يلزم القول بعظم الحكمة لهما لو قصرت عقولنا عن الوقوف على ذلك مع ما في العقل إذا ترك استعماله كسائر الجوارح لم يحتمل تعطيلها عن المنافع التي هي سببها فمثله العقل مع ما كان الذي ذكرت في سائر الجوارح هو حق الفعل أيضا وإشارته ولا قوة إلا بالله






----------------------------------- صفحة 102


مسألة في التوحيد من عرف نفسه عرف ربه


فإن قال قائل أجمع أن من عرف نفسه عرف ربه لكنهم اختلفوا في وجه المعرفة فقالت الثنوية لما عرف إشتمال نفسه على الخير والشر عرف أن لكل جهة منه ربا


واليهود صيرته واحد جزء


وقالت المشبهة هو جسم إذ في الشاهد تكون معرفة النفس للجسم


وقال جهم إذ عرف أنه كان بعد أن لم يكن وهو شيء جسم عالم سميع بصير علم أن كل ما كان له ذلك الإسم فهو حدث وربه الذي أنشأه لا يحتمل أن يكون حدثا


وعندنا أن من عرف نفسه عرف ربه لما يعرفها بالجهل مما احتملته هي من السمع والبصر وغيرهما من الأعراض وكذلك بإصلاح ما فسد منها وبقدر ما تأخذ هي من الزمان والمكان وبأنواع حاجات ترد عليها لا يعرف مأتاها ولا حقيقة ما به زوالها فهذا شأنه مع ما يشهد زوالها بما شهد من نفسه فعلمه بما مضى من أحوالها من أول ما كانت إلى الحال التي هو فيها مع العلم فيما يختلف عليها من الأحوال إلى وقت قيامها منه أبعد وعن تصور ذلك في وهمه أعسر وعن إحتمال إحاطة عقله به أعجز علم بضرورة أنه لم يدبر أمر نفسه على ماهي عليها بل لو كان الأمر إليه لدبرها على ما يعلم جميع ذلك إذ لو كانت ثمة قدرة على شيء من ذلك لم يكن ليدفع إلى الجهل الذي ثبت ثم إلى العجز فيما أخبرت من دفع الحاجات عن نفسه وإصلاح ما فسد منها فيعلم عند ذلك إذ هو أملك الخلائق تدبيرا فيما يحس وأعلاهم إدراكا لحقائق ما يلقى وأسرعهم وقوفا على ما يعلم ويذكر من الأمور فيعلم






----------------------------------- صفحة 103


خروجه من تدبير نفسه في التكوين والإفناء والإبقاء ثم من إبداء جميع المحسوسين إذ هم تحت تدبيره كالمتحيرين في حوائجه ويعلم بأن مثله على ما عليه من الإحتمال والوقوف على الأمور والإدراك للأسباب لا يكون إلا بمن هو خارج من جميع المعاني التي عليها نفسه وفيها تقلبها فيعلم أنه بقادر لا يعجز وعالم لا يجهل وجبار لا ينازع في تدبيره فيعرف أنه جل وعلا لا يشبهه شيء من ذلك ولا معنى إذ من الوجه الذي يشبهه يوجب ما أوجب فيه من حدث أو قدم أو تدبير غير فيه وكذلك جميع الأشياء إذ بينها موافقة في الحاجات وأنواع العجز والصنف ثم في الحدثية من كل الوجوه فيجب بهذا أن يعرف أنه خلاف له بكل الجهات والجهات له لا لمدبره فيكون في ذلك تعريف الرب بما هو أهله ولا قوة إلا بالله


وعلى هذا يبطل قول جهم إنه لم يكن عالما قادرا ثم صار كذلك وقول من يقول لم يكن فاعلا متكلما ثم صار كذلك إذ مكنوا فيه تغير الجهات والأحوال التي هي سبب معرفة العبد نفسه خلقا وحدثا ولا قوة إلا بالله


وبما ذكرت من إمكان قبول الأحوال اختيارا وإحتماله الصفات العليه من نحو العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر ما يوضح كونه بالصانع العليم لا بالطبائع التي هي عاجزة عن الإختيار وجاهلة بالأحوال وكذلك جميع الأغذية ولا قوة إلا بالله


وكذلك بإحتماله الخير والشر ومختلف الأحوال دليل صرف تدبيره إلى من لا يوصف بالإحتمال و لا بمختلف الأحوال ليكون كل شيء على ما عليه تقديره له ولا قوة إلا بالله


وقال قوم من عرف نفسه الخفية عرف ربه ونفسه الخفية هي الكيان






----------------------------------- صفحة 104


المجعول لصلاح الأمور وإحتمال المعالي وملك تدبير الخلائق ودرك الخفيات من الأمور بالفكر والنظر في الأسباب


زما قالوه حسن وقد يقع بما ذكرت في معرفة الصانع كفاية عن درك الخفي بما وصل خفى من أحواله ووصل الى العلم بما استتر وظهر بالأسباب وبه يعرف ما خفى منه سمى نفسا أو لا وظهر ولا قوة إلا بالله


مسألة معنى القول بان الله شيء


ثم الشيء إثبات لا غير وإثبات عن الهستية إذ لا شيء نفى فيعلم بأن الله سبحانه شيء لا نفى عن نفسه أنه شيء إذ ينفى عامة أحوال نفسه ويعلمها من غير أن ينفى شيئيتها فصار يعرف ربه لا من الوجه الذي يعرف أنه شيء لذلك لم تمنع معرفته بشيئية نفسه المعرفة بربه أنه شيء إذ لا شيئية دلته على الرب ولا قوة إلا بالله


وأما الجسم فهو اسم لكل محدود والشيء إثبات لا غير وفي وجود العالم على ما عليه دليل الإثبات لذلك قيل بالشيء وفيه إذ هو متناه لا من حيث الشيئية بل من حيث الحد دليل نفى الحد عن الله جل ثناؤه إلا أن يراد بالحد الوحدانية والربوبية فهو كذلك وحرف الحد ساقط لأنه يغلب في الدلالة على نهاية الشيء من طريق العرض ونحو ذلك مما يتعالى عن ذلك وذلك معنى الجسم في الشاهد وفيه أيضا إيجاب الجهات المحتمل كل جهة أن يكون أطول منها وأعرض وأقصر فلذلك بطل القول بذلك ولا قوة إلا بالله






----------------------------------- صفحة 105


ثم الهوية في الشاهد كناية عن الوجود وتأويله نفى العدم عنه والله تعالى لم يزل ولا يزال بلا تغير ولا زوال ولا انتقال من حال إلى حال ولا تحرك ولا قرار إذ هو وصف اختلاف الأحوال ومن تختلف الأحوال عليه فهو غير مفارق لها ومن لا يفارق الأحوال وهن أحداث فيجب بها الوصف بالإحداث وفي ذلك سقوط الوحدانية ثم القدم ثم جرى لتدبير الغير عليه إذ حال من الأحوال لو كانت لذاته لم يجز تغيرها ما دامت ذاته فثبت بذلك الغير لتغير الأحوال عليه وبنقله من حال إلى حال وذلك دليل تعاليه عن الوصف بالمكان إذ قد ثبت أن كان ولا مكان وليس في الإضافة إلى أنه على العرش استوى تثبيت مكان كما لم يكن في قوله ونحن أقرب إليه من حبل الوريد وقوله ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم وقوله ونحن أقرب إليه منكم ذلك على أن القول بالمكان ليس من نوع التعظيم والتبجيل بل الأمكنة إنما شرفت به وتفاوتت أقدارها بتفضيله مكانا على مكان يجعله مخصوصا لأخيار خلقه أو لما جعل لعبادته وتعظيمه فيه فأما أن يكون أحد تعلو رتبته بالمكان من ملوك الأرض أو الأخيار فليس به فكيف بالملك الجبار الذي ما ارتفع قدر مكان ولا جل خطره إلا به وإذا كان كذلك بطل أن يكون في الإضافة تعظيمه ثم يكون فيما بعد ذلك للحاجة وهو يتعالى عنها فلذلك لم يجب بقوله الرحمن على العرش استوى معنى الكون في المكان إذ ذلك الحرف يعبر به عن العلو والجلال ومحال مثله له بخلقه فثبت أن ذلك من الوجه الذي يستحقه بذاته من العلو والرفعة وما هو بذاته عليه فهو كان كذلك ولا خلق لم يجز الوصف له بالخلق ولا قوة إلا بالله






----------------------------------- صفحة 106


مع ما يكون ذلك الإعتقاد عن علم تقدم بحال من يضاف إليه ذلك في الشاهد قبل الإضافة من الإحتمال ثم الله سبحانه كان ولا مكان وعلى ذلك اعتقاد الأنام لم يجز أن يتغير الفهم عن الإضافة عما كان من قبل وإليه ينصرف الفهم عن الإضافة إلى خلقه على أن تخصيص إضافات الأشياء إلى الله في الشاهد يخرج مخرج التعظيم لها بما جعل فيها من الأمور المرضية والأحوال المحمودة فما بال العرش من بين ذلك ولا قوة إلا بالله


وعلى ذلك يفسد قول من يصفه بكل مكان إذ لا فرق بين مكان واحد مخصوص يضاف إليه وبين الجملة بل الفرد في بيان تعظيمه أولى إذ في ذلك تخصيص ذلك الشيء بالذكر وفي الذكر تشريف وتكريم فيرجع إلى ذكر علو ذلك الشيء وفي الإرسال وجمع الكل إلى تخصيصه وحقيقته صفة الله كما يقال رب كل شيء وإله كل شيء على تعظيم الرب وتبجيله وإذا قيل رب محمد وإله إبراهيم فإنما يقصد قصد تشريفهما وتعظيمهما فقياس ذلك أن تكون الإضافة إلى العرش توجب تعظيم العرش وتكريمه وإلى كل الأمكنة توجب وصف الله بها وذلك قبيح إذ لم يكن يوصف به في الأزل ولا يوصف شيء بالقرب إلى الله من طريق المسافة والمساحة ولا هو بالقرب إلى شيء من ذلك الوجه إذ ذلك جهة الحدود والتقدير بالأمكنة وقد كان ولا مكان فهو على ما كان يتعالى عن الزمان والمكان إذ إليهما ترجع حدود الأشياء ونهايتها ولا قوة إلا بالله






----------------------------------- صفحة 107


مسألة في أسماء الله


وقول الرجل قد يكنى به عن اسمه كقول فرعون وما رب العالمين قال رب السماوات والأرض وقول الله لموسى وما تلك بيمينك يا موسى قال هي عصاي فجواب الأول أن يقال


وقد يكون ما هو ما صفته فجوابه سميع بصير


وما هو أي مما يعرف له مائية في الخلق فهو يتعالى عن المثال


وما هو يحتمل ما فعله فجوابه خلق الخلق ووضع كل شيء موضعه وذلك حكمته


وقد يحتمل ما هو أي ممن هو فهو يتعالى عن أن يكون من شيء بل هو مكون الأشياء ولا قوة إلا بالله


والسؤال عن الكيفية يحتمل وجهين أحدهما طلب المثال له أن يكون مثلا لشيء من الأشياء والله واحد يجل عن الأشباه ويحتمل كيف صفته فجوابه مثل الأول أن ليس لصفته كيف إذ هو طلب المثال وهو يتعالى عن الشبه بالذات والصفة إلا أن يريد به أيوصف هو قيل بلى بما وصف به نفسه من الرحمة والعلم والقدرة


وقول القائل أين هو سؤال عن مكان وقد بينا أنه يتعالى عن ذلك ولا يوصف الله سبحانه بالإتصال بالأشياء ولا الإنفصال ولا بالحلول فيها ولا بالخروج منها من جهة المسافة على ما هو لأن الله تعالى كان ولا غيره فمحال انتقاله مما كان عليه لما مر بيانه وعلى التفسير بالخروج من صفات الخلق وشبهه يجوز ولا قوة إلا بالله






----------------------------------- صفحة 108


ويوصف بالقرب من طريق العون والنصر ومن جهة التشريف والتخصيص ومن جهته الرحمة والإحسان ومن جهة التوفيق والإرشاد وهذا النوع لأن وصف هذا كله وصف ذاتي جائز أن يقال لم يزل رحيما بأوليائه محبا لهم لوقت كونهم له أولياء مبغضا لأعدائه على ذلك وأما الوجوه هي حقيقة تلك الصفات يحققها غيره لا أنه بذاته يوصف فإنه فاسد لأنه لا يخلو من أن يكون له مدح وتمجيد وتعظيم فيكون له ذلك بغيره فيصير بخلقه الخلق ممدوحا منتفعا وهو الغنى بنفسه يتعالى أن يكون له بأحد مدح أو نفع فلذلك لا يوصف بذلك جل جلاله


ثم القول بفعله أنه لا يجوز أن يكون مفعوله لما لا يعرف ذلك في الشاهد ولما يوصف به ولا يوصف بغيره ولما بينا أن الوصف بغيره يوجب الحاجة إليه ويوصف به في الأزل لما بينا من إحالة التغير والزوال ولما لو جاز الوصف بما هو حال في غيره لجاز الوصف بكل شيء من خلقه وذلك ممتنع وقد بينا هذا فيما تقدم ولا قوة إلا بالله


الحكمة في خلق الجواهر الضارة


قال الفقيه أبو منصور رحمه الله الحكمة في خلق الحيات والجواهر الضارة وإن كانت العقول تقصر عن بلوغ كنه حكمة الربوبية على ما سبق القول في لزوم الحكمة لكل شيء من الوجه الذي خلقه الله وإن لم يعرف مائيتها يكون من وجوه المحنة بالضار والنافع الحاضرين ليعلم بهما لذة الثواب على الطاعة وألم العقاب على المعصية إذ الخلق جبلوا على قصد العواقب في الأفعال فجعل لها مثالا من العيان لتتصور الموعود في الأوهام فيسهل به السبيل والله الموفق


والثاني أن المحنة هي تحمل المؤنة التي تسهل وتصعب على البدن بالنظر والفكر والناس في تكلف النظر والفكر يختلفون لأنه ليست لهما منفعة حاضرة






----------------------------------- صفحة 109


وبهما الشغل عن اللذات والشهوات وتحمل مثله على البدن عسير وفي التقصير فيهما اختلاف وتفرق وذلك يعقب المعاداة والمجادلة وفي الموافقة مولاة ومسالمة فجعل الله تعالى لهم فيما خلق لهم شبيه الأعداء بما فيها من المضار ومثال الأولياء بما فيها من المنافع ليكون بشرهم زاجرا لهم على اعتياد كيفية معاملات الأعداء والأولياء حتى إذا بلغوا بمثلهم في جوهرهم عرفوا كيفيته من الحذر والتأهب والمعونة والنصر وعلى ذلك يؤمر الصبيان عند احتمال وسعهم العبادات والأخلاق المحمودة للإعتياد ليسهل سبيل ذلك عليهم وقت التكليف فمثله في خلق ما ذكر والله أعلم


وأيضا أن الخلق على اختلاف جوهرهم في المضار والمنافع جعلهم الله في الدلالة على مدبر لهم حكيم عليم وعلى وحدانيته كجوهر واحد في الإتفاق من جهة الدلالة والشهادة ولا قوة إلا بالله


فيكون في ذلك بيان عجيب حكمته أن جمع بين الضار والنافع والخير والشر على تناقضهما في الدلالة على وحدانيته والشهادة بربوبيته واحدا


وأيضا إنه خلق ذلك ليذل به الجبابرة والملوك فيعلو بذلك ضعفهم ولئلا يغتروا بكثرة الحواشي والجنود فيتعدوا حدود الله بما يرون من سلطان في قدرته تسليط من يشاء على من يشاء ولا قوة إلا بالله


وليعلم من تأمل خلقه على جوهر الضرر والنفع على غناه وتعاليه عن أن تمسه الحاجات لأن من ذلك وصفه فإنما يخرج فعله على وجوه تنفع ولا تضر وليعلم قدرته على ما يشاء مع ما لا يشاهد من الجواهر الضارة إلا وفيه منافع تعجز الخلائق عن الإحاطة بكنهها من ذلك النار مع ما فيها من الإحراق ففيها من إصلاح الأغذية والماء يجوز أن يكون به حياة كل ذي روح وهلاكه






----------------------------------- صفحة 110


وكذلك كل جوهر مر أو سم إلا فيه دواء للداء المعضل ليعلم الناظر أن القول بالشر بالجوهر والخير خطأ باطل بل كل جوهر منه ضر ونفع فيكون في ذلك أعظم آيات التوحيد مع ما فيه وجهان أحدهما القدرة التامة على ملك ما يضر وينفع ليرجو ويخاف ومن لا يكون كذلك لا يتم الأمر به لأنه لا يرهب منه ولا يرغب فيما عنده وقد يغلبه من له الأمران أيضا والثاني ليتم العبر وليصح الأمر والنهى فيكون للنظر والفكر مجال في الأمرين ولأنهما عظة بهما وعبرة ولا قوة إلا بالله


إختلاف الفرق في العالم


نبتدأ الحمد لله العلي الحميد ونتوجه إليه بالشكر له والتمجيد على ما أيدنا به من التسديد ونرغب إليه في العون على ما قصدنا له والتأييد فإنه على كل شيء شهيد ونسأله أن يصلى على محمد أفضل ما صلى على أحد من خيار خلقه وأن يعطيه سؤله وأن يلحقنا به بجوده فإنه غنى كريم


قال الفقيه أبو منصور رحمه الله أما بعد فإني تأملت وجه اختلاف البشر في العالم بعد ظهور آيات حدثه وأدلة جرى تدبير غيره عليه إذ ما من شيء من جوهر العالم وأركانه إلا وهو بجوهره يشهد بأنه مدبر مفطور وأنه مضطر إلى عليم بأحواله غنى بملك حوائجه حكيم يضع كل شيء موضعه لئلا يتناقض فيتبدد وأنه لا يحتمل بجوهره أن يرجع إلى عدد من المدبرين بما لديه تمكن الإختلاف الذي عنده يريد كل أن يظهر سلطانه ويغلب ملكه ويقهر كل من نازعه وفي ذلك التفاني والفساد اللهم إلا أن يكون لواحد منهم فضل قوة أو نصر يخضع له الجميع فيصير كل خاضعا له ذليلا بمعنى كل جوهر من جواهر العالم في خروجه على مشيئة غيره وجريه عليه سلطانه وهو






----------------------------------- صفحة 111


المعنى الذي هو دليل مدبر العالم عليم حكيم ليقوم به هو ويتم ويخرج من العدم إلى الوجود إذ الأعجوبة في ابتداء كونه إلى من يعلم كيفية إنشاء الأشياء ليست بدون الأعجوبة في دوامه وقيامه على ما هو عليه بل كانت أظهر والحاجة في ذلك إلى غيره أعظم إذ هو عن تدبير نفسه أعجز وأسباب آجاله له به أعظم مع ما في كل براهين كونه بعد أن لم يكن أيبن إذ كل ذي عقل وبصر لعله يذكر ابتداءه أو تقلبه من أحوال تقدمت من الصغر واللطافة مما إذا لم يجعل لتلك الجملة ابتداء يبطل كونه ثم احتمال كل الوهن والضعف إلى أن يتلاشى ويبطل مما يضطره إلى العلم بكونه بعد أن لم يكن وإن كان ذا أمر من يملك التدبير ويعلم بالأحوال فالموات هو التي تحت تدبير الأحياء ينتفعون به من حيث لا يشعر بذلك أحق بذلك ثم دل كون الأموات على ما للأحياء بها الإستمتاع على أن الذي دبرها هو الذي دبر الأحياء إذ جعلها مستمتعا لهم بها صلاحهم


فرأيت الشبهة اعترضت البشر من بعد ما بينا مما يجب أن يكون به دفع الشبهة لمن تصح من أوجه ثلاثة أحدها التقليد بمن ألفت نفسه به ومالت إليه فترك التفكر في الأدلة وأقبل على أماني النفس ثقة بهم أو رغبة في صحبتهم والوصول بهم إلى شهوات النفس أو أتهاما لآرائهم أن تهيء بهم إلى رشد أو إنعامهم وغيره من أسباب الشقاء حتى يبلغ بهم العياذ بشره النفس وسوء عاداتها


والثاني نظر إلى الوجود مما يقع تحت الحواس فوجده يتقلب من حال إلى حال بالمواد والأغذية وتولد بعض عن تعض وظنوا أن كون الأشياء لا عن شيء والفروع لا عن أصل محال وجوده لأنهم لم يعاينوا ذلك والشاهد عندهم هو دليل الغائب ثم تفرقوا فمنهم من يقول على هذا أمر العالم في الأزل






----------------------------------- صفحة 112


لكنهم اختلفوا فمنهم من يجعله كذلك على ما بينا من غير أن يكون له صنع وعلى هذا يخرج مذهب أصحاب الطبائع إن التفاوت والإختلاف على اختلاف الطبائع وتفاصيلها وسماها قوم هيولي والتفاوت في الذي ذكرت على مثال الأصباغ إنها تخرج على ألوان مختلفة بتفاوت المزاج واعتداله وعلى ذلك جعلوا جوهر البشر من اعتدال الطبائع والدواب من اضطرابه وعلى هذا كل شيء


ومنهم من يرى أصله الأربع من الطبائع ولكن لكل جوهر أصلا والطبائع دخيلة فيها ومنهم من يجعله كذلك بالطبائع ويقول هو واحد ويجعله علة لكون العالم فيوجب قدمه بوجوده ويذهب في إثبات الصانع إلى اتساق الأشياء واتقانها إذ ذلك لا يكون إلا بمدبر عليم إذ الطبع لا يرجع إلى قدرة وبه صلاح الأشياء فقالوا بالصانع ثم إذ هو كان في الأزل فأوجبوا كون العالم في الأزل على نحو اقتران الأشياء بعللها على أنه إذ كان العالم مواهبه ونعمه وأنه قادر بذاته فثبت وجوده وكرمه بذاته فيلزم كون الذي كرمه يوجبه وقدرته توجده ولا قوة إلا بالله


ومنهم من يقول هذا العالم كان عن أصل حدثت الصنعة فيه لكنهم اختلفوا فمنهم من يجعل أصلة طينة أحدث الباري منها هذا العالم


وقوم يجعلونه النجوم والشمس بما كن يجرين دائبات وبجريهن نشوء العالم ويجعلون للجرى ابتداء بإحالة كون شيء بشيء إلى ما لا أول له ومنهم من يجعلها تعترض فيها الأعراض فمن ذلك تولد العالم يسمونه من قبل هيولي ويصفونه على ما يصف أهل التوحيد الصانع ثم أبطلوا ذلك بإحتمال قبول الأعراض وتغيره من حال إلى حال






----------------------------------- صفحة 113


ومنهم من يقول أصله اثنان نور وظلمة من النور كل خير ونفع ومن الظلمة كل شر وضار لكن منهم من يقول كانا متباينين فامتزجا على ما مر بيانه


وعلى قول أصحاب الهيولي والطينة يجب أن يكونا واحدا فتفرقا إذ هو الأصل فصارا أصلا للشر والخير فبالتفريق عمل كل عمله على أن عامة هؤلاء يجعلون كون العالم بالطبيعة لا بالفعل


والثالث الإعتبار بالمعاني فقالوا إنا نجد العالم اشتمل على نفع وضر وعلى خير وشر ثم في العرف أن فاعل الخير محمود ومن ينفع غيره رحيم حكيم وأن فاعل الشر مذموم ومن يضر غيره قاس سفيه لم يجز أن يجئ من الله الذي هو حكيم رحيم فعل الشر أو الضرر بأحد ومثله في الشاهد ولا له السفه والقساوة وهذا مما ينتفع به أو يدفع الضرر عن نفسه فكيف لمن لا ينتفع بشيء ولا يضره شيء على قولهم إن الحكيم في الشاهد من يجر بفعله النفع به والضرر فأما من يضر غيره بلا نفع له فليس هو بحكيم فقالوا هذا باختلاف الأصل الذي منه العالم ليرجع كل موجود فيه إلى أصله من خير أو شر أو كان واحدا فيه الجوهران فتفرقا فكان من كل ما يكون من مثله أو بما اعترضت فيه الأعراض اختلف فرجع إلى هذا قول الدهرية المنكرة للصانع والمثبتة جميعا لعدد فسمت الثنوية لقولهم الخير بجوهره نور والشر ظلمة والمجوس سموا الخير الله والشر الشيطان


قال الفقيه أبو منصور رحمه الله ولو أنعم هؤلاء الفرق النظر فيما تقدم من ذكر الأدلة لعلموا قصور عقولهم عن الوقوف على الحكمة البشرية فضلا عن أن يحيطوا بحكمة الربوبية مع ما فيما إليه صاروا في الإختيار منع لهم عن دعوى






----------------------------------- صفحة 114


معرفة حقيقة الحكمة والسفه إذ من مذهبهم أن لا يرون بجوهر الشر إلا الشر وبجوهر الخير إلا الخير ثم لا يدري فيما سموه سفها أو حكمة إنه فعل الشر أو فعل الخير وكل الإنسان عندهم مشوب من الأمرين يرى بكل واحد خلاف ما يرى بالآخر فلعله رأى الحكمة سفها والسفه حكمة ثم لا يوثق بقوله لأنه خير فهو من جوهر الظلمة كذب كله ومن جوهر النور صدق كله فلا يدري بأي جوهرين ينطق ولا قوة إلا بالله


ثم إذ لم يكن لواحد منهما قدرة على الضرر ولا للأخر قدرة على النفع فانقطع موضع الرجاء والخوف جميعا فيذهب منفعة معرفة الحكمة والسفه


ثم إذ كان كل واحد من الجوهرين يعمل بالطبع فوقوع العلم بالحكمة إذا محال والسفه بالطبع والحكمة هي وضع كل شيء موضعه والسفه وضع كل شيء في غير موضعه ومحال وصف ذي طبع به إذ هو اختيار والنور عندهم لا يعلم ما السفه فيحذره ولا الظلمة تعلم ما الحكمة والجهل بمائية الشيء وبالوضع له شر فصار جوهر النور عندهم هو الذي اجتمع فيه العلم والجهل ثم القدرة والعجز بما لا يقدر على صرف السفه عن نفسه ولا يمنع الظلمة عن الضرر به فصار جوهر الخير عندهم مشوبا بالشر وجوهر الظلمة لا خير فيه فلزم على قولهم غلبة الشر على الخير والذي هو خير لم يعرف الشر والسفه فكيف يعرف هذا الذي يولد عن جوهر الخير بعد غلبة الشر عليه الخير والشر


على أن كل ذي طبع مقهور إذ لا يملك صرف ما يوجبه الطبع وإيجاب الخلاف وفي ذلك إيجاب قاهر يجعل ذا شرا بالطبع وهذا خيرا ولو رد ذا إلى اثنين كان فيهما ما في هذين نحو التسخين والتبريد أنه يكون بمن جعله كذلك وفي ذلك إيجاب القول بالواحد


ومن يقول بأن كل واحد منهما خالق قادر فإنه لا يخلو كل واحد منهما من أن يعلم الوجه الذي يمنع الآخر عن عمله أو لايقدر عليه أو لا فإن لم يعلم ولم






----------------------------------- صفحة 115


يقدر اجتمع في النور الجهل والعجز وفي ذلك بطلان السبب الذي له قالوا بإثنين وإن علم وقدر ثم لم يعمل في المنع لحقه وصف الشر


ثم لا يخلو النور من أن يعادي الظلمة أو لا ويحب تشاغله أو لا فإن كان لا يعادي ويحب فذلك شر لأن ترك عداوة العدو والمحبة له شر وإن كان يعاديه ويبغضه فالعداوة والبغض شر في المعروف من الشاهد فإن قال ذلك في الشاهد لثبوت الآفات فمثله في جميع ما أنكر من الحكمة في خلق النوعين ولا قوة إلا بالله


على أنه لا بد من الإقرار بعلم بعد الجهل في الشاهد وبالإحسان بعد الإساءة وبالندم بعد ذنب وبالإقرار بالإساءة بعد العقل وكذلك باعتقاد شيء حقا بعد أن اعتقده باطلا للوجود في الشاهد فأما أن نجعل الأمرين من النور فيكون منه الجهل والإساءة والذنب والسفه وكل شيء فبطل قوله بالإثنين لهذا الوجه أو نجعل الإساءة والسفه والجهل من الظلمة والإقرار والإحسان والندامة من النور فيكون ذلك كذبا وتحزبا وإهتماما وكل ذلك عنده من فعل الظلمة فقد أثبته للنور ثم الإقرار بما لم يكن كذب وسفه وإما أن يكونا من الظلمة فيكون منها خير وشر


وأيضا أن النور لا يخلو من أن يهتم للشر يحل بأوليائه ويحزن عليه أو لا فإن اهتم وحزن بطل قوله هو كله لذة وسرور وإن لم يحزن بطل قوله في فعل الشر والضرر إنه القسوة والشدة لا الرحمة وذلك في القول بإثنين بم يقال له التحرك بعد السكون أو لا ويريد شيئا ثم ينفر عنه ويحب أمرا ثم يبغضه ويكلم في هذا بمثل الذي ذكرت في الفصل الأول والله الموفق


فإن زعمت الثنوية في جميع ما عارضنا من اختلاف الأحوال وتضادها أن ذلك كذلك في الشاهد لشوائب الآفات من الظلمة في جوهر النور فيرى الشيء بغير صورته وبها يقع التواتر للعلم بالأشياء قيل فما يبعد أن يكون قولك كذا ليس






----------------------------------- صفحة 116


بحكمة ولا رحمة بل هو سفه وقسوة إنما كان منك لما شابك من آفات الظلمة فمنعك أن ترى كل شيء بجوهره وصورته ولا قوة إلا بالله


ثم الله سبحانه إذ هو القادر عليه بذاته لا يعجزه شيء الغنى بنفسه لا يحوجه شيء العليم بذاته لا يجوز أن يجهل شيئا الحكيم بذاته لا يجوز الخطأ منه في الفعل بطل أن يكون في خلقه تفاوت تتناقض لديه الشهادة يتضاد فيه التدبير ولزم القول بكل ما لا تبلغه عقولنا بدرك الحكمة بعد أن ثبت أنه منشئه ومحدثه أن نعلم أن فيه حكمة بليغة لم يبلغها على ما لا يعلم أن كل حاسة من حواسنا جعلت لدرك ما تقع هي عليه وإن كانت تقصر ربما عن الإحاطة وتجيء حاسة أخرى فتحيط به فمثله العقل إذ هو مخلوق محدود لا يجاوز الحد الذي جعل له مع ما كان موجودا فيه قبح كل شيء يظهر حسنه وفساد شيء يظهر صلاحه فثبت أنه ربما يعتريه ما يمنع عن كنه ما يقع عليه من الحكمة والسفه


وبعد فإن تقدير جهة الحكمة ممن هو محتاج فقير يحبب إليه حاجته ويزين في عينيه فقره ويحسن أشياء قبيحه بالعادة والإلف وكذلك أضدادها فإن من هذا وصفه من الإحاطة بحكمة الربوبية ولتلك الآفات أيضا عجز عن إنشاء فعل لا عن شيء إذ هو يتقلب بالجوارح ويستعمل الآلات فأنى يكون لمن ذلك محله في فعله بعد علمه أنه يعمل بقوة أحدثت وعلم أفيد هو التحكم بالعجز والجهل على من هو بذاته قادر عالم بالعجز عن مثله والجهل ولا قوة إلا بالله


ثم عليهم في الفصل الأول أن يقال أيا من النور والظلمة إذا آذته بالإنتهاء عنه وينهاه عن ذلك فإن قال لا أقر بسفهه إذ مثله فعل السفيه في الشاهد وإن قال نعم كلفه ما لا يحتمل جوهره عنده فهو سفيه أيضا ولا قوة إلا بالله


وأما أصحاب الطبائع فإن الطابع مقهور لا يقدر على الإمتناع عما طبع عليه بل يقدر غير كل ذي طبع أن يمنع إياه عن توليده فثبت أن عمله لغيره ما






----------------------------------- صفحة 117


يعمل إذ قد يمنع بغيره عن العمل ولو كان بنفسه يعمل ذلك ما احتمل ما دامت نفسه مع ما إذ كان لا يمتنع من عمل ثبت أنه مقهور تحت قاهر عليم


ثم كل ذي طبع لا يعلم في شيء بطبعه إلا أن يكون الآخر مجعولا بحيث يقبل ذلك نحو الشيء الذي يتأذى لا يؤذيه الفعل الذي في غيره مؤذ وكذلك المؤلم والملذ وكذلك الأصباغ وليس عمل الطبع أن يجعل شيئا يقبل طبعه ويتأثر به فثبت به كون غير الطبائع مع ما لو خلى بين ذي الطبع وعمله لكان لا يؤلف ولا يصور فدل وجودها على غير ذلك أن لها منشئا


وبعد فإنه لو خلى بين الأصباغ وانصباغ الأشياء بها ليخرج فاسدا مسمما وإنما يصلح ذلك لحكيم عليم يضع كل شيء موضعه فمثله أمر الطبائع وهو في شأن الطبائع أحق إذ هي تتنافر وفيها التباعد أو يقدح في الأشياء بلا حد وفيه الفساد فدل الإتساق وقيام الأعيان بها على عليم قاهر جمع بينها وقهرها معا مع ما كان لكل مجتمع الطبائع حامل يحملها ليس هو لهن فثبت بالضرورة وجودهن وقد مضى من هذا النوع ما فيه مقنع وقد نجد الحرارة ترتفع بطبعها والبرودة تنحدر وقد يجتمعان في جسم فثبت أن ذلك لمدبر قاهر عليم


ومن يقول بقدم الأعيان فوجدناها غير خالية عن الحوادث لمنع القول بذلك لوجوه أحدها في القدم خلاء وفي ذلك تكذيب شهادة العيان والثاني وجود كثير من الأعيان وابتداؤها لمدد تعد وهي من آخر الجملة تحتمل ما يحتمل الكل لذلك لزم القول ولم يجز أن يقال كان كامنا فظهر أو متفرقا فاجتمع لما فيه إثبات غير حكم العيان وإذا احتمل ذلك وإن ارتفع عن الإحاطة به احتمل كون العالم من لا شيء وإن ارتفع وجوده عن توهم البشر بدليل والكمون لا يحتمل لإحالة كون شيء واحد مكانا لعشرة مثله ولا قوة إلا بالله


ولما لا يخلو العيان وصفته من صور ثم لا يخلو من مصور كسائر ما






----------------------------------- صفحة 118


يحس أو صفته وهي لا تقوم بنفسها ولكن بمقيم فلا يحتمل العدم ولا قوة إلا بالله


مع ما كان كل شيء يعلم من نفسه عجزه وجهله بأحواله وما فيه صلاحه فيكون ذلك دليل الكلية وغير ذلك من الأدلة التي تقدم ذكرها


ثم وصف الصانع بالقدرة في الأزل والجود لازم وكذلك عندنا بالصنع ليكون كل على ما كان ويكون أبد الآبدين على ارتفاع القدم عن كل كائن به لأنه نوع الفناء وإحالة معنى التكوين عنه إذ هو الكون نفسه وعلى ما كان ما لا تخلو الأعيان من الحوادث التي طريقها القدرة والكرم ثم رجعت إلى الحوادث على ما يحتمل ذلك فمثله الأعيان ولا قوة إلا الله


ولو كان الكل قديما لكان وصف القدرة والفعل يزول عنه في الحادث بل كان تكوينه أن يكون كل شيء على ما علم أن يكون ويريد بتكوين لم يزل به موصوفا إذ هو يتعالى عن الحوادث فيه بما يصير بمعنى العالم الذي دل إحاطة الأحداث به على حدثه فمثله الصانع والله الموفق


مسألة في طرق التوحيد


قال الفقيه أبو منصور رحمه الله ثم القول بالتوحيد من طرق هو أن قول أهل الدهر على اختلافهم اتفق على واحد بادئ أو قدم طينة أو هيولي وهو واحد حتى اعترضت فيه الأعراض وتغيرت عن الحال الأولى


وقال الثنوية إن الحكيم الرحيم العليم واحد وإن معنى الآخر ليس هو بمعنى الربوبية بل هو ضد معناه إذ هو سفه كله وشر






----------------------------------- صفحة 119


وأهل الأديان يثبتون القدم للواحد حتى قال قوم بتجسمه من بعد وقوم إن له ابنا


فهم على اختلافهم أجمعوا على الواحد ونحو ذلك أنه ليس بذي شبيه إذ محال ذلك إذ لم يكن غيره فهو على ذلك إذ الوجه الذي فيه شبه وجود ما في غيره من الحدث وذلك بعيد وهذا معنى الواحد إنه إذ هو واحد في علوه وجلاله وواحد الذات محال من أن يكون له في ذاته مثال إذ ذلك يسقط التوحيد وقد بيناه وواحد الصفات يتعالى عن أن يشركه أحد في حقائق ما وصف به العلم والقدرة والتكوين بل كل وصف من ذلك لغيره به بعد أن لم يكن ومحال مماثلة الحديث القديم ولا قوة إلا بالله


قال أبو منصور رحمه الله أعطى جميع البشر ممن له نظر التوحيد في الجملة ثم نقض كل فريق منهم ما أعطى في الجملة بالتفسير إلا فريق من أهل الإسلام لزموا ما أعطاهم الجميع


وذلك نحو من يقول من الدهرية بالباري وقدم الباري فجعل معه جميع الأعيان في الأزل وفي ذلك إبطال التوحيد


ومن يقول بالطينة والهيولي فيجعلهما واحدا ثم أتلفه وجعل ما لا يحصى منه على الإنتقال والفناء


ومن يقول من الثنوية بالواحد العليم فهو يذهب إلى أنه واحد الجنس إذ يجعل جميع الخيرات أجزاء له وذلك قول المنانية ونحوهم من الزنادقة والمجوس فأبطلوا معنى الواحد بالقول بالجسم إذ هو اسم ما يكثر منه


واليهود حققوا له شبه الخلق فيكثر به العدد حتى بلغ قولهم إلى حد إمكان الولد


والنصارى يقولون بالواحد في الكيان والثلاثة في القنومات منفى عن كل






----------------------------------- صفحة 120


قنوم الجزء والحد ويقولون كان غير مجسم ثم تجسم ومعلوم أن الجسم هو صورة تتجزأ وتتبعض


وأصحاب الطبائع لم يوجبوا الطبائع لأنفسها تعمل حتى يكون من يجمع بينها ويفرق وذلك أزلي عندهم


ومن منتحلي التوحيد المعتزلة يقولون بالأشياء في القدم واسم القدم يأخذ الأزل فمثله الأشياء فيبطل على قولهم التوحيد على ما بينا من قول الدهرية في قدم العالم مع ما كان الله عندهم غير خالق ولا رحمن ولا رحيم ثم صار كذلك يحدث الأشياء على ما قالت الثنوية من التباين بالذات ثم الإمتزاج وعلى ما قال أصحاب الهيولي والطينة إنه كان واحدا على جهة ثم صار على تلك الحال بما حدث من الحوادث لكن قول أولئك ألزم بحق العقل من قول المعتزلة إذ هم ألزموا التغير بحوادث في الأصل وهؤلاء بحوادث في غيره ولا أحد يتغير في الشاهد عما عليه بما لا يحل به ولا قوة إلا بالله


وعلى هذا القول الحسين والبرغوث وغيرهما في هذا الثاني وهؤلاء أيضا ألزموا التغير بالمكان حيث قالوا كان ولا مكان ثم هو موصوف بكل مكان فألزموا الوصف بالمحدث فيبطل معنى التوحيد


والمشبهة يقولون له مثال في الخلق في الجسمية والحد والنهاية والحركات والسكون يحققون له ما به عرف حدث العالم ويجعلونه مثالا له جل الله عن ذلك






----------------------------------- صفحة 121


فحصل قول فريق بالتوحيد أنه واحدي الذات إليه حاجات الآحاد متعال عن معنى الآحاد عما يوجب صفة الأعداد ويتمكن فيه صفة التغير والزوال أو الحدود والنهاية موصوف بالقدم والتكوين والقدرة جل وعز عن التغير والزوال والحمد لله على كل حال


ثم رجع اختلاف الدهرية إلى ثلاثة إلى تباين ثم الإجتماع وذلك قول الزنادقة والثنوية ومن يقول بالنور والظلمة وإلى اجتماع ثم التباين وذلك قول من يقول بالطينة والهيولي مع الجهل بهما على القول بالقدم ويشبه أن يكون هذا قول أصحاب الطبائع على أنه لم يظهر ذلك من قولهم ثم بقدم التفرق أو الإجتماع ويرون ما عليه العالم عليهما وعلى ذلك قول من يقول بقدم الأعيان مع حوادث لا أول لها وقول المفرق بين الحالين ظاهر التناقض لأنه أوجب أحد الوجهين لنفسه من التباين أو الإجتماع إذ ذلك وصفه بالقدم ثم ذهب عنه ذلك من غير ذهاب نفسه فبطل ما كان عليه مع السبب الذي به كان وذلك وجود علة إيجاد الشيء في حال ارتفاعه وذلك فاسد في العقل مع ما لو جاز ذا لجاز أن يصير القديم حديثا والحديث قديما وفي ذلك بطلان قولهم في القدم مع ما لو جاز وجود ما ثبت بنفسه زائلا وما زال بنفسه ثابتا لجاز وجود






----------------------------------- صفحة 122


ما وجد بنفسه عديما وعدم ما عدم بنفسه موجودا وفي ذلك وجهان أحدهما كون العالم بعد أن لم يكن ووجوده بعد العدم وفي ذلك فساد مذهبهم ووجوب القول بحدث العالم بلا أصل له ولا قوة إلا بالله


والثاني لو جاز أن يصير المجتمع بذاته متفرقا والمتفرق بذاته مجتمعا من غير حدث به لجاز كون المجتمع متفرقا وقت كونه مجتمعا إذ ذاته قائم وذلك مما لا صبر للعقل عليه مع ما يزول به معرفة الأغيار البتة إذ لا علم عليه أدل من الذي ذكرت وفي ذلك جواز جعل الشر خيرا والظلمة نورا والحي ميتا والمتحرك ساكنا والبارد حارا ونحو ذلك من الأضداد وفي جواز ذلك بطلان القول بقدم التباين والإجتماع إذ كانا معا وفي ذلك فساد القول بالدهر ولا قوة إلا بالله


قال أبو منصور رحمه الله والأصل في ذلك أنهما عند التباين لا يعدو إما أن كانا كذلك بالطبع أو بالإختيار أو بأخر يجعلهما كذلك وكذلك المجتمع منه ثم التباين والإمتزاج لا يعدوان ما ذكرنا فإن كانا كذلك بالطبع لوجب أن يزداد من ذلك فيما كان أصله التباين أو الإجتماع أن يزداد منه ألا يرى أن كل متحرك بالطبع يزداد بحركة وكذا يستحق وكذلك كل جوهر بطبعه يعلو وموضعه فوق ومن بطبعه يسفل فمحال لهما الإجتماع أبدا وكذا هذا العبرة بين من يتحرك من جهة اليمين مع الذي يتحرك إلى اليسار وفي ذلك بطلان ما قالوا وإن كان ذلك بالإختيار فالقول بأن كانا على غير ما عليهما فاسد لأنه لا دليل على تثبت خلاف لما عليه الشاهد أن يكون الذي اختياره التباين يقع معه اجتماع أو الذي اختياره الإجتماع يقع معه تباين فبطل الإختيار مع فساد قولهم من بقاء كل بجوهر الآخر واحتباسه وتحقيق ذلك أن احتباس الخير في الشر شر ولما لو كان لهما الإختيار لكان لا يخلو كل واحد منهما من القدرة على منع الآخر عن فعله واختيار ذلك والعلم بكيفية ذلك فإن لم يكن بطل معنى






----------------------------------- صفحة 123


الإختيار وتحقق فيهما جميعا العجز والجهل وإن كان ذلك كذلك بطل الإختلاف عما كانا عليهما لما به يصل كل إلى ما يؤذيه ويضره


وبعد فإن في تحقيق ذلك تجهيل كل واحد منهما الآخر وتعجيزه وفي ذلك إفساد القول ولا قوة إلا بالله


وإن كان ذلك بآخر ثبت حدث التفرق والتباين وهما لا يخلوان منه فلزم حدثهما وفي ذلك لزوم القول بالتوحيد بما أريد به نفيه ولا قوة إلا بالله


ومن جهل الأمرين جميعا فقد أقر أن لا قول تكلم عليه وأنه ممن لا يحتمل عقله البلاغ إلى العلم به وإنما طريقه التقليد فأشكل عليه لاختلاف ما أدى إليه فإنما تكلم من عنده أن الذي أداه إليه حق يظهر عند ذلك الحق ثم إذ محال إجتماع الأمرين من حيث بينا من التناقض فثبت أن الحق لو كان فيما يقول أهل الدهر فهو في أحد ذينك القولين وقد بينا فسادهما جميعا وبالله المعونة


قال محمد بن شبيب في ذلك بما كان معناه عندنا إنه إذ لا يخلو القائم على ما عليه من التضاد والتناقض من أن يكون كذلك أبدا فيبطل كونه من حيث لا يتوهم كون شيء من الجملة إلا أن يكون شيء هو فيها فيكون مع ذلك كل كائن منها المانع لكونه فيبطل كمن يقول لا يدخل أحد هذه الدار حتى يدخلها غيره إنها لا تحتمل دخول أحد فيها على وفاء الشرط أو إن كان عن تباين قد تقدم فيبطل الوجود للتضاد إذ حقه التنافر بما تضادا بالطبع ولو احتمل الخروج عن طبعهما الذي فيه التضاد والتضاد يوجب ما ذكرت بالإختيار لجاز اختيار الفناء له في نفسه وإن كان هو بطبعه باق وإذا بطل الوجهان ثبت أنه كان بعد أن لم يكن بمن أحدثه كذلك على ما فيه الإختلاف والإتفاق ولا قوة إلا بالله






----------------------------------- صفحة 124


ثم لا يجوز أن يحدث بلا محدث لما لا يكون العدم به والوجود إلا واحدا ولما لا يعرف صورة إلا من مصور ولما تغير الأوقات من شتاء وصيف ونحو ذلك ثبت أنه كان كذلك فعورض بما لو كان فيما كان بنفسه يمنعه عن ذلك كونه في وقت دون وقت لم لا كان كذلك فيما كان بغيره فزعم أنه إذا كان بغيره تدبير كونه له لمصلحة في الدين أو الدنيا وفيما كان لا بغيره ليس كذلك لذلك اختلف الأمران وهذا الذي يزعم يوجب أنه لا يجوز أن يجعل أول الخلق غير الممتحن حتى يكون له في الذي ذكرنا وإذا جاز غيره بلا مصلحة لذلك الوقت دون غيره لا معنى لما قال وقد بينا نحن القول بالخلق وإحالة السؤال عن لم خلق وليس لنا أن نزعم أنه لا يفعل إلا الأصلح فيلزمه حق الفعل حتى يلحقه وصف ذم إن أخر أو قدم بل الله تعالى إذ هو حكيم لا يخرج فعله عن الحكمة وأما اعتبار الأصلح لغيره إنما تقدير الحق عليه لا تقدير الفعل بذاته ومحال كون الحق لغيره عليه ولا غير بل السؤال عن جملة الخلق فالقول في أنه يخلق لنفع لهم أو صلاح لهم لا معنى له إذ ليس عليهم فيما لا يخلقهم ضرر ولا فساد فيكون الخلق لما ذكر والله أعلم


ثم في الجملة لا يخلو خلق من أن يكون للمتحن به نفع وعبره من طريق الإستدلال به والإعتبار سوى المنافع الأخر مما من الله عليهم بها وبالله التوفيق


وأصل صلاح العبد في الدين إنما هو بفعله وكذلك فساده ولله تعالى بالأسباب التي بها ينال فعل الصلاح عليه أعظم المنن وأجزل النعم ومن فسد فهو لأغراض عن الله وإيثاره شهوته على طاعته خلى الله بينه وبين ما اختاره لنفسه إذا آثر هواه على أمره وشهوته على طاعته والفعل الذي بين له أنه فعل العداوة على ما هو الولاية ولا قوة إلا بالله


فعورض بأول خلق خلقه لنفسه وليس ثمة مصلحة فزعم أنه ليس ثمة وقت ليقال فيه لم لا خلق قبله وإنما ذلك متى يكون هو أول وهو أصلح






----------------------------------- صفحة 125


في التدبير وأولى بالحكمة وما هو كذلك فيخرج السؤال على أنه لم لا خلق دونه في الحكمة وحسن التدبير


قال الشيخ رحمه الله فما ذكرت من الوقت فهو ما يذكر على أن السؤال في مثله ساقط لأنه لا يشار إلى وقت وإلا لو كان الخلق قبل ذلك إلى ما لا يحتمل اللسان من عدد الأوقات ممكن وفي ذلك بطلان السؤال إلا عن قدمه وذلك تناقض لإحالة وقوع التكوين على الكائن في القدم ولا قوة إلا بالله


وما ذكر من الحكمة فذلك حق وما ذكر من الأصلح لا أدري ما أراد به وما قال من دونه أو مثله فالقول به لا معنى له ولله تعالى أن يفعل الفعل الذي لا يخرج عن الحكمة إذ الخروج عنه يحقق السفه وذلك يسقط الربوبية ثم في الحكمة طريقان أحدهما العدل والثاني الفضل وليس لما يقدر الله من الأفضال نهاية فيتكلم في الشيء بأفضل ما يبلغه قوته من الفعل مع ما ليس عليه الأفضال يختص به من شاء


وغير جائز خروج فعله من الحكمة لما ذكرت وكذلك معنى العدل إنه وضع كل شيء موضعه لكن له درجات يوصف فعل بعضها إحسانا وأفضالا وفعل بعضها عدلا وحكمة إذ هما اسمان عامان لكل ما للفاعل فعله والأول خاص من حيث كان له تركه فيفعله منعما محسنا ولا قوة إلا بالله


وسؤال القدرة على خلق شيء قبل هذا الخلق يخرج على ما بيناه في الوقت والله على كل شيء قدير


ثم عورض بما لم لا كان لم يزل يحدث الأشياء فأجاب بالذي تقدم ذكره من فساد كون شيء قبل شيء إلى ما لا نهاية له


قال الشيخ رحمه الله وجواب هذا عندنا أن يقال لو أردت بقولك لم يزل يحدث الأشياء ليكون هي لم يزل فذلك محال لما فيه إثبات قدمها وفي قدمها فساد إحداثها وإن أردت به الإحداث ليكون كل شيء من ذلك لوقت كونه فذلك حق إذ هو بذاته خالق لا بغيره






----------------------------------- صفحة 126


ثم نذكر ما عارض محمد بن شبيب من أسئلة الملحدين فعارض عن الواحد الذي يعبده ما هو وقد بينا ما يجاب له وهو زعم أن ذا يحتمل مثل ذا وقد بينا أن لا شبيه له ولا يحتمل ما يشار إليه ولم نكن نعرفه بالحواس فنشير إليه وما هو بمعنى يوجد بالأدلة وشهادة العالم وما هو ما اسمه الله الرحمن الرحيم


وجواب ذلك عندنا هو الله الواحد الذي ليس كمثله شيء وبهذا الحرف نقطع سبيل العود إلى السؤال لأنه يعود إلى ما يتصور في الوهم وفي هذا نفيه إلا من حيث الوجود بالأدلة ولا قوة إلا بالله


ثم أجاب عن قوله أين هو إنه في الأشياء مدبر لها لا على الحلول كما يقال فلان في عمله وقال لا على إحاطة الأشياء به


قال الشيخ رحمه الله وقد أخطأ في الجواب بل حقه أن يقال تسأل عن المكان وقد كان ولا مكان وهو يتعالى عن الوصف بالأمكنة بل هو على ما كان بلا تغير ولا زوال والقول بالكون في العمل إخبار في المتعارف عن العمل الشاغل له الحابس فيه عن غيره والله يتعالى عن هذا الوصف


ثم أجاب من سأله إنكم إذا نفيتم عن الله شبه خلقه وعن خلقه شبهه فقد شبهتم فقال ذلك نفى وليس في النفى تشبيه ألا ترى أن من قال مثله في السواد والبياض من أنه لا يشبه أحدهما الآخر إنه لا يوجب التشابه وإنما يكون ذلك في الإثبات


وما ذكره حسن ولو كان بذلك تشابه لكان بقوله هذا يشبه ذا إيجاب الخلاف وفي ذلك قلب الحقائق وإبطال المجاز كله وجملته أن النفى يرفع المنفى عن الوهم والعقل وإذا ارتفع ذلك لم يقدراه والتشابه هو الواقع تحت قدر من جوهر أو صفة أو حد فلذلك بطل معناه


وبمثله يجاب لمن يزعم أنكم إذا لم تصفوا الله بمكان فقد حددتم وأن الحد






----------------------------------- صفحة 127


هو نفاية المكان ومحال نفى تحديد في الوصف به وكذلك الأمكنة بل القائل بكل مكان أو بمكان دون مكان هو الذي حده إذ أثبته على ما أثبت المكان المضاف إليه ما يقدره العقل والوهم وعند ذلك التحديد والتشبيه ولا قوة إلا بالله


ثم أجاب لسؤال كيف خلق الله الخلق إنه لو أراد به المعالجة في الفعل فهو غير جائز بل ابتدعه وأحدث عينه بلا علاج ولو أراد أي شيء خلق يشار إلى الجواهر من نحو السماء وغيرها إذ خلق الشيء زعم هو ذلك الشيء ولو أراد به لم خلق فلمنافع الخلق في دينهم وما هو أصلح لهم فيما كلفهم


وقال الفقيه رحمه الله جواب هذا السؤال دفعه أن ليس لفعله كيف إذ كل ذي كيف هو ذو أمثال ثم القول في كون خلق الشيء أنه هو أو غيره اختلاف فمنهم من يقول هو هو وبه يقول والسؤال على مذهبه فاسد لأنه لا غير لخلقه فيمثل هو به ومنهم من يقول خلق الشيء فهو صفته التي وصف بها في الأزل فالسؤال عن كيفيته هو السؤال عن كيفية ذاته وعلمه وقدرته وذلك فاسد


ثم أجاب من سأل أمن شيء خلق الأشياء أو من لا شيء فقال لا من شيء معناه أن اخترع الأشياء أي ابتدعها من غير أصل وهذا فيما أخبر من حدث الأجسام لكن مذهب المعتزلة أن شيئية الأشياء لم يكن بالله بل كان به وجودها فيكون على قولهم خلق الأشياء لا من شيء محال بل لم يخلق الأشياء لكنه أوجد أعيانها عن العدم وهن في العدم أشياء وذلك من مضاهات الدهرية والحمدلله الذي عصمنا عن ذلك


وجوابه لسؤال الله غريب إنه خلق لمنافع الخلق وسئل إنه لم خلق قال لمنافع الخلق ولم خلق لمنافع الخلق وأي حاجة كانت للخلق ولا خلق






----------------------------------- صفحة 128


ليخلق الخلق لمنافعهم فلو جاز أن يقال خلق خلقا بلا حاجة لمنافعهم كيف لا خلق إذا لمنافع نفسه وإن لم يكن له حاجة وهذا بقوله أولى لأنه كان غير خالق ولا رحمن ولا رحيم وهذه أسماء التعظيم والمدح وكأنه انتفع بالخلق عندهم إذ لم يكن كذلك بذاته فصار كذلك بخلقه جل الله عن صفات الحاجات والمنافع ولا قوة إلا بالله


قال الفقيه رحمه الله وقوله خلق هو ذلك الشيء فإذا الشيء بذات الله أو بذات نفسه إذ لم يكن من الله إلا ذاته ولا إلى الخلق منه سوى الخلق بذاته فكيف صار هو خالقا ولم يكن منه غير الخلق دون أن كان الخلق بلا غيره ولم لا كان الخلق في أن يكون خالقا أحق منه إذ لم يكن منه إليه سوى أن كان هو وقدم الشيء لا يوجب كون آخر به إذا لم يكن منه إليه ما به يكون في الشاهد كيف أوجب ذلك في الغائب


وقوله لكيف خلق لم يخلق بالمعالجة وما ذكر كلام لا معنى له لأنه لم يسأل عما لم يكن بل سئل عن كيفية فعله فقوله لم يعالج لا معنى له وإذا كان عنده أن خلق الشيء هو ذلك الشيء فليذكر إذا في جوابه ذلك الشيء دون أن يقسم السؤال ثم يزيل عنه المفهوم من الكيف ولا قوة إلا بالله


وأجاب لمن عارضه بأنه إذا لم يزل عليما سميعا بصيرا لم لا قلت إنه لم يزل خالقا فزعم أن في ذلك إيجاب الخلق في الأزل ويعنى بلم يزل سميعا نفى الصمم ونحو ذلك في العالم والبصير وزعم أنه يقول لم يزل الخالق ولا يقول خالقا لما ذكر


قال الفقيه رحمه الله فإن لم يكن في قوله لم يزل سميعا بصيرا عليما إلا أنه ليس بجاهل ولا أعمى ولا أصم فكان التصريح بهذا أولى إذ هو أبعد من الشبهة






----------------------------------- صفحة 129


إذ قد يجوز أن يقال للشيء ليس بجاهل ولا عاجز ولا أصم ولا يجب به الوصف بقادر عالم سميع بصير فإذا لم يكن في ذا سوى نفى الذي ذكر فحرف النفى أقرب من حرف يفهم ما لا منفعة في فهمه بل فيه كل ضرر ولو لم يرد بذلك سوى نفى الأضداد فليقل هو صحيح سليم معافى على نفى الأضداد دون تحقيق الذي ذكر فإذا لم يجز ذا بان أن الذي زعم من بيان حاصل الذي ذكر وهم


وبعد فإن خروج الأفعال المتتابعة على حسن النظام والإحكام هي أدلة العلم بها والقدرة عليها لا أنها أدلة من ليس بجاهل ولا عاجز إذ غير واحد بما وصفه لا يكون منه فعل البته ولا اتساق نحو الأعراض كلها ولا قوة إلا بالله


على أنها أسماء عن صفات تسقط لسقوط الصفات فإذا لم تحقق الصفات صيرت الأسماء أسماء ألقاب وإذا صارت كذا فالقول بأنه لم يزل كذا كلام لا معنى له لإحالة اللقب في الأزل ولا قوة إلا بالله


ثم إذ لم يجب في القول بسميع عليم كون كل معلوم مقدور عليه مسموع في الأزل فمثله في القول بالخالق لكن خالق الأشياء ليكون على ما هي عليه كما هو عالم بها كذلك وقادر ونحو ذلك وإذا كان القول بعالم سميع بصير وبالعالم السميع البصير واحدا فكذلك بخالق والخالق واحد بل الخالق في إيجاب قدم الخلق أحق لو كان التقدير من الملفوظ من خالق ألا يرى أنه على وزن خالق يقال مالك يوم الدين وخالق كل شيء يدخل في ذلك كل حادث وقائم ليس في قوله الخاق ذلك ولا هو يقول عليه في العرف ولا قوة إلا بالله


قال أبو منصور رحمه الله والأصل أن الله تعالى إذ لا سبيل إلى العلم به إلا من طريق دلالة العالم عليه بانقطاع وجوه الوصول إلى معرفته من طريق الحواس عليه أو شهادة السمع ثم الشاهد يدل عليه من وجه الشهادة له بالصفة لا من وجه الشهادة بالذات إذ الوجود بعد أن لم يكن هو دليل الإيجاد والإحداث






----------------------------------- صفحة 130


الذي به يعلم الموجود المحدث واختلاف أحوال الشاهد وإجتماع المتضاد في الواحد هو دليل قدرته ونفاذ التدبير الذي بالمدبر القوى يكون واتساق التدبير وعدم التفاوت في الواقع تحت العقل على كثرته دليل علم العقل الذي به يعلم العالم ولا شيء في المحسوس يدل على ذات إذا نفى عنه الصفة لم يجز القول بإثبات ذات غير تحقيق الصفات إذ ذلك غير طريق شهادة العيان وكذلك شهادة من ثبت صدقهم بالأدلة جاء بالعليم السميع البصير على ذكر العلم والقدرة ونحو ذلك مع العلم أن هذه الأسماء من أسماء الصفات


ثم إذ لم يجز الوصف بالمكان وبالخروج أو الدخول أو الإتصال أو الإنفصال أو البينونة أو نحو ذلك على نفى أضداد تلك الأحوال من غير إثبات تحقيق الملفوظ وكذلك شأن الإجتماع والإفتراق والتحرك والسكون لم يجز الذي قالوا وبالله التوفيق


قال أبو منصور رحمه الله إذ ثبت حدث العالم ومحال كونه بعد أن لم يكن على ما عليه من قيام الأوائل بالأواخر واتفاق ذلك علم أنه كان عن علم به ثم محال كون حس به يعلم ولا محسوس أو قياس ولا عبرة ثبت أنه عالم لذاته وفيما العالم لذات العالم سواء في غيبة المعلوم وحضرته ولا قوة إلا بالله


قال أبو منصور رحمه الله والأصل في ذلك ما ذكرت أنه عرف لا بالحس وفيما عرف به دليل علمه به إذ جعله على وجه دله عليه ثم لم يحتمل أن يكون علمه به غيره لما لم يكن غير حتى أنشأه ثم ذلك المنشأ كان دليلا عليه ثبت أنه كان قبل كونه عالما به ولا غير له غيره به علم ثبت أنه عالم بذاته لا بغيره والله الموفق


ثم سأل نفسه عن أشياء لا معنى للسؤال عنها إلا عن التعنت وحق جواب التعنت التأديب بما يمنعه لا الإستدلال بالأدلة على نحو ما بينا من شأن






----------------------------------- صفحة 131


سوفسطائي فسأل عن الله أنه أليس على كل شيء قدير فأجاب بنعم فقال يقدر على إدخال الدنيا في بيضة فأجاب بالتناقض لما في ذلك جعل البيضة أوسع منها وقد جعلها أضيق منها إذ هي جزء منها وكذلك هذا التأويل في الأصغر والأكبر


قال الفقيه رحمه الله وجوابه عندنا أنه أراد بما قال على إبقاء البيضة بعضا للدنيا فهو محال لما فيها انقلاب بعض كلا وكل بعضا بلا تغير عن حاله وذلك تناقض وإن أراد بالبيضة وغير البيضة من الدنيا يجعل فيها فهو على وجهين أحدهما أن يكونا بحالهما فقد أحال لما ذكر محمد بن شبيب وإن أراد به بذلك تصغير ما قال أو توسيع البيض حتى يسع فيه ما وصف فهو على ذلك قادر وبالله التوفيق


وصاحب الكتاب ينتحل نحلة الإعتزال ومذهبهم أن الله لا يقدر على خلق فعل بعوض فما فوقه من الجواهر وفعل ذلك كله واقع تحت القدرة أو في ذلك لغيره قدرة فأبوا تحقيق ما ادعوا من أنه قادر على كل شيء في أكثر الأشياء التي هي في حد الإمكان في العقول فمعارضة أمثالهم بالخارج عن حد الإمكان في العقول لا معنى له ولا قوة إلا بالله


ثم سأل نفسه يقدر أن يخلق مثله قال ذا محال لما فيه إيجاب مخلوق والمخلوق محدث وهو قديم فيبطل أن يكون مثله لما به يسأل عن القدرة وهو مثل الأول في الأحالة وأيضا قال في ذلك إثبات مصنوع وهو لا يخلو من أن يكون جسما فيه آثار صنعه أو عرضا لا يقوم بنفسه ونفسه يدل على حدثه وهو ليس كواحد منهما قال وأيضا أن كل محدث يحتمل الفناء وهو يتعالى عن احتمال حدوث الفناء لما يصير ما لا يجوز عليه الفناء وما لا يجوز في غيره وقت على قلب ذلك


قال الشيخ رحمه الله ومن تأمل ما ذكر عرف حيد السائل في السؤال عن سنن القول فيما له احتمال التمكن في العقول لأنه سأل يقدر أن يخلق مثله






----------------------------------- صفحة 132


ومن يكون مثله لا يكون جسما ولا عرضا ولا محدثا ولا محتملا للفناء لأنه إن كان على شيء من ذلك فلا يكون مثله وبه سأل فكيف يبقى ذلك الذي ذكر وما ذكر هو أبعاض ما في كون ذلك نفيه ولا قوة إلا بالله


وقد قلنا على المعتزلة ما هو أوضح من ذلك مع ما يلزمهم من وجه آخر وهم أنهم يصفون الله بالقدرة على الكذب والسفه والظلم مما لو كان شيء من ذلك ليبطل ربوبيته ثم لم يجز فعله ذلك لذلك فليقل يقدر على خلق مثله ولكن لا يفعل لأنه ليست الأعجوبة في جعل الحدث قديما وما يحتمل الفناء غير فان وما يقع عليه أثر الصنع غير واقع ذلك إلا بالأعجوبة في جعل القديم حديثا والباقي فانيا والحكيم سفيها فإن استقامت القدرة على هذا على إحالة الفعل فمثله الأول على مذهبهم ولا قوة إلا بالله


ثم الإحالة على مذهبنا سهل وهو أن الله جل جلاله محال دخوله تحت القدرة فالقول بإدخال غير تحت القدرة ليصير بها مثله دفع المثلية عنه لإحاله دخوله تحت القدرة والآخر بها يلحقه به ولا قوة إلا بالله


وإن شئت قلت السؤال متناقض لأنه قال يقدر أن يخلق مثله ومثله لا يكون مخلوقا فكأنه قال يقدر على ما ليس له مثل من الخلق قبلي


وأيضا أن في الإحتمال غير ما هو عليه سقوط هويته فيكون ذلك الغير هو الهو الذي به يكون هوية الأشياء ولا قوة إلا بالله


والأصل أن الله سبحانه إنما ثبتت له الإلهية بما حقق تعاليه عن المثل والشيئية فمحال احتمال مثله لما به سقوط ألوهيته


على أن الكلام متناقض من الوجه الذي يقول لأنه يخبر أن يجعل فصيره مجعولا ومحال كون مجعول جاعل على إزالة الجعل الذي به كان لما به زواله ولا قوة إلا بالله






----------------------------------- صفحة 133


ثم على قولهم كان غير خالق فصار خالقا فقد أدخله من هذا الوجه تحت القدرة التي بها صار خالقا فكيف ينكر جواز من لم يكن كذلك فيصير كذلك بأنه خلقه كذلك كما صار هو كذلك بأن خلق غيرا والله المستعان


ثم سئل عن الله أكان قادرا على خلق الأشياء قبل خلقها زعم أنه نعم دليله أن العاجز ممنوع فدل وجود المحدث على قدرته وإذا كان هو قادرا بذاته لا بما يعرض من القدرة فهو موصوف بالقدرة على الدنيا وأمثالها مما لا يحصى


قال الفقيه رحمه الله فيقال له إذ هو قادر بنفسه لا بقدرة يعرض كيف زعمتم أنه يقدر على خلق جميع حركات العباد وسكونهم إلى أن يقدرهم عليها فإذا أقدرهم عليها زالت قدرته عليها إلا أن يأخذ القوة عنهم فهذا وصف القدرة بالذات أو بالعوارض ومن ذلك وصفه فالقول له بقوة لم يظهر منه الفعل محال وما يحتمل زوال قدرته فالقول بالقدرة بذاته على مذهبهم محال


وإنما أردت بما ذكرت من أقاويل المعتزلة وإن لم يكن لي إلى ذكرها حاجة ليعلم المتأمل أن لا سبيل إلى إثبات التوحيد ودفع معارضات الملحدة على مذهبهم وأن الحق من القول في التوحيد قول غيرهم ولا قوة إلا بالله


ثم زعم أن كل قادر سبقت قدرته فعله فهو وصف من قدر بغير وفعله بغيره فهو يتحول من حال إلى حال وتقبل ذاته الإستحالة والزوال فأما الله سبحانه فبنفسه يقدر على الأشياء ويفعلها فما يذكره في ذلك فاسد ولا قوة إلا بالله


وقد بينا فيما تقدم بأبلغ من هذا وبالله التوفيق وفي هذا آية جعل ذاته عالمة وقد بينا وهمه






----------------------------------- صفحة 134


ثم سئل عن خلقه الأشياء إذ لم يكن له فيه نفع ولا كان عابئا به فزعم أنه خلق العرض على ثواب الأبد وذلك حكمة فيكون فعله لنفع يكون لخلقه لا لعلة تقدمت الخلق وهو كاتحاد البنيان وأنواع الأشياء يحدث من العباد


قال أبو منصور رحمه الله وقد بينا نحن ما يقتضى هذا الحرف من الجواب على أن السؤال عن العلة محال لإحالة أنه يكن لأحد عليه سلطان أو يخرج فعله عن الحكمة فنسأل عنه


وبعد فإن السؤال عن تعرف حكمة الربوبية وحق ربوبيته علينا معرفته ومعرفة حقه وأمره والقيام بما علينا من طاعته وتعظيمه والإعداد لحق الجواب في كل ما يقوله ويعلمه وذلك يشغلنا عن طلب الإعتلال له في فعله أو الإحتجاج بالجواب عنه فيما تعدى السائل طوره وأعرض عما عليه من أعذاره لفعله الذي هو مسئول عنه مجزى به ولا قوة إلا بالله


وقوله خلق الخلق لنفع الخلق ونفعه ما ذكر فإنه حيد عن الجواب لأنه سئل عن خلق الأشياء ومن ذكر فهم صنف من الجملة فلذلك أوجب ذلك حيده


وعلى ذلك شأن القدرية فيما يسألون عن خلق الأفعال فيرجعون في الجواب إلى فعل الكفر والمعاصي وذلك فاسد لأن طريق هذا سمعي والأول الذي وصف عقلي


قال الشيخ رحمه الله والأصل عندنا أن الله تعالى لم يخلق خلقا إلا وأثر نعمه عليه ظاهر وأدلة جوده فيه بين وأنه حكمته بما فيه من دلالة وحدانية موجده وبرهان سلطانه ونفاذ مشيئة فيه محقق وعلامة قدرته وعلمه بحقائق الأشياء غير خفي في ذلك


والسؤال على أنك لم أنعمت أو لماذا أظهرت جودك ولم كانت الحكمة ولم أنت حجة وحدانيتك إلى آخر ما ذكر محال فاسد لا يقبله عقل ولا يحتمله وسع لقبحه لذلك بطل هذا النوع من السؤال وبالله التوفيق






----------------------------------- صفحة 135


ثم جائز أن يقال إذ هو بذاته جواد وبذاته قادر وبذاته عالم فجاد بخلقه على خلقه إذ هو خلقه إذ هو قادر على أن يجود ويظهر مواهبه وأصل هذا السؤال عندنا فاسد لأنه يجعل الفعل هو الذات وهو به موصوف في الأزل والسؤال عن ذلك كالسؤال على أنه لم كان ربا عالما ولا قوة إلا بالله


مسألة دفاع عن العلم والنظر


قال قوم ترك النظر أسلم لما لا يأمن الناظر بالظفر بالحق ثم فيه فتح باب الحجة على نفسه مما لو امتنع عنه ليأمن العطب من حيث لولا هو لم يتخلله السبيل الذي يظنه أو الباطل ليلزمه حجة الله إذ بالفكر والبحث إرادة ما يضطر إلى العلم بأن الحق في ما انكشف له مع اشتباه خاطر الرحمن في الأمر والتحذير من خاطر الشيطان وفي ترك النظر والبحث أمن ذلك إذ لم ينكشف له ما يلزمه التمييز ولا يخطر بذهنه ما يبعثه على الطلب ولا قوة إلا بالله


ومن ألزم النظر والبحث فيقول في تركه عطبه لا محالة لأن لزوم النظر ليس عقيب نظر تقدمه بل عقيب الذي به يقع النظر والبحث وهو العقل الذي به يعرف المحاسن والمساوئ وبه يعلم فضله على سائر الحيوان وبه يعرف ملك تدبير أمر الأنام مع ما يأتي عليه ذهنه وفطنته تبدده وفناه بما نال من لذة الحياة وركبت فيه شهوة البقاء وعظيم ألم أسباب الفناء لو اعترضه فلا بد من البحث في درك ما يلائمه ويبقى ألذ الأشياء وأشهاها عنده مما يأبى عقله المخاطرة بروحه في الإمتحان بالأشياء دون تكلف ما يطلعه على الضار منها فيتقيه والنافع من ذلك فيجتلبه إما بالبحث عن تعرف من يثق بخبره وبأمر خيانته فيما يدله عليه فيصدر في كل ذلك عن رأيه أو أن يجهد في الإمتحان بنفسه بالقليل الذي






----------------------------------- صفحة 136


يريه عاقبته مما يؤمن عن مثله الهلاك لقلته فيكون في الأمرين جميعا لزوم البحث مع ما يدفعه جهله بما جبل عليه من الشهوات وما يبعثه عليه نفسه من الملاذ عما يصيبه من المكروه وما يحل به من الألم إلى النظر في حال نفسه إنه بما صار كذلك أو هل كان كذلك في الأبد أو من أي وجه صار كذلك لا يسلم عن بعض الخواطر التي تمنعه عن ترك النظر في أحوال نفسه ليعرف به مباديه وليعلم أنه لذلك بنفسه أو بمن له في نفسه تدبير مع ما لا بد من أن يعرف ما به صلاحه وفساده وما عليه من النعم وعنه من الدفاع وفي كل ذلك اضطرار إلى النظر ولزوم الحجة وبالله التوفيق


مع ما يعلم بيقين أن هذا الذي سول له ترك النظر هو خاطر الشيطان إذ ذلك عمله ليصده عن ثمرة عقله ويفزعه لأمانته التي لديها ينال الفرصة ويظفر بالبغية دليل ذلك أن استعمال العقل بالفكر بالأشياء ليعرف ما استتر منها من المبادئ والنهايات ثم فيما يدله على حدثها ومحدثها يشغله عن شهوات النفس ليعلم أن ذلك هو صنيع الشيطان على أنه إذ لم يجز إهمال شيء من الجوارح عن المنافع التي جعلت فيها ولا كفها عن أعمالها بته بل يجب كفها عن الوجوه الضارة واستعمالها بالوجوه النافعة فالعقل والنظر الذي بهما تعرف المنافع والمضار أحق أن لا يهملا مع ما كان الناظر عند ورود الخاطر لا يعدو خصالا ثلاثة إما أن يفضى به نظره إلى العلم بحدثه وأن له محدثا يجزيه بالإحسان ويعاقبه بالإساءة فيجتنب ما يسخطه ويقبل على ما يرضيه فيسعد وينال شرف الدارين أو يفضى به إلى نفى ما ذكرنا فيتمتع بصنوف اللذات أما العقاب فينتظره في الآخرة أو يفضى به إلىالعلم باستغلاق باب العلم بحقيقة ما دعى إليه فيستريح قلبه ويزول عنه الوجل الذي يعتريه إذا فزعته الخواطر فيعلم إذا انصف أنه على ربح في نظره من كل وجه ولا قوة إلا بالله






----------------------------------- صفحة 137


فإن قيل إذ جاز أن يأمر الله العبد في عقله بما لا يفهم لم لا جاز أن يخاطبه بما لا يفهمه


قيل لا فرق بينهما ولا يجوز الإطلاق عليه بالذي ذكرت وما من شيء يأمر الله به إما يبعث العقل عليه أو بخطاب السمع إلا وقد جعل الله لفهم ذلك سبيلا ومن قصر فهمه عن احتماله فهو خارج عن الأمر لكن جهات الأصول مختلفة تعلم هي بالنظر والفكر أن ذلك من أي نوع ولا قوة إلا بالله


فإن قال إذ لا عذر في الشاهد للعبد أقبل من قوله لسيده لم أعلم أن فعلي يسخطك فأتركه ولو علمت ذلك لانزجرت مما فعلت لم لا كان ذلك في حكمة الله مقبولا


قيل ذلك إنما حسن بيننا لارتفاع ما به يعرف الأمر من الدليل عليه وأما الله سبحانه فقد جعل لعبده على الأمر بما أمره به دليلا وحرك ذهنه بالخواطر ونبهه بصنوف العبر فإنما أتى من قبل تركه النظر وذلك فعله فيصير بما هو معتذرا محجوجا إذ بفعله أعرض عن ذلك ولا قوة إلا بالله


قال الفقيه أبو منصور رحمه الله وأصله أن العلم بالله وبأمره عرض لا يدرك إلا بالإستدلال وقد أظهر به ما يستدل من أحوال نفسه التي عليها مداره مع ما بينا أن الضرورة تبعثه على النظر وتدفعه إلى الفكر فيما يرى من أحواله وأعضائه ومنافعه ومضاره التي في الجهل بها عطبه وفي العلم بها صلاحه وفي صلاحه بها على علمه بأنه لم يكن دبر ما ذكرت من أحوال تضطره إلى معرفته ومن قام هو به ولا قوة إلا بالله


مناقشة ابن شبيب في حدث الأجسام


واحتج محمد بن شبيب في حدث الأجسام بما لا يخلو من سكون هو مقام وحركة هي الظعن وهما محدثان بما يختلف على الإثنين المكان بما تقدم






----------------------------------- صفحة 138


أحدهما ثبت أن قد حدث في أحدهما ولو سمى ذلك مادة في أحد الجسمين فالقول فيها أيها حدثت وفي حدوث غير ما قلنا يعلم بحدوث الزوال وجود الجسم في غير موضع تراه في الأول وبهذه الضرورة التي أظهرت في الجسم من الإنتقال علمنا الحركة التي لا تحس إذ وجدنا اختلاف الحال في المحسوس وعرفنا باعتماد الشيء في المكان الأول وإنتقاله في المكان الثاني أن المسمى إعتماده في الحال الأول يصير حركة ونقلة في الحالة الثانية مما لا يوصف الحركة بمناسبة الجسم ولا مباينته إذ ذلك حق الجسم ثم زيد أحق من عمرو بها لأن توهم عدم عمرو لإنعدامها عن زيد إذ وجد هو في غير المكان الأول


وأجاب المعارض له أن كيف هي إذ هي فعلكم ولم يعرف كيفية فعله قبله فلم استدللتم على الحركة بالمقاييس


قيل إنما يعرف أن كيف التقدم والتأخر الذي هو فعلنا لا أن يعرف غيريتها لنا وإنما أقمنا الدلالة على الغيرية ألا ترى أن قوما أنكروا الغيرية للجسم على إثبات القول بالتقدم والتأخر ثم إذ ثبت حدث ما ذكر والجسم لا يسبقه ثبت حدثه


قال الشيخ رحمه الله وهذه عبارة لم يزل أهل التوحيد يعتزون بها لكنه أطنب فيها السؤال والجواب فذكرت ذلك على الإيماء إلى ما ذكر دون البسط


ثم عورض بالحركة إنها جسم فقال ذا لايسأل عنه من يقول بقدم الجسم لأنها حدثت بالحس وقال للإحالة أن يكون في المكان الأول جسم إلا على التداخل وفي المداخلة إيجاب حركة أخرى للإنتقال فيكون غير جسم مع لو جعلت الثانية متداخلة يلزم تداخل الأجسام بلا نهاية ولو جاز ذا لجاز تداخل الدنيا في بيضه ومثله أجاب في التلاقي وذلك كله تطويل بلا نفع ولو أنصف لوجد ما يمنعه عن دليله وهو قوله الجسم في أول حاله ليس بساكن ولا متحرك فأخلاه عما ذكر وفي ذلك سبق عن الذي وصف لكن من يقول






----------------------------------- صفحة 139


بقدمه لا يثبت له حال الأولية إذ في ذلك القول بحدثه فلزم الذي وصف والله الموفق


واستدل على أن سكون الجسم معنى غير الجسم بما يقال هو في دار كذا لو لم يكن سوى الجسم والدار لكان لا يكون في غيرها بموجود والدار توجد وهو ليس بموصوف بالكون فيها


قال أبو منصور رحمه الله وهذا أمر ظاهر لا يسأله أحد إذ سكناه يزول وقت تحركه من غير زوال الجسمية عنه فثبت أنه غير


ثم أجاب من قال لعل سكونه معه حيث كان مع ما قد يذكر مدة سكونه في مكان بزيادة ونقصان ثبت أن ثمة غير السكون الأول وهذا مثل الأول لا يسأل عنه وجوابه ما بينا والله المستعان


ثم أطنب في هذا النوع فتركته لما لا منفعة فيه وفيما قال من دليل غيرية السكون والحركة في جواز كون كل واحد منهما بدلا عن الآخر وأنهما غيران ما يبطل قول كثير من المعتزلة في قولهم بالإبقاء بلا بقاء ولا قوة إلا بالله


ثم أجاب من عارضه بما كذلك كانت الأجسام غير خالية عما ذكرت أبدا فزعم أنه لا يجوز لما لا يثبت للكل شرط العدم إلا بوجود غير هو في ذلك وفي ذلك بطلان الوجود واستدل بما سبق ذكره من دخول الدار مع ما زعم في طير من يطير أن بينهما ذراع من جهة واحدة طيرانا مستويا لم يحتمل أن يكونا كذلك من غير نهاية لأوليتهما إذ ارتفاع النهاية يوجب الإجتماع بالإستواء وقد وجد التفاضل واحتج بما إذ ثبت تضاد الأشياء من الثقل والخفة والحرارة والبرودة ونحو ذلك وقد ثبت فساد الشيء من الشيء إلى ما لا أول له ثم كان من طبع المتضاد التنافر وفي ذلك التباعد وبخاصة إذ جعل أصحاب هذا






----------------------------------- صفحة 140


القول إثنين متباينين فامتزجا وكانا متضادين لم يجز لهما الإجتماع بما ذكر مع ما كان اختلافهما طباعا ولو جاز خروجهما عن الطباع الذي ذكرت لجاز أن يسخن المبرد ويبرد المسخن ولو جاز ذلك لجاز فناؤهما ليخرجا من طبع البقاء وإذا بطل ذا ثبت قول أهل التوحيد في مدبر عليم ألف بين ذلك ولا قوة إلا بالله


قال أبو منصور رحمه الله نقول وبالله التوفيق إن القول بأكثر من واحد لايخلو من أن كل واحد منهم يملك إفناء غيره أو لا أو يملك الواحد خاصة فإن كان الأول أو الثاني لحقهما عجز مع ما فيه من الجهل بتدبير الإهلاك بالحيل إن لم يكن بالقوة وإن قدر الواحد بطل غيره لما لا يتركه يعاديه في ملكه وينازعه في ربوبيته وله قدرة تصفية الملك له


وبعد فإن العاجز الجاهل أحق أن يكون عبدا مربوبا دون أن يكون ربا ملكا ولا قوة إلا بالله


وهذا يبطل على من يقول بالظلمة والنور لما جهل النور حيث وقع في وثاق الآخر والظلمة حيث منعت عن عملها وهو الشر في الآخر ومع ما تفرقت أجزاؤهما وتشتتت أحوالهما حتى عجز كل واحد منهما أن يظهر سلطانه ويستولى على ماله جل ربنا وتعالى عن أن يكون هذه صفته


وأيضا أن القول من أصحاب الإثنين قول بنهاية كل واحد منهما من جانب وارتفاعهما من سائر الجوانب فإن كان الإرتفاع دليل القدم لزم الحدث في وجه الحد وإن لم يكن لزم الحدث في الكل مع ما إن لم يقدر النور على تخليص جزؤه المتناهي عن يد عدوه بالأجزاء التي لا تتناهى ولا كانت تلك الأجزاء قدرت على حفظ ذلك الجزء من يديها قبل الوقوع في وثاقها أنى يقدر إذا أراد بعد الوقوع في وثاق الظلمة والتخليص من قيده وعلى قول من يجعل الحواس كلها للنور دون الظلمة والعلم كله وكذلك جميع ما وصف به الظلمة مما






----------------------------------- صفحة 141


قاله عليه أعمى لا يبصر عاجز لا يقدر ضعيف لا يقوى شر بالطبع لا بالقوة فنسأل الله أن يعصمنا عن العدول عن سبيله والإبتلاء بشبكة الثنوية فإنه لا قوة إلا بالله مع ما كل اثنين لا بد من انفراد كل بمكان إن كان جسما أو عرضا فإن كان عرضا فمفارقته توجب تلفه وإن كان جسما فإما أن يكون مكان كل واحد منهما من جوهره فلا يقوم في مضادة حاله كالمائي في البر والليلي من البصر بالنهار وإن كان من غير جوهره ألف الخير بالشر والشر بالخير وذلك ينقض معتمدهم في القول بالعدد ولا قوة إلا بالله


أقاويل الدهرية وبيان فسادها


قال أبو منصور رحمه الله ثم نذكر أقاويل الدهرية على ما ذكره ابن شبيب وغيره ليظهر مذاهبهم فإن ظهورها أحد أدلة فسادها بعد أن يعلم إتفاقهم في قدم طينة العالم وإختلافهم في قدم الصنعة وحدثها وهذا جملة مذاهبهم


زعم أصحاب الطبائع أنهن أربع حر وبرد وندوة ويبس واختلف العالم باختلاف الإمتزاج منها واعتدل ما اعتدل منها بإستواء المزاج منها وعلى ذلك مجرى الشمس والقمر والنجوم ولم يزل يجرى بمثل الذي يجرى كما ترى لا أول للأشياء وسموا حركاتها أعراضا وضربوا لباطلهم هذا مثلا من نحو الأصباغ كالبياض والحمرة والسواد والخضرة إنها عند الإمتزاج على قدر الكثرة والقلة والرقة والكثافة تختلف ألوانها لا أن يكون ثمة حادث لون وإن كان ربما يخرج على ما لا يعرف أهل هذه الألوان أن ذلك مم خرج فمثله ما ذكروا من الطبائع


قال الشيخ أبو منصور رحمه الله فمن تأمل هذا القول بما ضربوا له من المثل وجده يثبت قول أهل التوحيد لأن الأصباغ لأنفسها لا تمتزج ثم هي لو






----------------------------------- صفحة 142


امتزجت لأنفسها خرجت على لون مستسمج مما عد ذلك في العقول فساد للأصباغ فإذا مزجها حكيم عليم يعلم عواقب ذلك المزاج خرج متقنا مستحسنا ثم كان العالم خرج متقنا ثبت أن الذي به كان العالم عليم حكيم يعرف عواقب الأشياء فأخرجها على ذلك وفي ذلك فساد أن يكون تلك الطبائع أو الطينة أو ماسموا من الأسماء لنفسها صارت بحيث يكون على ما عليه يخرج فثبت أن الذي أنشأها كذلك مدبر حكيم ويجب تكوينها لا من شيء مع ما كانت الألوان كل لون منها لا يوصف بشيء مما ذكروا من الحرارة والبرودة إذ قد يكون في الأشياء شيء يغلب عليه لون منها وهو حار وآخر يغلب عليه ذلك وهو مع ذلك بارد فثبت أنه لم يكن شيء من ذلك الألوان بما ذكروا ولا ما ذكروا بها وفي ذلك إيجاب غير الذي قالوا وبالله التوفيق


وكذلك يجد ما فيها من الطعوم مختلفة حتى يكون بلون واحد وطبيعة واحدة تخرج على نوع من الطعم نحو الملوحة أو الحموضة أو المرارة أو الطينة التي لا يضرب إلى شيء من ذلك ثبت أن ذلك كان بتدبير من يملك جعل كل على ما شاء من غير أسباب ولا قوة إلا بالله


على أن هذه الطبائع لا يخلو من أن يكون جواهر أو أعراضا فإن كانت جواهر صيرت بالأعراض التي اعترضت فيها على ما ذكر من الإختلاف وهي الإجتماع والإفتراق ولولاهما لكان كل جوهر من ذلك متفرقا ودل اختلاف الجواهر مع إجتماع الأخلاط فيها على غلبة الأعراض عليها وأنها تصرفها من حال إلى حال ثم كانت الأعراض لأنفسها لا تقوم ولا تقدح في الأشياء ثبت أنها عملت فيها هذا العمل يمن يعلم أنها تعمل كذا ولم يجز أن يكون بعلم أحد ذلك إلا بمن يملك جعل تلك الجواهر يصلح لاحتمال تلك الأعراض ومحال علم مثله إلا بمن يجعلها كذلك وفي ذلك لزوم القول بواحد عليم قادر لا يخفى عليه شيء ولا يصعب عليه تكوين ما يريد كونه وإن كانت أعراضا فمحال وجودها






----------------------------------- صفحة 143


لأنفسها وقيامها فلزم القول بموجد قديم مع إيجاد ما فيه وبه يدخل في حد الوجود على أن حدث الأعراض مما لا نمانع فيه ولا قوة إلا بالله


وبعد فإنه معلوم أن تلك الطبائع هي متضادة وحق التضاد التدافع وفي ذلك تفرق وفي التفرق تبدد وتفان فلم يحتمل أن يكون أصول الأشياء لأنفسها كائنة وقائمة مع التناقض الذي ذكرت ثبت أنها إن كانت كانت بمانع عن التدافع الذي فيه التبدد وهو الجامع ببنها بعد التفرق القاهر لها وبالجمع كان العالم ثبت حدوثه وفي ذلك فساد القول بالطبائع لأن كون شيء لا عن شيء ليس بأبعد في العقول من قيام الشيء مع ضده وهو ما ينقضه ولبعد ذلك عن عقولهم صاروا إلى ما قالوا فإذا لزمهم فيما قالوا مثل الذي عنه فروا بطل قولهم وذهب عذرهم وبالله العصمة


وقوم قالوا بمثل ذلك إلا أنهم زعموا أن ليس لأجناس الطبائع عدد يعرفونه وكلهم قالوا بقدم الأشياء في جميع جملتها من مهب الشمال والجنوب والدبور والصبا ومن أعلاها وأسفلها


وزعم قوم من المنجمة أن النجوم لم تزل تدبر أمر العالم وهي متصلة به ومنها سعد فاختلافه باختلاف ما اتصل به منها كأداة صاحب الديباج بالخيوط الموصولة من الإبر بسم بأعلى أداتها بما يظهر فيه من الظهور وغيره برفع الخشب وحفظها فمثله أمر النجوم بالعالم تختلف صورته باختلاف تحرك النجوم وفي اختلافها وائتلافها السعادة والنحس وهي لم تزل تتحرك فيحدث من كل حركة غير الذي يحدث من غيرها ويتولد ذلك وبمثل ذلك يقولون في البيضة والدجاجة أنه يكون ذلك بضرب من حركات النجوم كالديباج الذي ذكرت


وزعموا أن الأجسام قديمة وهي غير الأعراض والحركات أعراض تحدث إلى ما لا نهاية لها وصيروا أمر جميع العالم أضطرارا بما كان كذلك بالنجوم






----------------------------------- صفحة 144


والأفلاك من اجتماع وتفرق فمثله في النجوم نقول وبالله التوفيق


قال الشيخ رحمه الله أما القول بحركات لا نهاية لها فقد بينا فيما تقدم فسادها مع ما لا يشك في حركة انقضت إلا أنها نهاية ما تقدم من الحركات حتى لا يكون شيء مما تقدم بعد هذه وإذا ثبت نهاية الفناء لها والإنقضاء لم يجز أن يتناهى الإقتضاء لما لا يتناهى له الإبتداء ثبت لذلك الإبتداء


وبعد فإنا رأينا الجواهر كلها في رأي العين متفاوتة الحدود لا يحتمل أن تكون هي كذلك على غير أن تكون كذلك إلا عن أقل متفاوت يظهر في أكثره ذلك فثبت أن كان لذلك عن أصغر حال يكون عظمة وكثافته بعد أن لم يكن ولطف عظمه وكثافته في الكون بعد أن لم يكن لا بشيء تقدمه لأن في التقديم إيجاب الإستواء وقد ثبت التفاوت فثبت أن الذي تقدم هو حدث بعد أن لم يكن إذ هو في معنى ما هو كذلك مع ما لو كانت الحركات إذ هي مستديرة لو جعلت مستقيمة من جهة ليكون بعضها على أثر بعض وفي وجود بعضها فناء البعض ولو وجب قدم الحركات ليجب قدم فنائها فتكون في الأزل معدومة موجودة وذلك متناقض إذ لا يجوز اجتماع الوجود والفناء في حال فكذا في كل الأحوال وفي ذلك لزوم الإبتداء مع ما لو تفاوت في رأي العين ذهاب سرعة أحد سبق آخر يسيران سيرا مستقيما لا يحتمل أن لا يكون ابتداء أحدهما قبل ابتداء الآخر أو يسير أحدهما أسرع من الآخر وفي رفع النهاية عنهما بطلان النهاية بينهما وفي بطلانه نقض المحسوس ثبت لهما الإبتداء وكذلك هذا المعنى في المستدير من الحركات والله الموفق


وبهذا كله ننقض على جميع القائلين بقدم الأعيان غير خارجة عن الأعراض ولا قوة إلا بالله


وبمثله تكلم أصحاب الطبائع






----------------------------------- صفحة 145


ثم يقال للفريقين جميعا بم عرفتم أنه كذلك فإن أدعوا السمع فيه عورضوا بالسمع الذي ورد ممن فيهم حجج الصدق فهم أحق أن يصدقوا وهم الرسل وإن ادعوا العيان والحس أكذبهم علمهم بأنفسهم إنهم لا يذكرون قدمهم ولا شهدوا تدبير النجوم والطبائع وإن رجعوا إلى الإستدلال بما عاينوا فليس في شيء مما عاينوا دليل تدبير النجوم ولا قدم الطبائع وتولد العالم من امتزاجها بل لو قلب على الفريقين جميعا القول كان أقرب إلى الوجود وأحق في الإستدلال فأما أمر الطبائع فإنه في الوجود إن كثرة الإضطراب والتحرك تولد الحرارة في نفس المضطرب المتحرك وكثرة السكون والقرار تولد الرطوبة فتكون الطبائع هي الحادثة من أحوال العالم دون أن يكون العالم هو المتولد عنها وهذا أقرب إلى حق الحواس ثم يقال أن اضطراب الفلك وتحرك النجوم وتقلبها على أحوال الإجتماع والتفرق يكون بتقلب أحوال الأرضين وما فيها من أنواع الأشجار البحار والمياه وجوهر التفرق التي يعلو بخارها أو هي بجوهرها كالنيران والجواهر الحقيقية وبها ينقلب أمر النجوم وما ذكر فهذا أحق إذ هو أقرب إلى العين وأولى أن يكون دليلا لما غاب عنا ولا قوة إلا بالله


ثم تكلم هؤلاء بما تكلم به أصحاب الطبائع إن ذلك الصانع إنما خرج فعله محكما متقنا بما عنده من العلم وله من القدرة ولولا ذلك لما احتمل ما ذكرت فإنه بما سبق من التدبير استقام ذلك فمثله أمر النجوم لو كان على ما يقول كان يكون ذلك كذلك بتدبير عليم حكيم أنشأه على ذلك ولو كان إليها التدبير لما يحتمل أن تتعب نفسها بالسير والحركات الدائمة وتؤلمها إذ كذلك حال الأحياء في الشاهد إن تلك الأحوال تتعبهم وتؤلمهم أو أن يكون من الموات






----------------------------------- صفحة 146


فيكون بتدبير غيرها كان الذي كان على ما ذكر من قصة الديباج على أنه يعلم أنه لو قدر على ذلك بلا اتعاب نفسه لاختاره عليه ليعلم أن كل ذلك بتدبير حكيم عليم غنى استعمل جميع ما ذكر فيما ذكر ولا قوة إلا بالله


وبعد فإنه لو جاز القول في عالمنا إنه بتدبير من ذكر لجاز مثله فيمن ذكر أنه كان بتدبير من يعلوه كذلك إلى ما لا نهاية له وفي ذلك بطلان قولهم في تدبير النجوم أو يرجع إلى نهاية وفي ذلك فساد قولهم في رفع النهاية عن الأشياء وإيجاب القول بواحد إليه يرجع تدبير جميع ما ذكر وهو العالم بعواقب الأمور المقدر في كل ما إليه ينتهى على أن هؤلاء قد أقروا بقولهم أن ليس لهم قول لأنهم زعموا أن لا اختيار لهم لكنهم مضطرون فيما يقولون وكذلك خصومهم فيما يكذبونهم فيكون ذلك التكاذب والتناقض من هذا المدبر ومن ذلك تدبيره فهو المفسد ومن ذلك قدر قوله فهو لم يقل عند نفسه وفي ذلك وجهان أحدهما سقوط قوله فيبقى قول الموحدين والثاني إنكاره العيان والإختيار الذي يعلمه كل أحد وكل عاقل ومن أنكر العيان الذي يحيط به حسه ثم يدعى غائبا لا يبلغه حسه بالذي أنكر مما أدركه حسه فهو بحمد الله مكفى المؤونة حقيق الهجر وبالله المعونة


ولو كانت الأحوال مدفوعة إليها لما ترك أحد الأكل والشرب لخوف ولما أقدم عليها لشهوة ولما أصاب لشيء من ذلك لذة وكل ذلك موجود فيما عليه الطباع حتى كان فيمن عظم من ذلك أقل منه فيمن صغر ولو كان بالطبيعة أو اتصال بالنجوم يجب أن يكون على كل قلب به


وبعد فإن خروج الأفعال المختلفة وأحوالها محال وجودها من ذي طبع كالتبريد والتسخين والشر والخير فثبت أن ليس أصل شيء منه بذي طبع ولكن بعليم حكيم جعل كل شيء على ذلك بالخلقة والوجود ولو كانت الأفعال بالدفع لم يمكن الفاعل الإمتناع كالمدفوع في قفاه والذي يهوى من فوق بيت






----------------------------------- صفحة 147


والموثوق بالحبال ولا قوة إلا بالله وفي الوجود إن المفلوج يعلم أنه لا يمتنع عما تلى وكذلك الأعمى وكل ذي آلة مؤوفه ثم هو يعلم ارتفاع تلك الآفات والتمكين من الخلاف لتلك الأحوال ثبت أن القول بالضرورة في الجملة كذب


وزعم صنف أن طينة العالم كانت قديمة سميت هيولي معها قوة لم تزل بصفتها ولا طول لها ولا عرض ولا عمق ولا وزن ولا مساحة ولا لون ولا طعم ولا رائحة ولا لين ولا خشونة ولا حر ولا برد ولا بلة ولا حركة ولا سكون ولا شيء معها في أوليتها من الأعراض سميت إذ ذاك هيولي وقلبت الهيولي القوة بطباع منها لا باختيار فحدثت هذه الأعراض فسمى جوهرا وهو جوهر واحد وهو جوهر العالم والإفتراق والإتفاق إنما جاء من قبل الأعراض والأعراض لا توصف بالإختلاف والإتفاق لأنهما لا يكونان إلا بغيرهما والعرض لا يقوم بالعرض وإنما يقوم بالجوهر فاختلف به الجوهر واتفق


وذكر أرسطاطاليس وهو صاحب هذا القول في كتابه الذي سماه المنطق عشرة أبواب باب العين كقولك إنسان سميت عينه وباب المكان كقولك أين والصفة بقولك كيف والوقت متى والعدد ب كم والمضاف مما في ذكر الواحد ذكر الآخر كالأب والعبد والشريك ونحوه وذو كقولك ذو شرف وذو أهل ونحو ذلك سموه باب الجدة والنصبة كالقيام والقعود والفاعل كقولك أكل ونحوه والمفعول كقولك مأكول لا يقدر أحد أن يذكر ما يخرج عن جملة ذلك وزعموا في القوة إنها جاهلة تفعل بالطباع وليس بالهيولي حاجة إلى الأعراض






----------------------------------- صفحة 148


قال الفقيه رحمه الله فمن تأمل ما صار هؤلاء إليه علم أنهم أوتوا ذلك لجهلهم نعم الله فعموا عن سبيل الرشد فضلوا ثم بعثتهم حيرة الضلال إلى الإستيناس بمثل هذا الخيال الذي لا يصير عليه عقل ولا يستجلبه هوى والله المستعان


ولولا ذلك ما الذي كان يعرفهم أن ابتداء العالم ما ذكر ثم اسمه الذي وصف ليس فيه ثمة ما ذكر وعمله الذي نعت ليس في جوهر العالم دليله ولا في السمع احتماله لكنهم سمعوا قول أهل التوحيد في وصف الله بالذي وصفوا به الهيولي عندهم ولم ينظروا فيما ألزمهم القول به فرجعوا فنقضوا ما قد أثبتوه إذ صيروا الذي لذاته خارج عن احتمال الأعراض ممتنع عن معنى الجواهر جوهرا ثم جوهرا ثم جواهر ثم صار بحيث لم يبق من أوليته أثر وما بقى مما انتهى أمر العالم من القديم والحديث إلا الجواهر والأعراض وذهب الذي لم يكن بهذا الوصف فيكون في ذلك فناء العالم بنفسه واستحالة القديم بذاته بأعراض قهرته وأفنته مما لا قيام لها بنفسها ويكون في ذلك القول بحدث جميع العالم الذي دفعهم عظيم هذا القول إلى ذلك الخيال إذ كل ما هو مأخوذ إنما هو عرض وجوهر ولم يكن الأول ثم يبطل قوله إذا سمى نفسه حكيما ألزم غيره الصدود عن رأيه واتباع هواه بعد قوله إن الأصل الذي منه كان جاهلا سفيها وأن الأعراض هي أغيار ولدتها القوة السقيمة التي لا حكمة فيها ولا علم لديها وهو أحد أبنائها الذي لم ينل شيئا إلا بها فمن أين قدم نفسه عليها وإذا جاز كذلك من غير أصل له به صار كذلك فليقل في جميع العالم بمثل الذي قال بنفسه ثم لا يخلو القوة التي هي قلبت الهيولي من أن يكون لها سلطان عليها بمائها قلبتها فليقل هو في الله سبحانه أنشأ الهيولي أو ما شاء على وجه






----------------------------------- صفحة 149


فيقبل التقليب ويقوم به التركيب ثم ليسم بما شاء هو على فناء ما قلبه فإذا بطل الأصل الذي به العالم وهلك مع الإحالة أن يهلك القائم بذاته ليكون بهلاكه انقلاب غير وقيامه مع ما يكون في الهيولي تلفها فتصير هي بلا قوة التقليب فيكون في ذلك إبطال العالم وتقلبه من حال إلى حال دائما فدل وجوده على فساد هذا الأصل مع ما في الشاهد أن لا يوجد شيء يصير بحيث يصلح لشيء لم يكن يصلح إلا بحكيم يجعله كذلك فثبت أن ابتداء العالم إن صلح أن يحتمل كون هذه الجواهر والأعراض كان كذلك كل على جعله كذلك


وبعد فإن القوة إذ هي قلبته بالطبع فهي غير مفارقة عنه فما بالها خلت عن عملها في القدم وذو الطبع لا يخلو عن عمله في الشاهد على أن الأعراض التي أحدثت إما أن كانت في الهيولي فيبطل قوله كانت خالية عنها حتى حدثت أو لم يكن فحدثت من غير شيء إذ وصف القوة بما وصف به الهيولي ولم يكن فيه أعراض فثبت أيضا كونها لا عن شيء وهذا المعنى ألزمهم بالقول الذي قالوا فبطل بحمد الله


على أنه أمكن القلب عليهم في كل ما قالوا للقوة أن يجعل ذلك للهيولي في القوة على أنها لا تخلو من غير أن يكون غير الهيولي فهما إثنان وزعم أن الكم من باب العدد فلم يكن ثمة حدث وقد أوجب هنالك أو هي هيولي فيبطل قوله هي مع الهيولي أو هي التي قلبت الهيولي وكأنها قلبت نفسها لا الهيولي مع ما زعم أن تلك الأعراض اعترضت في الهيولي فحركته وسكنته ودفعته وخفضته من غير أن كان ثمة غير إليه تتحرك أو فيه يسكن أو إليه يرتفع وينحط ووجود أمثال فاسد فيما عنه تولده فهي في أصله أشد فسادا


وزعم محمد بن شبيب أنه يسمى القوة حركة وفي روايته أنها لا توصف






----------------------------------- صفحة 150


بما لا توصف به الهيولي وقد ذكر عنهم الآراء في الهيولي فلا أدري أيصح ذا أو لا إلا أن سمى القوة حركة وهي فيه فيبطل قوله إن الهيولي لا يوصف بحركة إذ قد وصفه بها


ثم لا يخلو من أن يكون مماسة له أو مباينة عنه وأيهما قال فيه إثبات الجسمية والعرضية إذ البينونة والمماسة غر الذي يماس ويباين


ثم قول هؤلاء أن حدثت الجواهر من حركات الأصل وكذلك قول المنجمة ومعلوم وجود جواهر من علو وسفل من كل جانب على إحالة تلك الحركات المختلفة فثبت أن ذا باطل


وبهذا الفصل ناقضهم النظام إنه إذا كان بقلب القوة الهيولي سبب حدوث الأعراض ثم هي تختلف كاللون والطعم والحر واللين ونحو ذلك فيحدث ذلك كله في وقت واحد وبحركة إنما هي تكون من جهة واحدة


فقيل تكون من جهات فزعم أن أكثرها ستة وقد يحدث الشر من اثنى عشر من تلك الأعراض فثبت أن ذلك لتقليب القوة على أن التقليب يكون من جهة والأعراض تكثر ثبت أن ذلك ليس بما ذكر


وعارضهم محمد بن شبيب بما الهيولي قبل حدوث الأعراض ليست بطويلة والأعراض ليست بطويلة فكيف صارت عند الوجود طويلة وكذلك العرض ولو جاز ذا لجاز أن يجمع بين ما ليس يخلو وما لا يخلو فيصير خلو ومثله في جميع الأعراض كلا سواد ولا سواد






----------------------------------- صفحة 151


فأجاب عنهم بالنورة والزرنيخ أن كل واحد منهما على الإنفراد لا يحرق وعند الإجتماع يحرق فيقال ما يبعد أن يكون أحدهما يحرق لكن فيه ما يمنع عن الإحراق وفي الآخر ما يمنع هذا المانع عن المانع فيحرق لا أن لم يكن فيه إحراق أو كلاهما كانا كذلك وأمر الأعراض عندك على ما ذكرنا ومحال حلول المانع فيه لو كان طويلا أو سوادا وكذا في الهيولي لذلك اختلفا


قال الشيخ رحمه الله والأصل في هذا عندنا وفيما ذكر من النجوم والطبائع أن لا يخلو من أن يرجع في ذلك إلى السمع وفيهم سماع أهل التوحيد أثبت لما معهم براهين الصدق أو يستدل بالحاضر الموجود على الغائب فإن كان هذا طريقه فيجب إذ الموجود على حال وبالوجود اعتباره أن يكون الذي به وجد بهذه الصفة فيبطل قولهم في حدوث العالم بالإمتزاج وبتحرك النجوم وتقليب القوة الهيولي والهيولي والقوة جميعا وإن كان على اعتبار معان في الموجود يدل عليه فإن الأصل أن كل ذي طبع لا يتغير عما عليه إلى خلاف إلا بمغير حكيم أو سفيه لكن يظهر أمرهما بالعواقب فمثله الأصل الذي أشاروا إليه إنه لا يصير على غير تلك الحال مما يصلح عواقبه إلا بحكيم إذ هي كذلك وذلك يبطل أصلهم ويثبت أن الأصل احتمل ما احتمل يجعل غيره كذلك وفي ذلك حدثه بمحدث حكيم وبالله التوفيق


وأيضا أن المعلوم فيما كان طبعه الإحراق أنه لا يحرق إلا المطبوع لاحتمال الإحتراق وكذا التسويد وكل حال وجوهر ثم ليس في طبع المحتمل الرفع إلى القابل فيه بالطبع ولا في طبع المحرق أن يصير إلى من يحتمل ذلك ومن أراد في الشاهد ذلك لا يتهيأ له دون العلم بالوجود والجمع بينهما فعلى ذلك أمر ذلك الغائب فيبطل الذي راموا إثباته ويصير هو بمعنى ما هم فيه والله الموفق


مع ما إذا كان جميع تلك الأصول التي قالوها هي موات لا تدبير لهن






----------------------------------- صفحة 152


ويعملن بالطبع لا اختيار لهن لم يجز أن يكون فيما منه وجود به يحيى عالما سميعا بصيرا قادرا حيا ميتا محتملا لجهات ذلك خارجا من احتمال ذلك ثبت كون ذلك كله بالمكون العليم ولا قوة إلا بالله


مسألة أقاويل السمنية من الدهرية وبيان فسادها


وقالت السمنية من الدهرية مع موافقتهم في حدوث الأشياء في الأزل إن الأرض لا تزال تهوى سفلا بمن عليها


فسألهم عن ذلك النظام فاحتجوا بثقلها والثقيل لا يقاوم الهواء ولا يقوم في الجو فعارضهم بسرعة انحدار الحجر بثقله إذا أرسل مع الريشة ثم كانت الأرض منهما أثقل وقد أدركاها ثم عارضهم بما رأوا الريح تحمل الشيء فتصعد به في العلو دون الجوانب فما يدريكم لو كانت تحت الأرض فتحملها بقوتها فكيف حكمتم بأن يهوى دون أن يصعد ويرتفع وقد رأيتم مثله وقطع الكلام على هذا وإذا كان ذا حاصل المناظرة فما أشبهها بالملاعبة بل الأصل إذ كنا نعاين السماء منذ عاينها على حالة واحدة وعاينا الأرض على ثقلها وعلى ما كان كل جزء من أجوائها لو أرسل من أعلى موضع يبلغه الوهم لكان يلحقها دل أن الأرض إذ قرت على حال وكذلك السماء وهما في طبيعتهما بطبع الثقل وأن لا قرار لهما في الهواء ثبت أن قرارهما بقوى حكيم وأنه منشئهما على ما لا يدركه الأوهام ولا يبلغه العقول وفي ذلك بطلان الدهر وفروعه


مع ما كانت مناظرة هؤلاء عبثا أو طريقها البحث عن الأمور الخفية لتنجلى وعن الوقوف على حدود الحكمة وهم جعلوا العالم على ما عليه من






----------------------------------- صفحة 153


الإختلاف والإتفاق وإختلاف الجواهر والأعراض قائمات بالطباع مولدات عن حركات أشياء أو مشوبات بما لا تدبير لها ولا علم ولا على حكمة تقدر ويكون البشر أحد هؤلاء فمحال أن يكون عندهم علم أو حكمة إلا أن يثبت لغير الذي منه العالم فيهم تدبير وفي خروج أعلى جواهر العالم عن طبع ما به العالم دليل كون ذلك أيضا به على ما شاء إنشاء خلقه ولا قوة إلا بالله


مسألة أقاويل السوفسطائية وبيان فسادها


قال الشيخ رحمه الله قالت السوفسطائية لما وجدنا الإنسان يعلم شيئا ثم يبطل ويجد لذة ثم يزول ويهلك هوام البر في البحر والبحر والبر ويبصر الخفاش بالليل ويغشى بالنهار ثبت أن لا يصح علم وإنما هو اعتقاد لا غير وإن اختلف عن إعتقاد غيره


فسأل ابن شبيب فقال قولكم لا علم بعلم قلتم فقد أثبتم أو لا بعلم لم يكن لكم الدعاء إليه مع ما علمتم أنكم قلتم بغير علم فإن قالوا بالعلم أثبتوا العلم وإن قالوا بالثاني ألزموا السكت وذا مجرى الباب


قال الشيخ رحمه الله ومناظرة من يقول بهذا الكلام لا معنى لها لأنه يحصل على أنه اعتقاد لا علم فكل شيء يقول عند المناظرة فهو ذلك وإنما يناظر مثل من ينفى الحقائق حتى يرد قوله محققا وكذلك بدعواه وأما من يقول ليس غير الإعتقاد فهو أي شيء يقول فإنما هو ذلك وإنما يقابل بالضرب المؤلم والقطع ويعتقد ما يعتقده هو فينكر عليه بضده أو بقوله إني أعتقد إنكارك إقرارا حتى يدفعه الضرورة إلى الإقرار بما أنكر






----------------------------------- صفحة 154


ما أنه اعتقاد لا غير وفي ذلك إثبات الإعتقاد فيبطل قوله بنفى العلم بإثباته الإعتقاد والله الموفق


مع ما عارض بأشياء ظهر له خلافه ولو لم يكن علم البتة بطل ما به يدفع من ظهور الخلاف ولا قوة إلا بالله


وسأل محمد بن شبيب نفسه بما يرى الشيء الواحد شيئين وآخر يرى شيئا واحدا فأيهما الحق فزعم أن الأول حسبه كذلك لنظره يبصره من جهته يرى بكل عين غير الجهة التي يرى بالآخر دليله أنه لو أعور لا يرى


قال الفقيه رحمه الله والأصل في هذا ونحوه أن علم الحس يختلف بإختلاف أحوال الحس يعلم ذو الحواس ما به من الآفة فيعلم بأن الآفة حجاب فبالحاسة يعلم خلاف الحقيقة عند الآفة وحقيقته ممتد ارتفاعها وذلك يكون في الذي وقعت عليه الحاسة من لطافة أو بعد أو ستر الجو بما يغشاه ومرة يكون في البصر وعلى ذلك شأن كل حاسة وذلك كله معلوم بالحواس فلا نقيض عليه مع ما أنه على هذا القول يبطل القول بالخلاف وبه يحتج أو يثبت فيبطل قوله بنفى الحقيقة إذ ثبت الإختلاف ولا قوة إلا بالله


ويعلم الذي يذكر بالقرب منه أو بالزيادة من الضوء ليعلم حقيقته إن ضعف بصره عن إدراكه بالآفة ففي مثل هذه الأحوال يظهر ولا قوة إلا بالله


وجوابنا في صاحب الصفراء الذي يجد العسل مرا هذا مع ما يعلم هو من نفسه الآفة فيما يجد به الطعم ولا قوة إلا بالله


وقال ابن شبيب اختلف فيه قال قوم في العسل مرارة فإذا اتصل بما في ذائقة فيقوى المرارة فيجده مرا وقال قوم إن في ذائق صاحب






----------------------------------- صفحة 155


الصفراء مرارة المرة الصفراء فلما اتصلت حلاوة العسل بالمرة التي في الذائق وتحركت في ذائقه وجد حسها كذلك


قال الشيخ رحمه الله والأصل في هذا أن الإنسان إذا اشتمل على حدود وجهات فكل جهة منه تقابل جهة من المدرك لا يدرك بتلك الجهة غير الجهة التي قابلته فإذا اعترضت الآفة في جهته التي بها يدرك مقابلها أو غشى مقابلها شيء ستره فيذهب مقدار ذلك من الجهة ومقابلها فيكون كالإدراك بغير الجهة التي هي لذلك النوع من الإدراك فيكون الأحوال ثلاثة بقلب الجهة لا يدرك منه شيئا البتة وتقريرها مع ارتفاع السواتر كلها فيدرك به حقيقة المدرك أو الإختلاط فعلى تفاوت ذلك يتفاوت الدرك وكل ذلك حق الحس معلوم بالحس فلم يرد في علم الحس اختلاف البتة في الحقيقة ولا قوة إلا بالله


ثم تكلف نوع ما كلم النظام السمنية مما لا يجدي نفعا فزعم أن الحيتان كان الغلبة في طبائعها الرطوبة والبرودة فإذا صارت إلى الجدب والغالب عليه الحرارة واليبوسة غلبتا على الرطوبة والندوة فأهلكا وكذلك كل متضادين من الطبائع إذا غلب واحد ضده أهلكه وكذلك أمر الطائر في السماء وكلب الماء فإنه أشد اعتدالا من الحوت يعيش في الماء والبر والخفاش فإن بصره مسترقة ليست بالقوية يذهبه ضوء الشمس نحو ما يعشى الرجل إذا نظر إلى عين الشمس فإذا غابت الشمس ذهب ما أضعف بصره فأبصر فإذا اشتدت الظلمة لا يبصر وأما الأسد فهو قوي البصر يبصر بالنهار وأكثر ما يبصر غيره وكذلك المانع له بالليل أقل مما يمنع غيره


قال أبو منصور رحمه الله وذلك كله عبث بل القول إنه كذلك






----------------------------------- صفحة 156


خلق وبهذا الطبع جبل بعض الجواهر يطير في السماء وآخر يسبح في الماء والثالث يمشي على وجه الأرض فتكلف الإعتلال لمثل هذا تحكم على رب العالمين واعتلال بما لم يؤذن له ولا له به درك وليس ذلك من نوع ما ضمن الشرع فيه من تحقيق الأعيان ولا قوة إلا بالله


ثم عارض نفسه بما يرى النائم فيخرج على ما يرى فلعل أمر اليقظان على هذا أو ما يعلم ذا من ذا فزعم أن الذي يفرق بين الأمرين أنه يرى ما لا يصح في العقل في حال النوم نحو أن يرى نفسه ميتا والميت لا يعلم أو يرى رأسه ملقى في حجره ومثله لا يحتمل رؤية اليقظان


فإن قيل كيف يتوهم النائم المحال وهو لا يثبت في الوهم


قيل عند ما يرى نفسه في المنام لا يعتقدها حية ميتة وذلك هو المحال وكذلك إذا رأى رأسه ملقى لا يتوهمه في مكانين وزعم أن العلم بصحة ما في اليقظة وفساد ما في النوم اكتساب دليله ما ذكرت قال وقد يرى في المنام ما يصح ذلك إنما بملك يريه أو بما ذلك في الأصحاء أو بعض ذلك


قال الفقيه رحمه الله والأصل في هذا ما في الأول إن النائم ذو آفة يعرفها بما يعلم به يقظته وذلك حق الحس إنه يرى في النوم مضطرا وفي اليقظة لا وكذلك يبقى ألم ما يضرب في حال اليقظة ويعرف لذة ما به يغتذى وليس بيننا وبين هؤلاء في هذه الأحوال مسألة إنما بيننا إلزام حق اليقظة وتحقيقه بضرورة بما ذكرنا ثم تغير ذلك إنما ذلك للآفات التي تعترض وجملته أن الطبيعة أو النجوم أو الأغذية لا يحتمل أن تولد ذلك ولا فيها ما يوجب ذلك وأن لكل شيء من ذلك مضرة ومنفعة وما به الغلبة والإعتدال فلا يحتمل وجود مثله بالطبع ولا بالنجم من حيث خروج ذلك على ما فيه من الحكمة والإتقان وما يوجبه الطبع لا يحتمل ذلك وقد مر بيان ذلك والله الموفق






----------------------------------- صفحة 157


مسألة في صفة أقاويل الثنوية


أولا أقاويل المنانية وبيان فسادها


قال الشيخ رحمه الله زعمت المنانية أن الأشياء على ما عليه من امتزاج النور والظلمة وكانا متباينين النور في العلو لا يتناهى في أربع جهات شمال وجنوب وصبا ودبور والظلمة في السفل كذلك ولها من جهة الإلتقاء تناه قبعت الظلمة على النور فامتزجا فكان العالم من امتزاجهما على قدر الإمتزاج ولكل واحد منهما خمسة أجناس حمرة وبياض وصفرة وسواد وخضرة فكل شيء مما جاء من هذا الجنس من جوهر النور فهو خير وما كان من جوهر الظلمة فهو شر وكذلك لكل واحد منهما حواس خمس سمع وبصر وذائق وحاسة الشم واللمس فما أدرك جوهر النور بها فهو خير وما أدرك جوهر الظلمة فهو شر وللنور روح وللظلمة روح وروح الظلمة يسمى همامة وهي حية فغلب العالم ليحبس النور فيها والنور ليس بحساس وما كان منه يكون بالطبع ويكون خيرا كله والهامة حساسة وسيصير كل واحد منهما إلى حيزه ثم وجد أعلى الأشياء أصفاها وأسفلها أكدرها ومن طبعهما الخفة والثقل وأمرهما على التنافر إذ الخفيف يعلو صعدا والثقيل ينحدر سفلا فيمر الدهر إذ كانا كذلك يتخلصان من وجه التناهي كما امتزجا


قال الشيخ رحمه الله ومن تأمل القول وجده كله متناقضا من غير أن يحتاج إلى تكلف الدلالة على إبطال القول سوى تفسيره أول شيء به أنه أراك النهاية من الوجوه وأثبتها من وجه فجعل المتناهي غير المتناهي إذ النهاية حد والحد قصر عما هو أعظم منه وذلك تدبير غيره فيه وهو دليل حدث جانب منه وذلك جزء وبعيد كون كلية الأجزاء المتناهية غير متناهية لأن ذلك المعنى يتمكن في كل جزء منها يتصل على أن كل واحد منهما في الوجوه التي لا تتناهى إما أن يكون الآخر فيها فيبطل قوله امتزجا من جانب بل كانا






----------------------------------- صفحة 158


إلا من جانب ثم امتزجا وإن لم يكن زال كل واحد منهما عن الأوجه الأربعة التي هي للآخر فصار من تلك الوجوه متناهيا والله الموفق


ثم إن كان من طبع السفلى التسفل والعلوى العلو وذلك معنى التنافر وإليه مرجع العاقبة فكيف صار السفلى يذهب صعدا وذلك طبع العالي الصافي وهو معنى الخير فقد صار من السفلى الأمران جميعا فبطل المعنى الذي له لزم القول بإثنين ثم من العلوى النفار إلى العلوى ولم يقم بوفاء ذلك ولا امتنع به عما كان بجوهر ينحدر حتى ارتفع عليه وخلق العالم بحبسه فكيف يطمعون أن ينخلص من يدى الهمامة وهي مع ذلك حساسة فعاله بالحيل أوثقته وقيدته وحبسته وليست له قوة يتخلص بها وبطبعه لم يمتنع عند التخلية فكيف يتخلص بعد الوثاق إلا أن يقول تخلى الهمامة سبيله فيجعلها فاعلة الخير


وبعد فإن جوهر الظلمة إن كان هو رأى النور وهو الذي أيس النور ليحبسه فهو الموصوف بالعلم والرؤية لا الذي لم يره ليتحصن منه ولم يعلم ما به يتخلص من قهره فإذا العلم والرؤية والمقدرة والغنى والشرف كله في جوهر الظلمة والقهر والجهل والعجز والذل والهوان في جوهر النور فإن كان ذا كله خيرا والأول كله شرا فما أبصركم بالخير والشر


وكذلك عندكم إن النور فعله طباع والهمامة فعلها اختيار والعالم أنشأه الهمامة بطل القول بإثنين بل العالم كله فعل الواحد لكنه مزج أجزاءه بأجزاء الآخر ولو كان الآخر بما يفعل به وفيه يصير آخر لتحصيل القول بالإثنين لكان كل ذي طبع هو من به وفيه العالم فيصير القول بما لا يحصى عدده ثم إذ كانت






----------------------------------- صفحة 159


الظلمة هي التي بغت على النور ثم تخلص منها فأما أن يكون التخلص منه بالجوهر وذلك محال لأنه لم يمتنع منها به مع ما يوجب تخلص أجزائه من حبس الهمامة وليس فيما علاه موضع يسير إليه ما انتزع منها إذ غير هذا الجانب غير متناه وهو التخليص يرجع إلى ما لا نهاية فلا يجد لنفسه موضع قرار فلا معنى للتخلص إلا أن يكون الظلمة تدفعه عن نفسها فيكون دفعه خيرا إذ كان حبسه شرا مع ما إذا دفع أجزاءه وما علا ليس إلا أجزاؤه فهو يدخل بعضه ولذلك نهاية لكنه كان يحبسه في جوهره ثم قهر كلية النور فجعله سجنا لنفسه يحبس فيه عدوه فيصير عدوه بجوهره حبيسا لنفسه


وبعد فإن الظلمة ليس لها في غير وجه الإمتزاج حد فهو الى ماذا يصير بالتخلص فهو يبين أن لا معنى للتخلص ولا قوة إلا بالله


قال الشيخ رحمه الله ثم العجب من قولهم إن الخير كله في العالم من جوهر النور فمن أين يكون منه الخير وهو المقهور المحبوس والفعل كله من الآخر ليحبسه به فليس من النور غير البقاء في سجن الآخر ووثاقه فمن يجنى منه خير إلا أن يرى ذلك من سائر الأجزاء التي لم تبغ عليه فيلقى أجزاءه في حبس آخر وذلك هو الشر وأنى لملك الخير وهو كله في الخلاص وهو غير ممنوع


ثم التناقض أنهم جعلوا التباين بالجوهر فمحال امتزاجهما وهما بالجوهر متباينين وذلك قائم بحاله إذ هم يرون الإمتزاج غيرا على أنه يقال لهم الإمتزاج






----------------------------------- صفحة 160


أليس بعد أن لم يكن لا بد من بلى قيل أكان هو النور أو الظلمة أو غيرهما فإن قال بالأولين أحال لأنه أثبت الإمتزاج والتباين لنفسه ولو جاز ذلك لجاز وجودهما معا وهو بين ولا قوة إلا بالله


ثم إثباتهم الحد من حيث الإلتقاء إما إن كانا متماسين في الأزل أو غير متماسين فإن كانا متباينين قال إن تماسا حدثا فحدث الجزء يوجب الكل بحق الإستدلال بالشاهد على الغائب وإن كانا متماسين فلا بد من أن يزداد أحدهما حتى يمتزج بالآخر أو يحيد من الآخر حتى يدخل في نفسه وأيهما كان ففيه زيادة لم يكن أو قطع وإدخال في جوهر فيبطل القول بأنه غير متناه لأنه إذا لم يكن لأجزائه تناه لم يكن للآخر فيه تداخل ليمتزج به ثبت أنه متناه إذا احتمل الإمتزاج مع البعد أن تبقى الظلمة مع كثافتها على النور مع رقته فيقتطع منها إذ كل ممتلئ بما يلطف من الأشياء لا يتمكن فيه ما يكثف ولو كان ذلك من النور فقد اكتسب الشر وألقى نفسه في الحبس مع ثبات الكيف جوهرا واحدا وإنما يحد اللطف المنفذ في الكثيف إذا كان من جواهر مختلفة يبقى بينها الفرج وأما الذي سبيله ما ذكر فلا ولا قوة إلا بالله


وإن سبقت بما حدث من الإمتزاج بعد أن لم يكن فإما أن كان بأحدهما أو بهما وفيه احتمال الحدوث فمثله الكل أو ليس بهما ففي ذلك تثبيت ثالث أو لأنفسهما كان فلزم نفى التباين أو تبقى الظلمة بنفسها فلم يكن ذلك الوقت بأولى مما قبله وإذا لم يحدث في الجزئين اللذين لم يمتزجا شيء وقد وجد لم لا كان كذلك في الكل


مع ما لا يخلو من الإفتراق إذ الإمتزاج أن يكون بالطبع والطبائع لا تنقلب فيجب أن يكون أبدا كذلك وأطنب في نوع الطبائع لكنه روى أن






----------------------------------- صفحة 161


الظلمة فعاله باختيار فالقول في الطباع على ذلك فاسد وأخبر عنهم تحرك الظلمة إلى أن لقيت النور فدخلت عليه إن قالوا أبدا ما مر في كلام الدهر وإن قالوا بالإبتداء لزم الحدث والله الموفق


ثم تمام الجهل في قولهم يتخلصان بما كان من طبع الثقيل الإنحدار وطبع الخفيف الإرتفاع ثم في الإبتداء مع هذا الطبع قد امتزجا فلو لا أن كل واحد منهما على طبع الآخر في الثقل والخفة ما احتمل الإمتزاج وإذا احتمل دل أن الطبعين كانا في كل واحد ولا قوة إلا بالله


وإذا احتمل الواحد الأمرين احتمل الخير والشر فيبطل الثاني ولا قوة إلا بالله


على أن اللازم إذ جعلوهما متضادين في الطبيعة أن يجعلوا أحدهما شأنه الإمتزاج والآخر البينونة وقد غلب أحدهما أن يكون على ذلك ثم من قولهم إنهما إذا تفرقا لا يمتزجان من بعد فما أدراهم ووجدنا باليقين لم يؤنس الإجتماع فكيف وجود تفرق بجهد وما يدريهم أنهم أبدا على تفرق وإجتماع وكذلك في الأزل فيبطل القول بالنور والظلمة


وبعد فإن حكمهم هذا عجيب لأنهم لا يخبرون عن أحوال كانت ويكون ما عندهم من جوهر هذين ولم يكن لهما علم من قبل بالإمتزاج ولا علم بكيفية الفراق والله الموفق


ثم يطالب على كل فصل مما قالوا من قطع النهاية وما قالوا من ابتداء العالم دون أن يكون عالم على أثر عالم بلا نهاية وكذلك يكون بالدليل وكذلك






----------------------------------- صفحة 162


الإمتزاج والإنفصال ليعلموا تعنتهم ويقال لم يعاينوا شيئا ممتزج من خير وشر ولم يرد لكم خبر يحتمل الصدق فإن قال علمنا بالأدلة أن شأن الأشياء التفرق وكل شيء يرجع إلى أصل جوهره


قال الشيخ رحمه الله يقال بل شأنهم الإجتماع فمنتهى كل على أصل جوهره وإذا كان وقع هذا قد اجتمع فاجعل ذلك أبدا كذلك ويقال إذ التفرق تبدد والإجتماع تأكد وقوعه لم لا كان شأنهم الإجتماع ولا قوة إلا بالله ولو جاز تثبيت ما لا شاهد له في الشاهد مع كونه من جوهره لجاز القول بفعل الحواس على المعروف أو الدرك باضداد ما به الدرك وعورضوا بقولهم لا يكون من النور غير الخير ولا من الظلمة غير الشر فإذا قتل رجل ثم أقر فإن كان المقر هو الذي قتل وهو صدق فقد عمل به الخير بعد الشر وإن كان المقر هو الذي لم يقتل فهو كذب وهو شر قد كان منه الخير وهو ترك القتل


وكذلك من قولهم إن كل حاسة لا تدرك ما تدركه الأخرى ثم فيما سمع قال سمعت أو فيما رأى قال رأيت وما قال به رأيت وسمعت غير الذي به سمع ورأى وذلك جواب بما لم يدرك


وسئل عن سواد الظلمة إذا زيد على سواد النور وهل زاد في السواد شيئا فإن قالوا لا صيروا ما كثر هو الذي لم يكثر فإن قالوا ازداد قيل أهو النور أو الظلمة أو غيرهما فإن قال بالأولين فازداد النور أو الظلمة وذلك بعيد إذ يزداد كل واحد منهما بالجوهر الآخر وإن قال غيرهما أثبت للآمرين غيرا ثم ما يدريهم أن ليس في النور أو الظلمة زيادة على تلك الأجناس الخمسة وهم لا يعلمون بجميع أجزاء الجنسين بما لا نهاية لكل واحد فإن ادعى الإستدلال بالشاهد على الغائب أبطل فوله بالتفرق وارتفاع النهاية لأنه لم يشهد






----------------------------------- صفحة 163


ذلك فإن قال علمنا بالرسل قيل إذ كان الرسل من أجزاء النور والظلمة مانعة فما يدريكم أن يكون الظلمة منعت وسترت أغيارا فيهما غير الخمس فلم يعلم وإن زعم في الأول أنه يدرك بكل حاسة ما يدرك بغيرها فبطل قولهم خمس حواس وحصل على الواحد ثم موجود العجز مع السمع وكذلك سائر ذلك فثبت به الإختلاف ثم عورض بحواس الظلمة إنها إذا أدركت ما أدرك حواس النور وكل شيء على ما هو عليه كيف صار أحد الإدراكين خيرا والآخر شرا ثم عارض بالعفو عن الذم إنه فعل من فإن قال فعل النور فهو نفع عدوه وذلك شر وإن كانت من الظلمة فقد عفا فهو خير والأصل إنا نجد في الشاهد جاهلا يعلم ومخطئا يندم وقائلا يرجع عن قوله فأما إن كان الثاني هو الأول فيثبت الفعلان المتضادات عن واحد ومن غيره فثبت كذب الخير بالوجوه الثلاثة وبالله التوفيق


ثانيا أقاويل الديصانية وبيان فسادها


قال الشيخ رحمه الله وقول الديصانية مثل قول المنانية في الأصل لكنهم قالوا النور بياض كله والظلمة سواد كلها والنور حي هو الذي مازج الظلمة وهي ميتة لما وجد من خشونتها في الجهة التي تلقاه فأراد الممازجة ليدبر تدبيرا يلين وقد يخشن اللين كما يخشن الحديد عن المنشار إذا نقل بعض عن بعض بالمبرد فإذا ذهب الشق واستوت أجزاؤه لان






----------------------------------- صفحة 164


وقال بعضهم لا بل تأذى بها فدفعها عن نفسه فمازجها كمن يبلى بالوحل إنه إذا تكلف الخروج يزداد فيه ولوجا والحركة تكون من النور والسكون من ضده إذ هما متضادان فأوجبوا أصلين نورا وظلمة وفرعين حركة النور وحسه وسكون الظلمة وعدم الحس من غير أن يبينوا شيئا سوى النور والظلمة


قال الفقيه رحمه الله ذكرنا أقاويلهم لتعلموا مقت الله ممن آثر عداوته وعدل عن طاعته ولم يتفكر في خلقه بفكر خاضع له مستغيث به ليوفقه لدينه ويفتح عليه باب الحق لكن مال إلى الدنيا ركونا إليها ورغبة في شهوات نفسه فوكل إلى نفسه ولم يعصمه من عدوه إذ لم يتضرع إليه ولا رغب في غير الذي مال إليه وبالله نستعين


والأصل أن الله عز وجل يجعل هلاك عبده بالذي به يدعى جحوده ويعدل عن طاعته خوفا عن أمر يلزمه بأن يهلكه بلزومه فيما طمع الخلوص عنه فهؤلاء لظنهم أن الذي يكون منه الخير لا يحتمل كون الشر منه صاروا إلى القول بإثنين وبجعل أصل كل غير الذي هو أصل الآخر ثم صيروا الذي هو أصل الخير عندهم هو النهاية في الشر والذي هو أصل الشر عندهم هو النهاية في الخير لأن هؤلاء صيروا النور جاهلا بعواقب ما إليه يصيير حتى كان على أحد القولين أراد دفع أذاه فبقى فيه لا يعلم أنه لا يقدر عليه ولا أنه يبقى في غاية ما رام دفعه ولا قدر على التخلص إذ بلى به والأول صار إليه ليلين خشونته ويدفع أذاه جهلا منه أنه لا يقدر عليه وعجزا أن يتخلص عنه وكذلك على قول الماني إن الظلمة هي التي بغت على النور وألقته في حبسها وأوثقته بوثاقها حتى مأتاه وعجز عن النجاة وبدوء كل خير ونهاية العلم والإحاطة بكل خير والبلوغ إليه إنما هو بالقدرة عليه فأزالوا الأمرين جميعا عن النور وحققوا للظلمة فصاروا إلى نقض جميع ما بنوا إن الخير






----------------------------------- صفحة 165


165 - كله لكل ذلك فصيروا النور خارجا عن أعظم الخير والآخر عن أعظم الشر ثم حققوا الأمرين لواحد وله قالوا بالإثنين ليعلم هلاك كل فريق بالذي به ظن النجاة وبالله التوفيق


مع ما لو كان لذينك الوجهين يجب القول بالإثنين ليجب القول بالأربع نحو الطبائع إذ هي متضادة كل يضر الكل ولو كان بهذا يقول بالأربع ليجب القول بالست بما لا يخلو شيء قائم عن جهات ست وذلك يوجب القول بالسابع لما كان حامل تلك الجهات لا يوصف بجهة سابقها أو بالخمس بما كان الذي فيه إجتماع تلك الطبائع هو الخامس لا يوصف بحر ولا برد ولو كان كما تقول الثنوية ليجب القول بالثالث لما كانا ولم يكن العالم ولا خير ولا شر ومحال كون متبائن بنفسه ممتزحا بنفسه لا يوجب الاجتماع والتناقض ثبت كون ذلك بغيرها وبه كان كل خير وشر فيبطل قولهم من حيث راموا إثباته


ثم القول بالواحد لا يضطر صاحبه إلى القول بآخر بوجه وأصل ذلك أن هؤلاء قوم لم تبلغ عقولهم المبلغ الذي يدرك به حكمة الربوبية في الأشياء وظنوا أن يكون الرب على صفتهم من الحاجات والشهوات واحتمال الآفات وشوائب العاهات فقدروا أفعاله بالذي علموا الحكمة بأفعال أنفسهم ولو تأملوا ما هم فيه من الضرورات السواتر المانعة عن الإحاطة بالأشياء ثم بمصالح أنفسهم التي في ذلك جل كدهم وجهدوا لعلموا أن الجهل هو الذي سدهم عن إدراك الحكمة في ذلك وأحق الناس بهذا هم إذ زعموا أن العالم إنما هو امتزاج النور والظلمة فما من جزء من أجزاء النور إلا وهو مشوب بجزء من أجزاء الظلمة والظلمة هي الساترة ثم هي القاهرة للنور فما من خير يرجى بدؤه منه إلا والظلمة تقهره وتستره عن التجلى لأهل المذهب فأنى لهم والعلم والوقوف على طريق الحكمة حتى يدعون في الآخر دعوى بشر






----------------------------------- صفحة 166


أن نورهم مع قيامه بنفسه وصفائه عن شوائب الظلمة لم يعلم ما عليه الإمتزاج من الضنك والضيق ومن الجهل والعجز ثم يرجى بجزء منه عند خروجه عن جوهره ووقوعه في يدى عدوه أنه يطلقه على الحكمة التي لم يبلغها هو عند تمامه وأحق من لا يدعى الحكمة ولا يناظر أهلها ولا يشرع فيها التنوى لأنه يرجع إلى جوهرين عند نفسه شر وخير وكذا كل أحد عنده


وأما إن كان الشرع فيها بجوهر النور وكذلك من يكلمه فيها فهما عندهم حكيمان لا يخفى عليهما شيء لا معنى لكليهما وهما بأنفسهما ذلك أو جوهر الظلمة ومحال احتمالهما الحكمة أو أحدهما جوهر النور والآخر هي الظلمة لا يحتمل ذا الجهل ولا الآخر العلم فيكون التكلم عبثا لا معنى له ولا قوة إلا بالله


قال الشيخ رحمه الله ثم الأصل أن من يفعل فعلا لا ينتفع هو به لهلاكه وفنائه أنه عائب والله سبحانه لم يكن لينتفع بما ينشئه لتعاليه عن الحاجات وغناه بنفسه عن غيره فيبطل أن يكون فعله لينتفع به هو ثم لو كان للهلاك لا غير لكان لا معنى لخلقه فثبت أن خلق العالم للعواقب ثم خلق خلائق لم يجعل عندها تمييزا ولا إدراكا لعواقب الأمر ثبت أنه خلقهم لا لأنفسهم وخلق خلقا يعرفون ذلك ويطلبون بجميع صنيعهم نفع العواقب حتى من خرج فعله عن ذلك إذ هو محتاج كل غير حكيم في فعله فلزمت محبتهم لئلا يضيع نعم المنشئ فيهم من العقول التي يدركون بها العواقب ولأنهم لو تركوا وتدبيرهم لم يكونوا يرضون من أنفسهم التقلب فيما لا يؤثر نفعا ولا يعقبه حمدا ومن تعاطى منهم مثله فهو سفيه جاهل وإذا لزم ما ذكرنا لزم في الحكمة خلق الضار والنافع وخلق الجوهر المحتمل للألم واللذة وإنشاء الآلام والملاذ ليعلموا ما يرغب إليه الأنفس وما تهرب منه فيحذرون ويرغبون بمثله فيما امتحنوا به وليعلموا النفع






----------------------------------- صفحة 167


من الضرر الذي لولا ذلك لم يكن لخلقهم معنى فخلقهم الله على ما خلق من الإختلاف لهذين السببين ثم بلطفه خلق كل جوهر محتملا للنفع والضرر يحل به لغيره وأوصل منفعة كل جوهر بغيره من الجواهر التي فيها المضار ليعلم الناظرون أن مدبر ذلك كله واحد وأنه لو كان من مختلف لتدافع الخلق لأن جوهر الخير إذ لا يجئ منه غير الخير ومن جوهر الشر غير الشر لكان صنع كل واحد منهما في بعض صنع الآخر وإفساده ما يقوم مع مثله عالم فدل الإتساق وتعلق منافع بعض ببعض على فساد هذا على أنا إذا لم نقل بأن الكل لواحد لم يحتمل القول منا لعدد إذ لم يقدر واحد منهم على أفراد الذي منه باد يدل عليه ولا أعلم عليه علما يدل عليه لم يجب بمثله حق المعرفة به والعلم بحالة فيفسد العلم جميعا لجهل الأصل الذي كل أنواع العلم وفروعه به


مع ما ينفع أحد الجوهرين يضر الآخر وفي ذلك يلاقى الضار النافع فيبطل به نفع البتة لما معه المانع عنه وفي وجود العالم وما فيه لكل منهم نفع هو الدليل الحق على أن مدبر ذلك كله واحد لحبس كل ضار عن عمله من وجه ضرره باللطف لتقبل ما أراد من النفع ليصل إلى من أراد نفعه وهكذا هذه القصة فيمن أراد ضرره ولا قوة إلا بالله


مع ما أنه معلوم أن العقول ليست تركب للأكل والشرب ما لا عقل له في ذلك ما له العقل وتعظيم محل قوم اتقوا الأكل والشرب في القلوب وهم الملائكة فثبت أنها خلقت للعبر والنظر لما فيه المحامد والمكارم وإذ كان كذلك لزم خلق مختلف الجواهر في الحكمة ليكون بطريق العبرة تاما وحق النظر وافرا ولا قوة إلا بالله


على أنه معلوم في الشاهد أن من يعمل الأمرين جميعا هو أتم بل لا يقدر






----------------------------------- صفحة 168


أحد على إتقاء ما يضره إذا لم يعلمه فعلى ذلك خلق الأمرين في الحكمة أوجب وأتم من خلق أحدهما مع ما في ذلك من دلالة غنى الفاعل وتمام قوته وعلمه بما يليق بكل شيء أن يكون عليه ولا قوة إلا بالله


ولو لم يكن لما عليه أهل التوحيد سوى أدلة صدق الدعاة إليه والبراهين النيرة معهم وهم الرسل مما لا يوجد شيء من ذلك لأحد من منكرى الصانع الواحد لكان ذلك كافيا فكيف وما من شيء إلا وهو بجوهره يشهد بحدثه وأنه حدث لمحدث حكيم لولا تعنت الملحدين بما ادعوا من قدم الأعيان مما لا سبيل لهم في الرجوع إليه إلا إلى تقليد من ليس معه دليل أو جعله سفهه وهو عجزه عن الوقوف على كون شيء لا عن شيء دليلا له ولا ريب أن كلا منهم يعلم من نفسه جهلا بأشياء ثم العلم بها وعجزا عن أشياء ثم قدرته عليها وضرورة إلى أشياء ثم غنى عنها فحق من هذا وصفه أن لا يثق برأيه ولا ينفع ما يرى أنه من إشارة عقله


مع ما لا يخلو أن من رد ذلك إلى الطبائع التي لا تعقل ما يولد منها وبها وكذلك النجوم أو إلى عدد من الصانعين مما كان بدء أمرهم الجهل والعمى أو إلى تقليد أقاويل في قدم الأشياء على ماهي عليه مما يتناقض ويتضاد فأنى لهم العقل مع هذه الأصول المتجاهلة الذين هم فروعها أو الوقوف على حقائق الأشياء حتى يدعون في شيء من حكمة أو سفها ولا قوة إلا بالله


على أن الذي دعى الثنوية إلى إنكار شيء من لا شيء خروجه عن التصور في العقول أو تقديرهم في تعرف الحكمة في العقل ما عاينوا بينهم ولو علموا أن القول بمبادئ العالم على ما عندهم في الخروج من التصور في الوهم مثل الذي أنكروا أو خروج ما معهم من الروح والعقل والحواس أو خروج حكمهم عن التصور في الوهم لما أنكروا ثم لو علموا أنهم شهدوا فعل الضعفاء الجهال بأنفسهم على ما علموا بالخبر أنهم ثم كانوا لعلموا أن الأشياء من غير شيء






----------------------------------- صفحة 169


أحق أن تنسب إليه من به جملة العالم ثم لو علموا غناه وقدرته وتعاليه عن صفة الخلق لم تضق قلوبهم عند قصورها عن درك الحكمة في خلقه على الله نتوكل وبه نستعين


وذكر جعفر بن حرب أنه سأل ثنويا عمن قتل آخر ظلما ثم اعتذر إليه وأقر بالإساءة فألزمه أن الثاني خير ولو كان من غيره جوهر الأول كان كذبا من النور وهو شر فكتب ذلك إلى رئيس لهم فكتب الرئيس مجيبا إن ذلك كمن ينفح دابته ويعتذر هو


فقال جعفر إنما ذلك توجع منه ولو اعتذر في الحقيقة كان جاهلا إلا أن يكون الإعتذار من تقريبه الدابة إليه


فأسلم الرجل وحق له أن يسلم وما ذكر ابن حرب لازم ولا قوة إلا بالله


ثم المسألة على قول المعتزلة خطأ إذ من مذهبهم أن ليس في خلق الله شر وإنما سمى شرا بالمجاز فإنما طريق مناظرتهم الثنوية في إزالة ما ظنوه شرا أن يكون شرا فأما أن يسلموا الثنوية ويلزمهم القول بالخالق الواحد من الوجه الذي يوجد من غير الله تعالى الوجهين جميعا ويجعلونه على الصانع فيجد القول بنفى ذلك فهو محال فاسد لما فيه تثبيت معرفته وتوحيده يخلق الشر والخير ثم ينفى أحدهما في الحقيقة رجعت إلى قول الثنوية بأن الذي منه خلق الشر في الحقيقة غير الذي منه خلق الخير فيلزمه التوحيد بالتثنية ووجه قولهم في هذا أنهم أنكروا خلق أفعال العباد بما فيها السيئات والمعاصي والشرور فعورضوا بخلق الشرور






----------------------------------- صفحة 170


من الجواهر وأنه لم يسم به شريرا ولا مسيئا ولا إفساد الأشياء مفسدا فكذلك في خلق أفعال الشر والفساد لا يسمى به فكان من جوابهم أن الجواهر سميت شرا على المجاز لا على الحقيقة وهي في الحقيقة ليست بالشر


وأما عندنا فنحن نقول بأن الله جل جلاله خالق جوهر الشر والخير وخالق فعل الخلق شرا أو خيرا ولا يجوز كون شيء في سلطانه لم يخلقه فيكون له شريك في سلطانه وعديل في خلق عالمه جل الله عن ذلك وتعالى ونقول بأن خلق الخلق ليس هو ذلك الخلق وكذلك فعله ولا يوصف فعله بالشر والخير ولا يوصف بأن فعله خير وشر لأنه موصوف بفعله ولم يقل هو خير ولا شرير ومن فعله ذلك في الحقيقة فهو مسمى به ولا قوة إلا بالله


وما يجب في الحكمة خلق الجواهر المؤذية والمناظر القبيحة وخلق الآفات في الحواس أن البشر كلهم قد اعتقدوا شيئا غاب عن حواسهم إما نفى أو إثبات منهم من دانوا ومنهم من تجاهل وحصل على الشهوات فإذا لم يخلق فيما يقع على الحواس ما ذكرنا لم يعرفوا القبح من الحسن ولا المؤذى من النافع وإذا لم يعقلوا ذلك لم يحتمل عقولهم درك القبيح من الحسن ولا المؤذى من الملذ فخلق كذلك ليمثلوا بما تقع عليه الحواس ما لا تقع عليه ليصير كل معتقد غاب عن البصر على ما عليه معروفا بما يشاهده ولا قوة إلا بالله


ثم الذي ينقض على الثنوية على اختلافهم اتفقوا في جميع ما ينطقون به أنهم بجوهر النور ينطقون وبه يتقلبون فصار كل الإختلاف به إن صدقوا وإن كذبوا فصار كل الكذب به وإن صدق بعضهم وكذب بعض فثبت ممن هو من جوهر الظلمة تفضيل النور حتى اختار الإنتساب إليه دون الظلمة وتفضيل ذي الفضل خير في شهادة العقول يلزم بطلان القول بأصل هو شر لا يجئ منه غيره وخير لا يجئ منه غيره ولا قوة إلا بالله






----------------------------------- صفحة 171


ثالثا أقاويل المرقيونية وبيان فسادها


والمرقيونية قالوا بعلو النور وسفول الظلمة وبمتوسط بينهما ليس بنور ولا ظلمة وهو الإنسان الحساس الدراك والإنسان عندهم حياة في البدن وأن هذه الثلاثة كانت متفرقة فامتزجت وأن كل جنس منها يحاذى الذي يليه كمحاذاة الشمس الظل نحو أعلى المتوسط يحاذى النور وأسفله الظلمة والجوهران عند الأولين كذلك في التحاذى


وقول الصابئين مثل قول المنانية إلا أن بينهما كما زعم ابن شبيب فرق قليل لا يحده والمنانية زعمت أن النور يلقى الظلمة من الشمال ذاهبا في مهب الجنوب والظلمة تلقاه في مهب الجنوب ذاهبة في مهب الشمال وكانا متلاقيين على دخول بعض الظلمة فيه ولا يتناهيان من سائر الجهات فتكلم هؤلاء بمثل الذي تكلم الثنوية ثم لا يخلو الواسط من أن يكون تدبير كان منهما أمر العالم أو على الإجتماع حدث منه فإن كان بالتدبير بطل الإمتزاج وأنى يقع وهو بين النور والظلمة والظلمة من شأنها التسفل ومن شأن النور العلو وبينهما فاصل يمنع إلا أن يكون بالتدبير جمع بينهما وإمتزاج هو بهما فكان أصل كل شر إذ كان من الإمتزاج ولولا أنه مزج بينهما ما وجد أحدهما سبيلا إلى الآخر فيصير الأمر إلى أن مدبر الخير والشر واحد وإن كانا هما غلبا بالطبع وقهرا الواسط حتى امتزجا فإذا لم ينفعه حسه ودركه إذ صار تحت قهر ذي الطبع فكونه واسطا لا معنى له أو حصل الأمر على النور والظلمة


ثم قالوا جعلوا الواسط متناهيا والآخرين غير متناهيين والمتناهي تحت غير المتناهي لأنه كالمقصر عن تمام ما ليس بمتناه كالقصير من الطويل






----------------------------------- صفحة 172


والإنسان إن كانت الحياة التي في البدن فهي محسه للبدن مستعملة له فيجب أن يكون الواسط هو الذي له تدبير العالي والسافل وهو المستعمل لهما فيصير الإله في الحقيقة واحدا أو يبطل الإمتزاج وما ذكر من الخيال


ثم إشارته إلى الإمتزاج وهي حياته خطأ إذ لا إنسان يعرف تدبير إبتدائه ولا أصلح ما فسد منه ولا دفع ما حل به ثبت أن المدبر واحد وهو غير الذي ذكر وأن الذي ذكر تحت تدبير الواحد


ثم لا فرق بين أن يحدث مزاجا لم يكن لا عن أصل هو امتزاج وبين أن يحدث لم يكن لا عن أصل البينونة ثم لا فرق بين إمكان تغير قد تم إلى إحتمال الحوادث بعد أن لم تكن كذلك بقدرة قادر وبين أن يكون الحوادث به لا يقلب القديم إلى معنى الحديث إذ هما جميعا في البعد عن البصر في الوهم واحد وبالله المعونة والنجاة


أقاويل المجوس وبيان فسادها


قال الشيخ رحمه الله قالت المجوس أعجب الله حسن خلقه فتخوف ما يضاده فيه فتفكر في ذلك فكرة فحدث منها إبليس وقال بعضهم أصابته بعينة فالتفت وراءه فرأى إبليس فصالحه على أن يمهله إلى مدة ووادعه على ذلك حتى إذا مضت المدة أهلكه الله فكان من إبليس كل شر ومن الله كل خير


وهذا الذي حكوا إن كان هو قولهم في الحقيقة فهم شر من جميع الثنوية لأن الثنوية قالت بإثنين لما رأوا خلق الشيء لا عن شيء غير متصور في الوهم






----------------------------------- صفحة 173


عظم عليهم القول بحدث العالم لا عن شيء ثم رأوا العالم مشتملا على خير وشر موصوفا كل من فعله الخير والعدل بالصفات المحمودة ومن فعله الشر والجور بالصفات المذمومة استعظموا نسبتهما إلى الواحد فيكون واحدا محمودا مذموما بما عليه العرف فقالوا بإثنين قديمين


والمجوس قد استجازوا حدث العالم لا عن شيء وأصل وإنما عظم عندهم وصف من منه الخيرات بفعل الشر لم ألزموه فعل شر الشر صيروه أمه إذ الفكرة الردية شر وما حدث وهو إبليس شر وكان منه الأمران جميعا وهو السبب الذي دعاهم إلى القول بإثنين فتناقض قولهم مع ما لا يؤمن منه حدوث الفكر وقتا بعد وقت فيكون جميع الشر بذلك وإن أريد إحالة ذا دل وجوده مرة على دفع الإحالة إلا أن يقول بالخير فلعل بداه عن الفكرة التي هي شر على أنه إذا وادعه على الترك إلى تلك المدة فأما أن لم يعلم أنه يعمل ما يعمل به الشر والجهل شر فهو شر آخر أو علم فتركه على ما علم من الفساد به فذلك منه الشر ومثله إما أن يكون علم من قبل ما يعمل فكره ففكر على العلم بما يكون منه وهو شر وإما لم يعلم والجهل شر ثم لا يخلو من أن يكون منه وهو شر وإما لم يعلم والجهل شر ثم لا يخلو من أن يكون قادرا على منع إبليس وقهره أو لا فإن قدر ثم أمهله ليفسد الخلق فهو شر عندهم وإن لم يقدر فلا يكون العاجز رب العالمين مع ما يقال ثم علم أن إبليس عند المدة يفى له بالذي وعد وفاء الوعد خير وحق فإذا يكون من الشر خير ذلك مع ما كان هذا لازما له إنه إذا كان ممن هو أصل الخير يجئ الشر فنعكس عليهم ونجعل كل خير من إبليس وكل شر من غيره وبعد فكيف يأمن بالقدرة عليه في الوقت الذي لم يكن لإبليس غير نفسه عون وللذي به






----------------------------------- صفحة 174


كان كل الأشياء أعوان ثم اختلط خلقه الذين هم أعوانه بالذين هم أعوان الله في منعهم عن المعونة عليه جل الله عما وصفه الملحدون


وإن قالوا الموادعة كانت لبعض المصالح فمثله الهوام الضارة والأشياء المؤذية


وبعد فإن تخوفه من يضاده يوجب الجهل بأنه رب كل شيء وكذلك إصابة العين فإذا ضر به العين ومن تقهره العين وتزيل قدرته وتدفع علمه فهو رب بغيره لا بنفسه خالق بغيره فيلزم القول في معبودهم إنه عبد لا معبود


ثم لا شيء من تلك الجواهر المؤذية إلا وهي تنفع خلقا فلا تضر ولا تؤذي لأنفسها ولكن بمدبر حكيم عليم جعلها بحيث تؤذى أحدا وتنفع آخر ثبت أن القول بإنفراد منشئ الشر بعيد


ثم إن لم يكن في خلق الشيء من غير شيء إلا خروجه من وسع الخلق وارتفاعه عن التصور فلا أحد امتنع عن القول بتحقيق مثله لأن إنشاء الجسم وكونه في الأرحام بالطبائع وحدوثه بحركات النجوم أو خروج العالم عن هذا الطبع وإمتزاج النور والظلمة ثم التباين خارج عن الوجه الذي ذكر على أن حقيقة كل شيء من تأمله كذلك نجده لأنه ليس في النطفة ولا في جميع الأغذية ولا في الأرحام شي من معاني البشر ثم مما له من العقل والسمع والنظر فإنما ذلك خارج عن ذلك بتقدير عليم حكيم وكذلك جميع الطبائع المختلفة أو جواهر الخير والشر لو خلى بينها وبين عملها ما ظهر بها جوهر ولا يمكن بها خلق فالقول بالكون بمثله أبعد عن التصور في العقل ولا قوة إلا بالله


وقد بينا وجه الحكمة في خلق الجواهر المختلفة وأن فعل الله لا يوصف بذلك وإن أنشأها على ما عليه من قبح القبيح وحسن الحسن هو معنى الحكمة






----------------------------------- صفحة 175


ووضع كل شيء موضعه وأن الله تعالى إذ لم يخلق لحاجات نفسه وإنما خلق بذاته إنه خالق ليكون الخلق الذي ركب فيهم العقول وجعلهم أهل المعرفة بالنعم والبلايا يمتحنون بوضع كل شيء موضعه والقيام بالشكر لما أنعم عليهم بأن جعل لهم جميع الخلائق على اختلاف جواهرهم أدله وعبرا ومحنة وإبتلاء بمعاداه جواهر وموالاة أخرى وليعرفوا كيفية الإتقاء ووجه الحذر وما فيه الرعب ووجوه المبادرة في ذلك للعواقب المحمودة في العقول وإبقاء لمكروهة فيها بما عاينوا من مختلف الجواهر والأحوال في حق الترغيب والترحيب ليكون الوعد والوعيد مقدرا عن الحس والعيان إذ ذلك طريق المعارف وبه يوصل إلى درك النهايات ولا قوة إلا بالله


ولو جاز إنكار الشيء لا من شيء بما لا يتصور في الوهم لجاز لكل مؤوف الحاسة إنكار ما يدرك بها إذ هو غير مدرك إنكار كل غائب لم يبلغه الحاسة وفي ذلك نفض المجوسية وغيرهم إذ هم جميعا اتبعوا أوائلهم ثم التصور في الوهم تقديره مما تقع عليه الحاسة إذا ارتفعت فتصور حال وقوع الحاسة في وهمه أو يقدر مثله في الوهم ثم الله سبحانه لم يعرف من طريق الحواس ولا له مثال في المعروف بطل التقدير به ثم الأصل أن التصور في الوهم هو علم الحس أو في علم الحس دليل لزوم العلم بما لم يحس ولأن يعرف إذ كل ذي حس جاهل بمائية الحس وكيفيته فلزم ذلك في كل حس هو كذلك






----------------------------------- صفحة 176


فيجب كون الحواس بمن يعرف حقائقها وينشئها على ما يرى أهل الحواس أن الذي أنشأها لا يحتمل إدراكه بالحواس إذ كل ذي حاسة جاهل بما عليه أحواله وعاجز عن إحتمال وسعه ما فسد منه فأوجب ذا أن وراء هذا عليم حكيم لا يحتمل ما احتمل المحسوس إذ لو جاز واحتمل لم يحتمل كون المحسوس به كما لم يحتمل بأمثالنا وبالله العصمة والنجاة


مسألة إثبات الرسالة وبيان الحاجة إليها


قال الفقيه رحمه الله تكلم الناس في الرسالة فأثبتها أئمة الهدى وقادة الخير وحكماء البشر وأنكرها من جهل صانعه ومن أقر ممن جهل أمره ونهيه ومن أقر بذلك ممن زعم أن في العقل الغنى عن الرسالة مع ما أمكن مقابلة آيات من ادعى الرسالة بصنيع الكهنة والسحرة والمشعبذة


وبعد فإنه يحتمل ظهور عجز من حضرهم بما لم يكن في ذلك النوع تكلف وإجتهاد ولم يكونوا امتحنوا قوى الجميع


قال الشيخ فنناظر من أنكر الصانع في إثباته إذ التنازع في إرساله لا يتمكن إلا بعد لزوم القول بهستيته وثباته مع ما أمكن الأمران جميعا بآيات الرسل إذ هم قوم نشأوا بين قوم عرفوا أحوالهم وقد كانوا أدركوا منتهى وسعهم فلما جاءوا بالآيات التي قهرت عقولهم مع علمهم بأن وسعهم لا يحتمل إنشاء مثلها لزم العلم بصدقة فيما أخبر من مرسله وأن تلك الآيات مما أنشأها من يكون رسالته من عليم حكيم قادر على إنشاء الأدلة على إثباته ليعلموه بها وإن لم يشهدوه ولا قوة إلا بالله






----------------------------------- صفحة 177


ثم من أنكر الأمر والنهى والوعد والوعيد لم يحصل لإنشاء حكمة وإنما حصل منه على الإنشاء ثم الإفناء ثم معلوم أن كل من ذلك عاقبة فعله ليس بحكيم فدلت حكمة صانع العالم بما جعل فيه من الأدلة على وحدانيته وعظيم سلطانه على أنه حكيم والله الموفق


مع ما كان الله سبحانه إذ هو غنى بذاته حكيم في فعله خلق الخلق للبقاء إلى قدرة جعلها لهم ثم لم يجعل البقاء إلا بالأغذية وقد حبب إليهم البقاء ودوام الحياة فلو لم يجعل عليهم الأمر والنهى لبادر كل إلى ما يطمع فيه من البقاء ودوام الحياة مع ما له فيه من اللذة والشهوة ثم يفعل أقرانه بذلك الشيء نحو فعله فيحدث بينهم التنازع والتجاذب ويحملهم ذلك على التدافع وفي ذلك خوف الفناء بما به جعل البقاء فلزم جعل الحرمات والحل والأمر والنهى بما فيه من الوعد والوعيد ليعلم كل ما له مما ليس له فيسلم من كل عداوة وتبقى له روحه ومن أنكر الأمر والنهى والمحنة ذهب إلى معنى المحنة في الشاهد إنما هو لظهور ما خفى وتجلى ما استتر والأمر والنهى لمنفعه ينالها الآمر والناهي أو مكروه يدفعه فإذا كان الله غنيا بذاته عليما بالسرائر والخفيات ذهب معنى المحنة والأمر والنهى


قال الفقيه رحمه الله نقول وبالله التوفيق إن كان أمره ونهيه ومحنته على ما يذكر فإن فعله لذلك لمكروه يدفع أو محبوب يجلب أو عيب عنه يتخلى والله سبحانه أنشأ العالم لا للذي يذكر فمثله الأمر والنهى والمحنة مع ما كان ذلك التقدير إنما هو فعل المحتاجين مما يعلو درجاتهم وتجل أقدارهم ولو فعلوا غير ذلك كان عليهم في فعل ذلك ضرر عاجل وشر آجل فأما من هو حكيم بذاته غنى فهو لا يفعل لنفع ولا لدفع الضرر فمثله الأمر والنهى مع ما






----------------------------------- صفحة 178


بينا من إختلاف الممتحنين في الغنا والحكمة لم يجز تقدير أحدهما بالآخر ولا يحتمل حكيم يفعل الشر لحكمه الربوبية فتكلفه الذي ذكر خطأ


وبعد فإنه إذ جعل الخلق قسمين ضارا ونافعا وجعل كل جوهر محتملا للألم واللذة لم يحتمل أن يجعلهم كذلك إلا لعواقب يحذرهم بها ويرغبهم فيها من الوعيد بالشدائد والوعد بالملاذ وبذلك تتم الرغبة والرهبة والله الموفق


وبعد فإذ خلق الخلق وجعل البعض منافعا لبعض وإن لم يكن له في ذلك نفع لغناه وكذلك المضار فمثله يأمر وينهى بمنافع بعض ببعض وإتقاء المضار مع ما يأمر بما ينفعهم كما خلقهم وجعل لهم ذلك وينهى عما يضرهم والله الموفق


وأيضا إن في الحكمة الأمر والنهى إن الله خلق البشر في أحسن تقويم وسخر لهم جميع ما على وجه الأرض وبركاتها وبركات السماء من غير أن سبق منهم ما خرج ذلك مخرج المكافأة أو مخرج حق قضاه فلا يجوز في العقل إسداء مثل هذه النعم إلى ما لا يعرفها لما فيه تضييع وظلم النعم فلزمهم به معرفة المنعم ليعلموا من يستحق المحبة ويستوجب الشكر وفي ذلك لزوم المحنة ووصل بذلك الوعد والوعيد ليتم الرغبة والرهبة وبالله التوفيق


وبعد فإنه قد حسن في العقول الصدق والعدل وقبح فيها الجور والكذب فجعل الفريق الأول عظيما في القلوب كريما والثاني حقيرا مهينا فيصير العقول آمرة بكسب ما يعلى شرف من رزق منها وناهية عما فيه هو أن صاحبها فيجب الأمر والنهى بضرورة العقل ثم الثواب ليتم الكرامة لمن اختار سبلها والقيام بوفائها والعقاب لمن آثر هواه على إشارة العقل






----------------------------------- صفحة 179


وفيما ذكرنا لزوم القول بالرسل ليدلوهم على معالم العدل والصدق ومضار ضدهما على الإشارة إلى كل شيء أشكلت مائيته ليكون أمر الأحوال للحمد موافقا والله الموفق


وبعد فإنه لا عاقل في الشاهد يرضى إهمال نفسه عن التعاهد ينهمك في الشهوات بل كل يجتهد على تسويتها على ما لايضرها وعلى ما يحمد عواقبها على ما فيها من الجهل الذي يعطبه بما به يرجو نجاته ويضره فيما به يطمع نفعه فذلك يحوجه إلى من يعلم عواقب الأمور حتى يروض نفسه على إشاراته دون أن يهملها لشهواتها ولا قوة إلا بالله


ثم نرجع إلى مناظرة من أنكر الرسالة للوجوه التي ذكر ها بعد إقراره بالتوحيد وإيمانه بالأمر والنهى مع ما فيما ذكرت من أدلة الأمر والنهى مقرونة بالحاجة إلى الرسالة كفاية لمن تصح نفسه ثم نقول يجب القول بالرسالة بضرورة العقل في إيجاب الحاجة إليها دينا ودنيا ثم في إثبات الأفضال من الله إن كان في العقل منه غنى فأمر الدنيا فيما به أيضا قوام الدين ونحو أن خلق البشر وجعلهم أهل المحنة وأنبت لهم من الأرض بما أنزل من ماء السماء أغذية لهم وأدوية ثم أنبت منها الأدواء والسموم القاتلة ومنح في عقولهم الإمتحان بأنفسهم ليعرفوا المؤذى من المغذى لما لعل فيه عطب الممتحن وليس في العقول سبيل يعرف ذلك لزم القول بمن يطلعه الله على كل جوهر منها ليحيى بما يأكلون أبدانهم ويقيموا به دينهم


ثم في الإبتداء ليس في العقول سبيل يعرف الوجوه التي تنبت من الزراعة وما فيها من التدبير ثم بعد التمام والعلم بجوهر لا بد ممن يعلم كيف يستعمله حتى






----------------------------------- صفحة 180


يصلح للإغتذاء على اختلاف ما جعل لصلاح ذلك ثم جعل في الطعام أنواع الأذى مما يدفع إليه المنتفع إذا لم يحفظ حده لأنه ممن يعلم حد ذلك ثم دواه إن ضره بالقدر الذي به يدفع ضرره ثم علوم الطب مع تفاوت الطبائع وإستعمال السموم القاتلة ليعرفوا قدر النافع مما يقوم معه البدن ثم في أنواع الحرف التي بها قوام سترهم وكنهم والوقاية لهم من الحر والبرد ثم فيها خلقت لهم من الدواب الصعبة مما ليس يعلم المتأهل فيها أنها لأي منفعة خلقت ولا أنها لمنافعه خلقت أو لا ولا كيف يروضها إذ طبع كل منها النفار عما هي له حتى تنقاد وتخضع ثم في أنواع التجارات التي لا يقوم لهم دين ولا دنيا إلا بها ثم ما فرق حوائجهم في البلدان الذي ليس في طبعهم ولا في عقولهم ما يدلهم أو يبين لهم في كل حاجة أنها أين تطلب ثم في معرفة طرقها إذ ليس في العقل ما يدل على مكانها ولا على طرقها ثم في تعرف الألسن التي بها قام النفس للمعاش وفهم المعاد ثم نتعرف الأسماء التي لولا هي مافهمت حاجة ولا أمكن أحدا معرفة موضعها ثم في وجوه أسباب التناسل وفي معرفة تربية الصغار ثم في العلم بتدبير أغذية ما ليس يتطرق ثم بظهور بعلم الخلق بعضهم من بعض جميع ما ذكرت من الألسن والأسماء والحرف والطب والصناعات كلها وطرق البلدان ورياضة الدواب وكيفية إستعمالها وجميع ما ذكرت هو الدليل البين أن أصولها تعليم وإشارة لا إستخراج العقول والله الموفق


فهذا مع الأمر المعروف الموجود من فزع بعض إلى بعض عند النوائب وما يحزنهم من الأمور المهمة للإستعانة برأيهم والصدور عن مشورتهم بما عندهم فضل في العالم ثم تعليم فنون الآداب ثم قيام كل بما يستفيد أنواع العلم من درس الكتب والإستماع إلى الحكماء فدل ذلك أنهم لم يروا بعقولهم كفاية عن الإستعانة وآداء حاجاتهم جميعا لزم في العقل الفزع إلى ناصح صدوق وذلك






----------------------------------- صفحة 181


ظن الخلق بأولئك إنه وصل إليهم العلوم على ألسن هؤلاء فعلى ذلك أمر الدين والدنيا وعلى ذلك علم السحر يعتبر جواهر الأشياء بأنواع المعالجات وعلوم محاربة أعداء الدين والأموال كلها مستفادة في الأمر الظاهر من الألسن وما عنها يوجد فأول ذلك تعليم يكون من العليم الحكيم


ثم مما يلزم القول بالرسالة بضرورة العقل هو أنه قد ثبت حسن معرفة المنعم والشكر له في العقل وقبح الجحود له والكفران بنعمته ثم ما من شيء تقع عليه حاسة من حواسه إلا ولله عليه في سلامة حاسته وما أدرك نعم يعجز عن الإحاطة بها


ثم بعد هذا له عبارتان إحداهما تفاوت إستحقاق المنعمين الشكر وتفاضل أقدار النعم مما لا يبلغ علم أحد نهايتها إلا علم من أنشأها فعلى هذا لا يبلغ عقل بما به تمام شكرها إلا هو فيلزم العقل من يخبر عمن منه تلك النعم والأخرى أن تلك النعم إذ هي تفرقت على الحواس وأصابت كل جارحة منها فلزم استعمال كل جارحة في شكر ما له عليها من النعم مع ما إذا أردت أن تعرف قدرها اعتبر بالمبتلى بالآفة بها لعلة يخف عليه بذل الدنيا ثم كان ما بكل جارحة تؤدي من الشكر لا يعرف بالعقل فيلزم القول بمخبر يخبر عن الله


وأيضا إن الله إذ خلق البشر خلقا أمكنه إستعمال كل جارحة منه بما جعل من اللين بالمفاصل يقبض بها ويبسط ويعطى ويأخذ ويتقلب على مختلف الأحوال وينتشر في مفترق الأفعال مما لو لم يكن خلقه لاستعمال جميع ذلك في العادة لجعل فيه وسع العمل والنفع خاصة كالدواب والطيور فثبت أنه خلق للعبادة فلا بد من مبين مائيتها في كل جارحة






----------------------------------- صفحة 182


ثم الأصل في ذلك مما يوجب ضرورة العقل الحاجة إلى الرسل وجوه أحدها وجود التنازع الظاهر بين الخلق على إدعاء كل منهم أحق بالحق وأولى بالإصابة واتفاق أن ليس فيهم من يفزع إليه ليحكم بينهم ويريهم بما به يتألف قلوبهم وتجتمع كلمتهم ومعلوم أن التنازع هو أصل كل فساد ومقدمة كل فناء وذلك كله قبيح في العقول فقد انتهت عاقبة العقول إلى من يعينها ويردها إلى ما جعلت هي له من الصلاح والمعرفة ومعلوم أن لا أحد أعلم بذلك ممن خلقها وأنشأها وفي ذلك لزوم القول برسول نعلم أنه من عنده جاء وبالله التوفيق


ودليل آخر إنه معلوم أن العلماء يتفاضلون في إدراك ما به مصالحهم في أمر الدين والدنيا يكون عند واحد من ذلك ما ليس عند غيره وإذا ثبت ذلك فلا ندفع أن يكون عند الله مما به صلاح عباده مما ليس عند خلقه فيوصلها إليهم برسله والله المعين


ودليل آخر إنه لا يخلو الأمر من أن يرجع إلى ما يدعوه إليه غفلة أو يلزم على بعض الصدور عما أراه غيره ممن هو أرجح منه عقلا فإن كان الحق هو الأول ليجب الجمع بين العقول والقول لكل بالإصابة إذا قال بما أراه عقله وفي ذلك شهادة بإصابة كل ذي دين اعتمد على عقله وذلك محال لتناقض الآراء والقول وإن كان الوجه الثاني فيصير عقله كرسول يأتيهم من عند الله فيحتاج ذلك إلى دليل يعلمنا شخصه ثم لا فصل بين دليل يقوم بصدقه فيما يخبر عن الله أو بإصابة الحق في كل ما ينطق به عن عقله والله الموفق


فهذا مع ما يعلم أن الأشغال وازدحامها على العقول يلبسها فكذلك الهموم وأنواع ما جبل عليه البشر وكذلك أنواع الألم وأسباب لا تحصى مما يشغل العقول






----------------------------------- صفحة 183


ويمنعها عن الإحاطة بالحق في كل لطيف وجليل وكذلك غلبة الشهوات وكثرة الأماني واللذات فلذلك لا بد من رسول الله ليبينهم ويدلهم عند الإشتباه على الحق ولا قوة إلا بالله


وقد بينا بحمد الله حاجة العقول للرسل والقول بهم وعجز العقول عن الإحاطة بالكل والأصل في ذلك وجهان أحدهما أن الله تعالى جعل لكل مدرك آلة بها يدرك ثم هؤلاء تحيط ذاته دون أسباب تتصل به ثم مع ذلك تعترضه آفات يلزمه تفاديها بالمؤاذرة له من الأعوان والحفظ له من الأضداد التي هي أعداء تمنع ليشهد بحق الإدراك على العلم بمنع البعد ذلك واللطافة عن العمل حق العمل فعلى ذلك العقل إذ هو سبب مخلوق له حد كغيره من أسباب الإدراك يعترضه ما يعترض غيره مع غموض الأشياء وإستغلاقها ومن مادته النظر في الأسباب أعلى ذلك مما يسمع من كلام الحكماء وأحقهم من له على حكمته برهان ولا قوة إلا بالله


وجه آخر إن الله جل ثناؤه جعل السبب الذي به درك كل خارج عن الحسن وجهين أحدهما الإستدلال بالذي عاين إذا اتصل الغائب بالذي عاين كاتصال دخان بالنار وضياء الشمس بها وكاتصال أثر الفعل بالفاعل نحو الكتابة والبنيان ونحو ذلك والثاني الخبر ينبئ عن حال ذلك نحو البلدان النائية والأحوال المتغيرة والأمور النازلة معروف ذلك عند جميع العقلاء وبذلك معرفة الإنسان الأجناس والفصول والأنواع وأنواع الطب واللسان وعلوم الصناعات والحروب وغير ذلك ثم نعرف الأمر والنهى والوعد والوعيد فيما ليس بمحسوس دليله لا وجه لإدراكه إلا بالخبر وذلك نحو المباح والمحظور وما فيه كل






----------------------------------- صفحة 184


شيء من مختلف الأحوال فيلزم في نحو هذا القول بالخبر وفيه إيجاب القول بالرسالة


ثم الأصول ثلاثة ممتنع وواجب وواسط وهو الممكن وعلى ذلك جميع أمر العالم فالواجب في العقل على جهة لا يجوز مجئ الخبر بغيره وكذلك الممتنع ويجئ في الممكن إذ هو المنقلب من حال إلى حال ويد إلى يد وملك إلى ملك وفي ذلك ليس في العقل إيجاب جهة ولا امتناع من جهة فتجيء الرسل ببيان الأولى من ذلك في كل حال والله الموفق


وما ذكر في الآيات فإن لكل من ذلك علامة تعلم وآية تظهر مع ما كانت المعارضة فاسدة لأنه لا يخلو من أن يكون يصدق أحد في الخبر فيكون ذلك السؤال عليه أو لا يقر بشيء البتة وفي ذلك سقوط خبره هذا عن نفسه مع ما كانت المقابلات بالخروج على غير الحقائق من طريق العيان أظهر مما قال ثم لم يجب به نفى علم العيان كيف وجب ما ذكر وما ذكر من غير عصر الرسل فذلك كلام في قبول الأخبار يلزمه من وجه يضطر إليه فيبطل سعيه


ويناظر فيما قال إنه مما يحرمه العقل من المديح حق لمن ذلك علمه مما يوجب العقل أو الطبيعة أن يجعل الكل ما حوته نفسه وما نفرت عنه طبيعته بصده فيقلب الأحكام عن حقائقها ويبين أنه عن جهل بالعقل خرجت قضاياه فحق مثله أن يعلم حقيقة العقل فيبطل بحكمه ويمقت نفسه بجهله العقل من الهوى والله الموفق


ثم لو كان في العقل الغنى عنه لجائز إرسال الرسل من طريق الأفضال إذ الله موصوف معروف الإحسان فيه تتقلب عباده وما من نعمة لله تعالى إلا ولله تعالى على عباده فضل زينهم وجمالهم نحو الأذنين والعينين وكل ذي






----------------------------------- صفحة 185


عدد في الجسد ثم في كثرة النعم في كثرة ما أنشأ من دلائل التوحيد والرسالة وإن كان بدون ذلك كفاية ثم بكثرة الفواكه والملاذ وإن كان القليل من ذلك كافيا


وبعد لو كان بالعقل كفاية فهو يسده الحد في ذلك والتعاون بأنواع واستشارة أهل النظر فيما خص الله لهم وأزاح عنهم الإشكال ثم الإجتهاد الوافر له يبذل فيه كل مجهود فكان في إرسال الرسل تيسير عليهم وتخفيف وذلك من عظيم المنن فكفران مثله يدل على حمق الرجل وجهله بالمنن حتى عدها بلاء مع ما للعقول أشغال وللأنفس أهواء يستر العقول فإرسال الرسل معونه لهم وإرشاد وذلك هو الذي جبلت العقول على حبه مع ما فيه تذكير وتنبيه وتحذير لوجه التقصير فيكون ذلك مما يحث على النظر ويدعو إلى الفكر وإستعمال العقول وذلك معروف في جميع أمور الدنيا وسياسات الملك مع ما جعل الهوى منازعا له وقد جعل للهوى أعوان من الأماني والشهوات وشياطين مزينة لها فكيف ينكر جعل أعوان للعقول أحقهم بذلك الرسل


وبعد فإن جميع نوازع الهوى مشاهدة حسية وجميع أسباب عمل الحق غائبة إذ المذكر هو ذكر الثواب والعقاب والأمر بترك الشهوات والملاذ وذلك أمر عسير على الطبع والهوى فيحتاج في ذلك إلى الإستعانة برؤية من تذكر رؤيتهم المعاد ويخبرون عن المنقلب بما فيه من اليسر والعسر ليصير ذلك بحق العيان فيسهل على الطبع سهولة ما يوافق الطبع والله الموفق


ونوع آخر من الأصل في ذلك وجود الرسل بما معهم من الأدلة والبرهان مما






----------------------------------- صفحة 186


يعلم جميع منكري الرسل أن ليس مع أحد منهم دليل يحقق تكذيبه أو يزيل عن نفسه صفة المتعنتين مع كثرة حيلهم في مقابلات أدلتهم وطعنها مرة بالسحر وبوجوه أخرى ثم مع بذلهم مجهودهم من دنياهم في إطفاء نورهم فلم يروا غير الظهور والغلبة حتى أحوج الله جميع الأنام إلى الذين يؤمنون بالرسل على تعرفهم بما علموا في الجملة أن لهم في أمورهم غنى رجاء أن يصلح أمرهم فيتفق كلمتهم وعلى ذلك سياسات ملوك الدنيا


ثم لا يقوم رعية لا تجعل فيهم شريعة يلزمون القيام بها وأساسا يبنون عليه ولا بد لأمثال ذلك من تدبير ممن يعلم أنه إذا خلقهم جعل لهم وجها يصلحون عليه ولا قوة إلا بالله


ثم نذكر طرفا مما ذكره الوراق فقال فيما جاء به الرسل من الآيات المعجزات التي بمثلها يثبت القول بالتوحيد إنهم لم يمتحنوا قوى الخلق ولا وقفوا على طبائع العالم التي يستعان بها في الأفعال بل لم تبلغ علم أكثرهم فكيف يعرفون بذلك مبالغ الحيل وهل الذي رأوا إلا كلعب أتى العجب وهل حدث السحر إلا لجذب حجر المغناطيس الحديد


فيقال له أبلغت أنت الذي ذكرت لتعلم أنت الذي قلت طعن أو تمويه فمهما قالوا من شيء فهو له جواب في الأول وجواب آخر إنه لو كان في جوهر العالم الذي ذكر لم يحتمل ظهور ما ذكر من الحجر لأن الخاص إنما يحفظ بإسمه لما يخرج من الإحتمال لبعد في الآيات وتخصيص ذلك من جوهره في الأعجوبة فأوجب ذلك أمرا ما جاء به الرسل خصوصا لهم ليكون لهم إنه في الخروج عن جوهره بالذي يدعى مع ما بينا فيما تقدم أنه نشأ بين قوم






----------------------------------- صفحة 187


على طبع علموا أن مثله لا يحتمل ذلك بجوهر بشر بالذي جاء به


وبعد فقد كثر عنهم الآيات من أنواع ما لا يحتمل ذلك بالإطلاع على جوهر الأرض إلا أن يطلعه من علم جواهرها وفي ذلك الذي ذكر على أنه ما من نبي صحت نبوته إلا وقد شهد قومه منه من إعلام الصدق ما يجب قبول قوله لولا الآيات


ثم يقال أنت ممن تقبل خبرا في الدنيا فإن قال نعم كلف دليلا على صدقه أوضح من أدلة الرسل وفي ذلك وجوب القول بالذي ذكرت وإن قال لا يشهد عليه العقل وكل شيء جعله حجة بالكذب


وعارضه ابن الروندي إن أحدا لو ادعى طبيعة يحدث بها الكواكب أو لو نصبه مقابل الشمس يذهب ضوؤها أو إنه إذا مس البحر لفظ البحر جميع ما فيه وإذا مسح به قدمه لصار في الهواء وارتفع إلى السماء ويصير سحابا يمطر فإذ لزم تكذيب بما ادعى الخروج عن طبائع معروفة فمثله الأول مع ما كان المكذب ليس معه شيء ومع الآخر شيء بالظنون يرد وبالإحتمال وما به قد يمكن عيب والحجة ظاهرة فلزم القول به واحتج على الوراق بما أجمع على موت البشر كلهم وإن لم يشهدوا الكل بالرسل فقال فيه الإجماع


قال أبو منصور رحمه الله وقد علم أنه لم يشهد بل لم يبلغ علمه شيء والثاني أنه علق دليله في ذلك بالمحنة وقد زال والثالث إذ لا يبلغ التدبير ثبت أنه قيل بالرسل


وقال في قول الفلسفة إن تركيب الحيوان تركيب يموت تأملوا حماقته بعد قول قوم لو أدركوه لأدركوه بالرسل ثم ينكر قول الرسل مع البرهان والثاني أنه لم يمتحن عقول جميع الفلاسفة ولا هم امتحنوا طبائع الجميع والثالث أنه لو كان بالتركيب لما اختلف قدر الحياة وقال بالطباع إن النفس لا تطمع






----------------------------------- صفحة 188


في دفعه ولا ترجو الظفر به فجوابه إنه لم يمتحن طبائع الكل والثاني أنها سكنت إلى هذا بالتوارث من قول الرسل والثالث كذلك آيات الرسل لم يطمع إلا بعسر إتيان مثلها وهي بحيث تحتمل الطمع مع ما كانت فيها ما لا يطمع مع التقريع والتحذير وفيها ما لا يحتمل الطمع البتة نحو انشقاق القمر


ثم يقال له تعتقد شيئا البتة فإن قال لا أقر أنه لم يعتقد تكذيب من ذكر ولا أنه هو ولا هو حي أو ميت فتكلفه الأجوبة والمعارضات خطأ وإن قال نعم قيل لعلك تعتقده بما لم يبلغ قوة دركك وعلمك بالأشياء مبلغ الإحالة إذ قد رأيت كثيرا من المعتقدين بطل اعتقادهم فلعل طبيعتك أرتك ذلك الفساد ويجوز أن يكون في الطبائع طبيعة نقية يدرك لذلك فيما اعتقدت ويظهر جهلك فمهما قال من شيء فهو له في جميع ما أنكر جواب وأصله أن كل من استخار الخروج من المعارف والتفوه بغير الموجود في الطبائع بلا شيء سوى أنه لم يكن أو لعله يكون أبطل سبيل تثبيت شيء البتة أو نفيه ويكون في حد الشاكين في البيان كله ولا قوة إلا بالله


ثم الأصل عندنا في إعلام الرسل وجهان أحدهما ظهور أحوالهم على جهة يدفع العقول عنهم الريبة وتأبى فيهم توهم الظنة بما صحبوهم في الصغر والكبر فوجدوهم ظاهرين أصفياء أتقياء بين أظهر قوم ما احتمل التسوية بينهم بينهم على ذلك ولا تربيتهم تبلغ ذلك على ظهور أحوالهم لهم وكونهم بينهم في القرار والإنتشار فيعلم بإحاطة أن ذلك حفظ من يعلم أنه يقيمهم مقاما






----------------------------------- صفحة 189


شريفا ويجعلهم أمناء على العيوب والأسرار وهذا مما يميل إلى قبوله الطبيعة ويستحسن جميع أمورهم العقل فيكون الراد عليه يرد بعد المعرفة رد تعنت له إما لإلف وعادة على خلاف ذلك أو لشرف ونباهة في العاجل أو لمطامع ومنال وإلا فما من قلب إلا ويميل إلى من دون هذا رتبته ومحله ولا قوة إلا بالله


والثاني مجيء الآيات الخارجة عن طبائع أهل البصر في ذلك النوع الممتنعة عن أن يطمع في مثلها أو يبلغ بكنهها التعلم مع ما لو احتمل أن يبلغ أحد ذلك بالتعلم والإجتهاد فإن الرسل بما نشأوا لا في ذلك وربوا لا به يظهر أنهم استفادوه بالله أكرمهم بذلك لما يجعلهم أمناء على وحيه ولهم أيضا معاني فاقوا بها السحرة على أن علم السحر أصله من السماء لكن الناس نسوا أصله وتوارثوه بالتعلم وكذلك المكاسب والحرف والصناعات كلها فمن أكرم لا بالوجه الذي هو طريقه في المعارف علم أن ذلك تخصيص لأمر عظيم مع ما كان معهم معان يعلم بها أنهم مبعوثون أحدها أنها تخرج حقيقة تبقى ببقاء الخلقة والسحر هو شيء يأخذ البصر ثم يضمحل والثاني أن آية الرسل تمنع أن يدعيها من ليس برسول فيتبقى معه إن كانت في جهة سحرا وما كان والثالث أن أولئك الذين تكلفوا استخراج العجائب بالتعلم فهم قد مالوا إلى لو كان حقا لكان به غنى عن عرض الدنيا فكان معهم دليل الكذب والرابع إن الرسل حملوا ما في الأنفس إنكاره ذلك من كفها عن الملاذ والشهوات وحفظها عن الذين بهم عز الدنيا وشرفها ودعاء أمثالها إلى ترك ذلك لله والخامس مخاطرتهم بالأنفس وبذلها في وقت ضعفهم وقلة أنصارهم من الخلق والتعرض للجبارين






----------------------------------- صفحة 190


بتنغيص ما هم فيه عليهم وإظهار القوة لهم من عند العزيز على ما علموا من سوء صنيعهم بالمخالفين لهم وبخاصة من يخافون منهم تفريق جمعهم وتشتيت أمورهم وأيضا إنهم إلى ما في العقول بيانه وفي سياسات الملك حسنه وبما في توقيف الخلق عليه صلاحهم دينا ودنيا ولا قوة إلا بالله وأيضا أنهم لم يقصروا في شيء دعوا إليه إجتهادا ولا روى في شيء من أمورهم هوادة ولا عرف في شيء من أخلاقهم نكير ولا في شيء من الأسباب التي بكل واحد مما فيها بعد الناس بذلك ما يوصف بالتمام من السخاء والشجاعة ومكارم الأخلاق والرحمة بالخلق والإشفاق عليهم وفي الزهادة في الدنيا وتحمل مؤن الخلق وغير ذلك مما يحق الميل إلى كل من فيه خصلة منها والتعظيم له لمكان ذلك فكيف لمن جمع الخصال المعروفة في المكارم مع حسن الأداء عن الله جل ثناؤه والصبر له فيما يصيبهم من المكروه مما لا يحتمل أن يكون شيء من ذلك يحتمل على تمكين الخلاص ببعض المداهنة وفيهم أيضا وعد العواقب ورجوع الأمر إليهم فخرج الأمر على ذلك وفيهم أنه لم يذكر عن أحد نظر إليه بعين التبجيل واستمع إليهم بالنصح لأنفسهم إلا أبصروا الحق في مقالتهم ولا اتبعهم أحد فخالفهم إلا بعد العلم منه بإيثاره الدنيا على الآخرة والباطل على الحق وكل الذي ذكرت كان لمحمد صلى الله عليه وسلم مع غير ذلك من الآيات التي دامت له مما فيه إظهار نبوته وأنه خاتم الأنبياء منها هذا القرآن الذي تحدى به جميع الكفرة أن يأتوا بمثله وإن يعينهم على ذلك الجن والإنس فما طمع في ذلك إلا سفيه أخرق هجره قومه لسخفه وفيه أيضا بيان الحكم لجميع النوازل التي تحدث إلى يوم القيامة ليعلم أنه جاء من عند من يعلم الغيب وما يكون أبدا وبما جاء له من البشارات في فتح البلدان






----------------------------------- صفحة 191


وإظهاره دينه بين أهل الأديان وما فيه من الإنباء عما كان مما يعلم الخلق أنه لم يكن اختلف إلى أحد ممن يعلم ذلك ولا نظر في كتاب قط لتبقى له تلك الآيات مع ما ذكر شأنه في الكتب السماوية حاج أهل الكتاب فلم يمكنهم إنكاره إشفافا على أنفسهم بل قد باهلهم مباهلته اليهود بقوله فتمنوا الموت والنصارا بقوله تعالوا ندع أبنائنا وأبناءكم والجميع بقوله فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون وإظهاره اشفاقا وإظهاره الأمر عنهم والثقة بالله بقوله والله يعصمك من الناس مع ما له آيات في الخلق وهو النور الذي انتقل من ظهر إلى ظهر حتى خرج هو وما كان من الخاتم بين كتفيه وما وصف بالربعة ثم كان لا يزاحم طولين إلا فاقهما ثم كان من السحاب الذي يظله قبل أن يوحى إليه ثم كان من شق بطنه وغسل ما فيه معلوم ذلك ورده إلى موضعه ثم كان من هجر عبادة الأوثان في صغره مع حرص قومه على ذلك وما استقى به العباس فسقوا ثم ما وصف من معاملته الكفرة أنه لم يكن يداري ولا يماري ولم يكن فحاشا ولا صخابا ثم ما لم يأخذوا عليه كذبا قط وبذلك وصفه أعداؤه ثم ما جاء من الآيات التي لما اختلفوا فيه فعرفوه بالسحر والكهانة والشعر ونحو ذلك فما كان إلا لكثرة آياته ولا قوة إلا بالله


ثم طعن الوراق المحتج بالقرآن بأوجه أحدها تفاوتهم في البلاغة ولعله تآليف أبلغهم والثاني أن الحروب معه شغلتهم عن مثله والثالث أنه لم يكونوا أهل نظر ومعرفة ألا ترى أنهم صدوا عن الإقرار مع توفر أسبابه عند أصحاب الضرورة وعن النظر والمعرفة مع أسباب ذلك عند أصحاب الإكتساب والرابع






----------------------------------- صفحة 192


خصوص واحد بقوة من بين الجميع من غير أن يوجب ذلك له شيئا فمثله النبوة أو أن يكون قدرتهم كانت بالفكر والتخيير فلم يتكلفوا ذلك


فأما الأول فإنه لو كان ما قال يمتنعون عن ذلك بعد الجهد فدل تركهم دونه أنهم تركوه طباعا وأيضا أنه لو كان كذلك لم يحتمل مثله ممن يقول لئن اجتمعت الإنس والجن أن يكون أحد من البشر يبلغ علمه باللسان ذلك والثالث أنه إذ نشأ بينهم ومن عندهم عرف اللسان فلولا أن له في ذلك من الله خصوصا لم يكن لغيره لا يحتمل أن يصير بهذا المحل والرابع قد تكلفوا المجاوبات لأقوام معروفين في فن حتى اجتهدوا في قصيدة حولا فلو كان يحتمل وسعهم أو يرجون البلوغ بطرق ما احتمل تركهم وفي ذلك تشبيه على القوم وقد بذلوا مهجهم ودنياهم في إطفاء هذا النور


والفصل الثاني لا يحتمل الذي ذكر لما بذلك غنى لهم عن بذل المهج ولما أمهلوا قريبا من عشرين سنة قبل الحروب ولما فيه تقريع الجن والإنس وإنما حارب قوم


وبعد فإن المحاربة لم تمنعهم من محاربات سمعوا من رسول الله كذلك القرآن لو احتمل وسعهم


والثالث لو كان كذلك لاستقبلوا بالإنكار والدفع كفعل العرف لا بالخضوع والإمتناع على أن العرب أذكى الناس عقلا وأشدهم حمية وقد قاتلوا الشعراء بالأشعار أيضا


وبعد فإن التقريع كان به جميع البشر والجن وقد انتشر أمره وظهر في الآفاق وأيضا فإن الذي حمله على ذلك وما جاء به نشأ بينهم وإن كان له معرفة ونظر مع نشوئه بينهم فذلك أيضا أنه له ولا قوة إلا بالله






----------------------------------- صفحة 193


وجواب الرابع أن الله تعالى إذا خص أحدا بقوة لا يشاركه فيها أحد يمنعه عن دعوى النبوة باللفظ كما منع من يظفر بحجر المغناطيس ولو علم أنه يدعى لا يعطيه والثاني أن لا أحد في شيء له فضل قوة إلا طمع غيره استتمام ذلك أو عمل ذلك النوع بقدر قوته والدليل ما يخرج من الطباع


وبعد فإنه لو كان له في ذلك فضل قوة بها عمل لكان لا يتمكن نيلها بهم وليست لهم إذ لا يوجد مثل ذا في شيء من الأمور دل أن الله جعل فيه ليكون آية لقوله


وسنذكر جمل هذه التأويلات بعد الفراغ من فصوله وقوله على البديهة فقد أمهلوا مع ما لم يحتمل أن يكون من البشر يعلم بفضل القوة ما تسأل عنه وقد تكلفوا الأشعار ثم نصب الحروب وجمع الأعوان وبذل الأعيان ثم اقتتال الأقران والمبادرات الفظيعة فلو كان وهمهم يحتمل القيام بذلك أيسر عليهم ثم قد دعوا إلى إتيان السورة نحو ثلاث آيات لو احتملها وسع البشر لكان ساعة من النهار كافية لذلك


أقاويل ابن الروندى في الرسالة وبيان فسادها


قال الشيخ رحمه الله احتج ابن الراندي بما تقدم من الأغذية والسموم في إثبات الرسالة ثم قال لا يخلو الأمر في الخبر إما أن لا يثبت البتة فيجب الجهل بالأيام الماضية والأماكن النائية والوقائع السالفة أو نقبل التواتر وما يضطر إليها فجب به إخبار الرسل ولا قوة إلابالله






----------------------------------- صفحة 194


ثم نذكر جمل ما يبين فساد طعنه من وجوه الحجج بالقرآن إذ هي من وجوه أحدها بنظمه من غير أن كان فيه غريب مبتدع يخرج ذلك عن عرف العرب بل هو بأعذب لفظ وأملح نظم وقد احتملت العرب المؤن التي هلكوا فيها ولا يحتمل ترك الأمر اليسير مع التحدي والتقريع مع سلامة أحب الأشياء إليهم وهي الحياة وتبدل المبهج مع ضنهم بها إلا عن عجز ظهر لهم من أنفسهم طباعا أو إمتحانا


والثاني بيان جميع الأمور التي بها علم العلماء أهل الكتاب مع العلم بمن شهد رسول الله أنه لم يكن اختلف إليهم ولا كان يخط كتابا بيمينه فيحتمل إستعادته ثبت أن ذلك كان بتعليم الله إياه


والثالث الإخبار بما يكون له من الفتوح ودخول الخلق في دينه أفواجا وإظهار دينه على الأديان في وقت ضعفه وقلة أعوانه وكثرة أعدائه فكان على ما أخبره القرآن وبالله التوفيق


والرابع أن الله تعالى جمع في القرآن أصول جميع النوازل التي تكون إلى يوم القيامة دل أنه عالم الغيب حتى أعلمه أصول ذلك


وأيضا ما أظهر من موافقة القرآن سائر كتب الله وبيان نعت محمد صلى الله عليه وسلم وأمته كقوله الذي يجدونه مكتوبا عندهم وقوله محمد رسول الله وقوله يعرفونه كما يعرفون أبناءهم من غير اجتراء أحد منهم على إنكار ذلك ودفعه ثبت أن الذي أنزل هذه الكتب هو الله سبحانه فجعلها كلها متفقة على اختلاف الأزمنة وتباعد الأوقات ليعلموا أن القرآن من عند من جاء منه الكتب وأن الذي جاء منه الكتب قديم لم يزل حجته في الأولين والآخرين واحدا






----------------------------------- صفحة 195


وأيضا ما سبق من ذكر المباهلة وما كان من الأخبار أنه يسأل عن كذا ويستفتى عن كذا فكان على ما ذكر على ما في القرآن من قصة الجن وتصديقهم وشهادتهم له بموافقة الكتب وبالله العصمة


والأصل في هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث في عصر لم يعرف فيه التوحيد بل كان عباد الأوثان والأصنام والنيران فجمع ما أنزل عليه من القرآن هو من أنجح ما لو اجتمع موحدو العالم من مضى منهم ومن يكون أبدا على إظهار أدلته ما احتملت بلوغ عشرها فضلا عن الإحاطة في ذلك الزمان الذي لا يقدر على موجد واحد ولا قوة إلا بالله


وأيضا أن القرآن أنزل في عشرين سنة فصاعدا بالتفاريق ما خرج كله على وزن واحد من النظم وعلى موافقة بعضه بعضا مما لو احتمل كون مثله عن الخلق لم يمتنع من الخلق من الإختلاف في شيء من ذلك دل أنه أنزل من عند علام الغيوب ولا قوة إلا بالله


واحتج في إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم مع ما بينا بقوله لليهود فتمنوا الموت بوجهين أحدهما الوعد بأنهم لو تمنوا الموت لماتوا والثاني أنهم لا يتمنون أبدا ولا شيء أيسر عليهم من تمنى ذلك وبمباهلة النصارى والإخبار بوقوع اللعن ثبت أنه معلوم النعت في كتبهم


فأدخل الوراق أنهم لو تمنوا باللسان لقيل إنما أريد به القلب والثاني أنهم قد آمنوا بموسى وعيسى وقد أخبراهم بذلك كما يخبر المنجمة


فجواب الأول أن المباهلة لا تحتمل ذلك وأيضا إنهم أهل بصر إذا لو ردوا لقابلوا بأنهم فعلوا ذلك أيضا بقلوبهم


والحرف الثاني لو كان كذلك ما امتنعوا عن مقابلته عند قوله لتدخلن






----------------------------------- صفحة 196


المسجد الحرام وقوله ليظهره على الدين كله ولو كان بذلك كان التصديق لما احتمل المقابلة بأعز الأشياء وهي الأنفس والأموال


قال الفقيه رحمه الله وأيضا أنه لو كان بالذي ذكر لم يكن خبر رسول الله لن يتمنوه بذلك بل كان بالذي يعلم أنهم لا يفعلون ولا قوة إلا بالله


وطعن ولو كان على حكم قول المنجمة لما تقرر عندهم حتى يتحرجوا الإجابة لم يكن الذي جاء به رسول الله بدون ذلك لم يتحرجوا عما خوفهم فيسلموا ولا قوة إلا بالله


وطعن في قوله وما كنت تتلوا من قبله من كتاب إن الحفظ يقوم مقام الكتاب وأحال لأن الحفظ يكون عن تلاوة وما بالإلقاء عليه فهو عن كتاب يقرأ


وبعد فإنما ذلك إنما يكون بمن يظهر اختلافه عند من يعرف به ومعلوم أنه نشأ بين أظهرهم لم يعرف في شيء من ذلك ولولا ذلك لكان هذا القدر من المقابلة سهلا لا يعجزون عنه


وطعن في أخبار القرآن إنه خبر الآحاد وذلك كذب بل رواه كافة عن كافة مع ما في هذا إقرار أنه حجة


وطعن التواتر بما لا تخلو الجماعة عن البعد من السمع فيحتمل الحيلة أو القرب فلا يحتمل مباشرة مثله إلا اليسير


قال ابن الروندي هذه الجهلة بالمحافل وإلا الأمر في ذلك ينتشر ما كان من قبل حتى لا يكاد شيء منه يخفى على الأبعدين فضلا عن الأقربين






----------------------------------- صفحة 197


وطعن أيضا بإجماعات اليهود والنصارى قال ابن الروندي إما أن ينكر الخبر البتة فيبطل مذهبه في تقليد الماني وقوله هذا أو يجيز خبرا لا بد إذ ذاك من الرجوع إلى إجماع أهل الحق في الأصول العقلية فيقبل أخبارهم وإجماعاتهم إذ هم المتمسكون به ونحن أولئك بحمد الله


قال الشيخ رحمه الله والأصل في هذا أن الأخبار التي لزم في العقول قبولها لما في ذلك بطلان حكمة السمع واللسان وفيه زوال علوم المعاش والمعاد وانقطاع الأصول إلى الأغذية والأدوية التي بها حياة الأبدان ثم كانت الأخبار تتفاقم في الإنتشار على قدر الأمور التي عنها الأخبار في العظم نحو ملك لو قتل لانتشر أمره بالضرورة حتى لو أحب الناس كتمان مثله لما قدروا عليه وكذلك الخارجة من المعارف المعتادة وفيما يقل خطره أو يجرى على المعتاد لا يظهر ظهوره بل لعله لا يذكر معروف ذلك في الخلقة وعلى ذلك انتشرت أخبار الفتوح وقهر الملوك فعلى مثل هذا أمر الرسل لأنهم جاءوا بالأمور العظام الخارجة عن الأمر المعتاد عندهم فيظهر أخبارهم فتنتشر حتى تبلغ أقاصي الدنيا وأدانيها إذ هي على وجه لا يملك السامعون كتمانها على ما ذكرت من تغاضي الخلقة في نشر مثله مع ما قد ينتشر مثل ما ذكرت مما لا منفعة فيه فالذي يعم الخلق جميعا معناه أحق في ذلك وفي كل أمر منتشر عن أحد يعود الخبر إن كان على حق أو جور فيعلم ما افتعل منه فيغير وما صدق فيه فيقر وفي ذلك لزوم انتشار أخبار الرسل في حياتهم وظهور المفتعل من ذلك فيمحى أثره بالنهى والتغيير فيبقى الحق الصدق منه دليل ذلك أمر رسول الله حتى لا تأتي ناحية نائية ولا مكانا بعيدا إلا وجدت أثره فيه ظاهرا وبخاصة في عصره إذ كان ينساب إليه من الآفاق ويظهر شأنه في البلاد فإذا كان كذلك لأوجه لقوله أخباره أخبار الآحاد ولا لما ذكر من الوجوه بل الخبر الواحد في الأمر المهم أو الخارج عن الأمر المعتاد ينتشر إنتشارا أظهر فكيف فيما فيه دعاء أهل الأديان وإرسال الكتب إلى الأفق ومجيء الوفود من كل النواحي وإمتحان






----------------------------------- صفحة 198


الرسل بأنواع الحجاج وقصد الملوك نحوهم في إطفاء نورهم وإشفاقا منهم على ملكهم أن يذهب ويضمحل على ما عرفوا من ضعفهم في أبدانهم وقلة أعوانهم من جوهرهم فما ذلك الخوف إلا لعلمهم أنهم أتوا من عند القادر العليم وعلى ذلك مما يخرج مخرج الآيات من الأمور الخطرة لن يذهب أثر ذلك ما بقى لهم تبع وبمثله احتجاج ولا قوة إلا بالله


وما ذكر من إجماعات اليهود والنصارى إنما ذلك أمور اختلفوا فيها على قدر ما احتمل آرائهم فانتشرت في اتباع كل منهم ليس ذلك في الآيات ولا في الأمور الخطرة


وبعد فإنه متى بلغ ذلك تبديل الشرع حتى كاد أن يمحو أثره ويندرس خبره بفضل الله ومنه في إرسال من يحيى ذلك ويظهر ما عليه الرسل بالآيات القاهرة العقول ليعلموا بهم التغيير والتبديل وعلى ذلك الإنتشار


ثم من حكم الله أن يختم بمحمد عليه السلام النبوة وأن لا يرسل إلى أمته بعده رسولا جعل أمته بحيث لا يحتمل تغير الأمور الجسيمة ومن عليهم بكتاب حفظه يعلم به التغيير والتبديل فتبقى شريعته إلى فناء العالم وبالله التوفيق


قال أبو الحسين الروندي طعن الوراق أخبار براهين الرسل من حيث وردت من طريق أو طريقين وهذا بهت شديد بل أجمعت عليها أمتنا ثم أمر نبي الله مما توارث به الملحدون لتكلف الطعن والموحدون لرعاية الحق مع تطابق الكفرة على أن يجدوا في خلقه ضعفا أو في شجاعته أو له في شيء من المطامع رغبة أو إلى شيء من فنون منافع الدنيا ميلا فما وجدوا ذلك فهذا لو كان شرط صحة الأخبار كثرة العدد فكيف وشرطه الإستيلاء على القلوب وسكونها إليه وطمأنينة النفس بالمخرج والفحوى ورفع ما يعترض من الظنون وهكذا الأمر عند أخبار المحقين وإن قل عددهم






----------------------------------- صفحة 199


وطعن الوراق في قوله فاسألوا أهل الذكر أن كيف أمر بذلك مع الشهادة عليهم بكتمان الحق فأجيب بما إذ أيد الله نبوة محمد بالحجج القاهرة مالوا إلى الكتاب فقيل لهم على أن الله يسخرهم في ذلك ويضرهم إلى الموافقة فيكون ذلك من جليل آياته إذ جمع عليه الأعداء والأولياء وهو قوله أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل وأيضا إن ذا على ما يعرف من لجاج الرجل بعد إقامة البرهان عليه أن يقال فاسأل ذلك فلانا ممن يطمع سكون قلبه إليه فيترك اللجاج والثالث أن يكون المراد يرجع إلى من أسلم منهم وبالله التوفيق


وجائز أن يكون المراد بأهل الذكر هم أهل الشرف الذين يمنعهم شرفهم عند التحكيم إليه عن الكذب والله أعلم


وطعن الوراق إخبار رسول الله بحضور الملائكة يوم بدر قال أين كانوا يوم أحد


جواب الأول ظهور رؤوس ببدر بلا قاتل رأوه وبيان المذكور من الأعداد أنهم رأوا صورا لم يعرفوهم


وجواب الثاني أن ذلك أول حرب فأراد الله تعالى أن ينصرهم ليظهر الحق ويبطل الباطل


قال ابن الروندي العجب من الوراق حيث جحد أخبار الرسل مع البراهين ودعاء إلى قبول قول المنانية وألزم القوم حماقاتهم من بسط السماوات من جلود الشياطين واضطراب الأرض باضطراب الحيات والعقارب فيها وقبول أخبارهم بعمل النور والظلمة ودفع ما هو في عقولهم حسنة وبالله التوفيق


قال الشيخ رحمه الله وفي أمر بدر وجوه من المعتبر أحدها عمل كف من تراب إن أصاب كلا منهم وفيه ما ذكر وفيه ما يشبه المباهلة من قول أبي






----------------------------------- صفحة 200


جهل اللهم ابصر أمرنا وأوصلنا للرحم وجمع الأئمة من الكفرة وغير ذلك والله الموفق


وزعم من أنكر الرسل بما لا يأمر الحكيم بما يقبح في العقل إذ لو جاز مجيء الخبر بمثله لجاز ذلك في إباحة الجور والكذب فأجيب بأن ما حسنه العقل وقبحه النوعان أحدهما لا يتغير نحو شكر المنعم وقبح السفيه والثاني هو الذي يحسنه العقل للعاقبة أو للمقدمة أو الحال نحو ما يحسن في العقل المنهمك في الفساد الباغي على وجه الإنتقام فجائز ورود الشرع بمثله وعلى ذلك أمر الذبائح ولو قدر الإباحة فيه كان كل حي يموت والذبح أروح إليه وأيسر عليه فيكون بمعنى الأشياء المباحة والثاني أن العدل في الجملة حسن والجور في الجملة قبح لكن من الأشياء المباحة والثاني أن العدل في الجملة حسن والجور في الجملة قبح لكن من الأشياء مما يظهر قبحه بالنهى وحسنه بالأمر وذلك نحو تقلب أحوال المرء وانتقاله وعلى ذلك ذبح الحيوان إذ جاءت به الرسل وهم لا يأتون إلا بالعدل


وعلى الثنوية ما أجاز النور ضرر الظلمة لما رأى من المصلحة وفي مثله ذكر الوراق أن الرسل لو جاءوا إلى التمسك بحجج العقول فهم منا وإن جاءوا إلى خلافها فقد جعلها الله حججا لم يجز الغير إلا بالتغيير وفي ذلك زوال الخطاب


عارضه ابن الروندي بما يرى أسود الرأس ثم يراه أبيض أتغير بصره أو تغير الشيء على البصر إذ ليس هو بأسود لما يراه البصر فمثله أمر ما يراه العقل عدلا للأمر وكذلك هذا في القيام والقعود وكل الأحوال ومثله الحجامة والأكل والشرب قد تحسن هذه الأحوال على اختلافها ولم يجب به تغير العقل حتى يحسن فيه الذي كان يحسن بخلافه فمثله أمر الرسل ثم قد يجوز تحمل المؤن العظام لعواقب محمودة واختيار المضار لسلامة محمودة نحو التجارات والإجارات والزراعات والأدوية وأنواع الجراحات وكذلك اختيار ترك النفع لنفع أرجح منه وعلى ذلك أمر الشرائع ولا قوة إلا بالله






----------------------------------- صفحة 201


وأيد الوراق الذي بينا أن في العقل ذم الإساءة إلى من لم يؤذ وإن لم يحب لغيره ما يحب المرء لنفسه والذبائح خارجة من ذلك فهذا لأنه توهمه مفردا من العلل فإذا تأمل حسن العواقب والسلامة مع عقيب المنافع وكذلك فضل راحة وفي الذبائح ذلك


ونحن نقول وبالله التوفيق إن الأشياء نوعان أحدهما مما يحسن لنفسه ويقبح ضده وكل خلافاته والثاني ما يحسن الشيء وخلافاته على حسب الحاجة وقيام الدلالة من حمد العواقب وذمها فلزم القول في هذا بمن يعرف أحوال الحمد والذم فيخرج الأمر عليه على أنه لا بد لمن يكون يعتمد على عقله والإختلاف المتناقض ذلك سببه أو يرجع إلى مخصوص من العقل وفي ذلك القول بالرسول ثم أمر الذبائح لا يحتمل أن يكون قبحها لنفسها لما يحل في موضع الإنتقام ويحسن في العقول إذا تفكر في ذلك دفع الأذى والمكروه أو تقع العواقب فبطل قبح ذلك لنفسه فلزم جواز المحنة فيه بالترك والإذن وفي ذلك إباحة وأيضا أن كل شيء حسنه العقل فهو لا يقبح بحال وكذلك القبيح من الحسن وكل شيء قبح لنفار الطبع بما يتوهم حلوله في جوهر المتوهم فينفر طبعه لألمه ثم هذا قد يجوز أن يذهب ذلك بالإعتياد نحو القصابين والذين اعتادوا القتال فثبت أن النهى عنه طبيعي لا عقلي فتغير ذلك من العادة يزول وذلك نحو جواهر من الحيوان طبعه التوحش وعلى ذلك طبع الجميع عن الأحمال الثقيلة ثم تصير بالرياضة وتعويد غيره كأنها على ذلك طبعت فعلى ذلك أمر الحيوان وأيضا أن كل حي إذ هو يموت ثم لم يلحق أحد به لائمه فمثله إذا جاء الإذن ممن هو له


وأحق من يقول الثنويه لأوجه أحدها استجازتهم تباين النور والظلمة ثم الإمتزاج ثم التباين وفي ذلك تفرق بين كل مقترنين وتميز بين كل ممتزجين وذلك معنى الذبح والثاني أن الألم إما أن يحل بجوهر النور فيصير محتملا للأذى






----------------------------------- صفحة 202


وهو شر ولولا ذلك لم ينه عن الذبح إذ هو ذلك ثم هو لا يخلو من أن يحل بجوهر النور فقد عمل الشر أو بجوهر الظلمة فالنهى والإنكار مما لا معنى له لأنه ينكر على من لا يحتمل طبعه القبول في ذلك كمن يأمر من ليس له ما يطير به بالطيران أو أن يكون الألم يحل بجوهر الظلمة وذلك هو الحق عندهم ثم إما أن دخل عليه ذلك بجوهر النور فهو يصنع ما يذم عليه أو بجوهر الظلمة فقد أحسن حيث آلم الظلمة إذ ذلك عدل والله الموفق وأيضا إن في الذبح إخراج الروح الصافي من الظلمة الكدرة وذلك الحق وهو عاقبة كل شيء


إثبات نبوة الأنبياء


وبخاصة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم


ثم القول في نبوة الأنبياء وبخاصة في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ثبت بالجوهر ثم بأيات حسية وعقلية ثم بموافقة ظهور الأحوال التي هي أحوال الحاجة إليه فأما أمر الجوهر فقد بينا إبتداءه مع ما ذكر فيه أنه نظر إلى وجهه وإلى البدر فكان هو أحسن منه وأنه كان أطيب ريحا من المسك وألين من الحرير وكان يؤخذ بعرقه فينقع به في الطيب وقد وصفت خلقته بما لا يعرف أحد يوصف بمثله حسنا وجمالا وجل العين تراها تهيج في الحيرة بذي آفات في الخلقة فدل براءته عن كل الآفات وزينه بكل زين على استجابة أعلى الدرجات في الخلق وأفضل الأقدار ويدل على ذلك أنه لم يؤخذ عليه كذب قط ولا عرفت منه هفوة ولا منه عن أعدائه فرار ولا في أخلاقه سوء بل كان على ما وصف لا يداري ولا يماري ولا يعرف فحش ولا ينتصر لنفسه وكان في الإشفاق بالمحل الذي عوتب عليه بقوله فلا تذهب نفسك






----------------------------------- صفحة 203


عليهم حسرات وقوله لعلك باخع نفسك وفي التحزن بما فيه هلاك الخلق كما وصفه الله وعصمه بقوله ولا تحزن عليهم وقال عزيز عليه ما عنتم وكان بالكرم بحيث عوتب به فقال ولا تبسطها كل البسط وقيل لم يكن يدخر شيئا لغد وقد عرض عليه أعلا ما يرغب فيه من متاع الدنيا والرياسة بأن يداهن قليلا فما أجاب فيه بل عادى لله الأقوياء والملوك والسادات حتى أكرمه الله بالرعب في قلوب الخلق فلم يكن يقصد إليهم في الحرب إلا خافوه وقيل والله يعصمك من الناس فلم يخفهم بعد ذلك ولا أذكر أنه ولا هم ذلك على ما أصاب أتباعه النكبات والشدائد ووعد أن يبلغ ملك أمته ما دوى له من الأرض من المشارق والمغارب وما روى ما ذكر من أنواع الفزع في قلوب أعدائه والحفظ عنه عما راموا به على موالاة أقربائه الأبعدين في ذلك وما اجتمعت آرائهم على إطفاء نوره وطمس أثره فما ازداد إلا ظهورا ولا قوة إلا بالله


ثم الآيات الحسية انشقاق القمر واجتذاب الشجر وتسليم الحجر عليه ظاهر ذلك كله عرفوه ثم شربهم من الماء القليل الكثير من البشر ثم ابتلاء أعدائه بدعائه بالجدب والقحط ثم استغاثوا به فأغيثوا ثم الإشباع باليسير من الطعام الكثير من الخلق ثم أمر بيت المقدس ثم أمر مرور من طلبوه بالغار فأعمى الله بصرهم وحنين الخشب وشكاية الناقة وشهادة الشاة المصلية ثم ماساح






----------------------------------- صفحة 204


بفرس من اتبعه الأرض ثم ما أخبر من قوله ولا يتمنونه وكان كذلك ثم بما قال ادعوا شركاءكم ثم كيدوني ولا تنظرون ما قدروا عليه ثم بكثرة ما يمكرونه حتى خلصه الله من ذلك ولعظيم ما يضمر أهل النفاق في أنفسهم فأطلعه الله حتى كانوا مع شدة تعنتهم يحذرون نزول سورة تنبئهم بما كان منهم وأظهرهم على ما قالوا فيه وفي متبعيه وما قال في أبي بكر وأصحابه من قوله أفإن مات أو قتل أنقلبتم على أعقابكم وكذلك في قوله ومن يرتدد منكم عن دينه وما أعلم عليا أنه يقتل الناكبين المشارفين وكان كذلك وما قال لعمار تقتلك الفئة الباغية وما وعد من الفتوح وسعة الدنيا على المؤمنين وغير ذلك مما يكثر ذكره لو استقصى فيه دواء نجباء أمته ثم عامة ذلك مما كان ظاهرا عند أعدائه مع ما كان في الكتب المنزلة بعثه وعلى ألسن الرسل جرت البشارة وأخذ العهد عليهم ولا قوة إلا بالله


وأما العقلية فما بين الله من شأن القرآن الذي إنما يعرف خروجه عن احتمال وسع الخلق من بالغ في فنون الآداب وعرف جواهر الكلام وأصنافه ثم ما فيه من المحاجة في توحيد الرب وأدلة البعث مما لم يكن يومئذ على وجه الأرض من يدعى ذلك ثم ما فيه من الأنباء وما يكون أبدا ومن بيان النوازل التي تكون مما في استعمال العقول تطلع عليه






----------------------------------- صفحة 205


وذكر أبو زيد أن الحسية من الآلات فما جاءت من الآثار كافية وأما العقلية فهي على وجوه أحدها أن أمره لم يكن مستغربا بل كان مستمرا على العادة بوجود مثله في الأمم فلذلك يبطل وجه الرد عليه في أول وهله قال الله تعالى وإن من أمة إلا خلا فيها نذير وقال ثم أرسلنا رسلنا تترا والثاني موافقة مجيئه وقت الحاجة إليه إذ كان زمان فترة ودروس العلم مع جرى عادة الله بمعاقبة أسباب الهداية عند زوال أهله عن نهج الهدى قال الله تعالى قد جاءكم رسولنا يبين لكم والثالث كون المبعوث فيهم بموضع الحاجة إليه لخلاء جنسه عن أسباب العلم بقوله هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم وغيره والرابع كونه في أظهر الأماكن للخلق إذ هو معالم أهل الآفاق في الدنيا وقال الله تعالى وكذلك أوحينا إليك والخامس يعنى القوم ذلك وإظهار الرغبة في ذلك وإذا اقترح مقترح على ربه إزالة علته لم يكن تعجب قطع معذرته قال الله تعالى ولو أنا أهلكناكم بعذاب من قبله قال وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير فهذه الخمسة مما حاجهم به في أحوالهم ثم ما حاجهم بما في أحوال النبي منها أنه نشأ في قوم لم يكن لهم كتب ولا دراسة مع ما لم يفارق قومه وما كان لهم كتب قد سبق له الإرتياض في دراستها ثم كان في ضمن تلك لو طرأ عليهم طارئ لا يجهل مكانه وذلك قوله أم لم يعرفوا رسولهم وقوله تلك من أنباء الغيب نوحيها وقد نشأ أميا والأمي لا يأخذ عن الكتب ولا يستطيع التحفظ من الأفواه غاية الحفظ إنما يكون ضبطه بصور معقولة روحانية يرتفع بها عن الوهم دليله ما لا يوجد عن






----------------------------------- صفحة 206


مثله رواية الأشعار مخافة الغلط وغيرها ولذلك اشتد تعجبهم من حفظ القرآن وقال الله تعالى سنقرئك فلا تنسى وقا ل لا تحرك به لسانك ولذلك قال الموصوف بالحفظ إنه لأشد تعصبا من قلوب الرجال من النعم من عقلها قال الله تعالى وما كنت تتلو من قبله من كتاب وأيضا أنه لم يذكر عنه في سالف عمره التشاغل بنظم الكلام وتعاطى ضروبه ثم يمتنع عن مثله أن يتهيأ له ما يعجز عنه المعروفين بإرتياضه دليله أنه لم يطعن بشيء من ذلك بل لما قيل بقوله قال لهم فأتوا بسورة مثله سكتوا ولم يدعوا عليه إظهاره فيه قال الله تعالى قل لو شاء الله ما تلوته عليكم وأيضا أن الله تعالى أمرهم بتأمل أحواله هل يجدون ما يعذرهم في ترك الإكتراث إليه فلم يجدوا قال الله تعالى قل إنما أعظكم بواحدة وأيضا مما دعاهم إلى النظر في أموره أن هل يجدون فيه ما وجدوا في المتسمين بصنعه الكلام من التصدي للملوك لنيل الدنيا بل عرضت عليه المطامع من الثروة والرياسة ليرجع عن دينه مما لديه يعز البشر فلم يجب إلى ذلك ليعلم بالطبيعة المستمرة على ما فيه مخالفة الهوى وكف النفس عن الملاذ إنه على ما راضه الله وأكرمه لدار كرامته دون الميل إلى شيء من حطام الدنيا وقال قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين وأيضا ما حاجهم بالدعاء إلى النظر في الأديان ليعلموا تمسكه بأحسن ما في العقول مما فيه لزوم اختيار مثله فقال قل أو لو جئتكم






----------------------------------- صفحة 207


بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم وقال تعالوا إلى كلمة سواء وأيضا أنه تحداهم بالعجز عما أتى به من القرآن ليكون حجة له عند امتناعه عن وسع البشر مع ما وجدت الصناعة التي بها نباهة ورفعة من الكلام نوعان أحدهما صناعة الشعر بالنظم الرائع والتأليف المؤنق والثاني صناعة الكهانة بإفادة المعاني العربية من تقدمه القول على الأشياء الكائنة ثم وجد القرآن بنظمه مستعليا على ما جاء به الشعراء وبمعانيه على ما جاء به الكهنة فوجب أنه ليس من كلام البشر وفي مثله احتجاج الله تعالى قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن وقوله وما هو بقول شاعر وقوله أولم تأتهم بينة وقوله كتاب أنزلناه إليك مبارك وقوله قل فأتوا بكتاب من عند الله وأيضا ما أشار من التأييد الذي يظهر دعوته ويفلح حجته بما يبصره على من شاقه وحاده إذ الله تعالى بعثه في أوان طموس من أعلام الهدى ودروس من آثار الدين إلى العباد لينقذهم من الردى ثم لما أقامه هذا المقام الجليل والخطب الجسيم لم يخله عن نصره والتمكين له ليقوى منه عليه بما أكرمه من المقام بقوله إنا لننصر رسلنا وقوله كتب الله






----------------------------------- صفحة 208


لأغلبن أنا ورسلي وبمثله سبقت كلمته لعباده المرسلين ثم كان له أيضا من خصوص حال أن بعث إلى الناس كافة ووعد له الغلبة والنصر ليعلم أنه لم يرجع قوته إلى معونة بشرية يتوصل بها طلاب دول الدنيا إلى بغياتهم من إرث ملك في حسبه أو قنية مال يستمتع بها كان كما قال الله ووجدك عائلا فأغنى ولا عشيرة بل كانوا أشد الناس عليه وأجهدهم في إطفاء نوره حتى قد أخرجوه من بين أظهرهم طريدا وحيدا ثم مع ذلك لم يدعو شيئا مما تسره إليه النفس إلا أتوه فلم يمل إليهم بل صبر على كل أذى واحتمل كل أمر صعب فما رضى منهم إلا بالإجابة له في الحق قال الله تعالى لقد جاءكم رسول من أنفسكم وقال إلا تنصروه فقد نصره الله وقال ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم وقال وما أفاء الله وغير ذلك من الآيات والأدلة الصادقة أنه بالله قام وبه انتصر


وأيضا مما حاجهم به ما ظهر من إنجاز الموعود في كل ما نطق به مما هو علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله ومن رام التوصل إليه ببعض حيل الإنسانية يضل حق ما جاء به في باطله وصدقه من كذبه ويحصل أمره على تمويه ومخادعة قال الله تعالى هل أنبئكم على من تنزل الشياطين فأخبر أن الكهنة يلقون ذلك من إفك الشياطين مما يختطفون فيحلون على اللمحة من لمح الحق أكاذيب القول






----------------------------------- صفحة 209


وأباطيل الدعوى والأصل أن الكهانة محمول أكثرها على الكذب والمخادعة والسحر على الشبه والتخييل وما اختار الأنبياء يأخذونها على ألسن الملائكة البررة مما لا يوجد فيها غير الصدق والحق على التجربة والإمتحان وفعلهم حق ثابت على مر الأيام والزمان ولما أن كان كذلك ثم وجد كتاب الله ناطقا بإظهار دينه على كل الأديان مع ما أخبر من الحوادث والأكوان مثل قوله هو الذي أرسل رسوله بالهدى وقوله يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم وقوله أم يقولون نحن جميع منتصر وقوله إنا كفيناك المستهزئين وقوله قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم وقوله أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها وقوله ولا يزال الذين كفروا تصيبهم وقوله وإذ يعدكم يعدكم الله وقوله ولقد صدقكم الله وعده وما جاء من التخصيص في أقوام أنهم لا يؤمنون وأنهم أصحاب الجحيم ثم ماتوا على الكفر وغير ذلك مما في كل من الأنباء الفانية الذي عند التدبير فيها يعلم أنه بالله علمها لتكون آيات له


فمن تأمل ما عددنا من أحوال النبي عليه السلام علم أنه قد انتظمت جميع البراهين العقلية الدالة على نبوته وصلى الله على خير البرية


ثم القول فيما بين المقرين بالرسل جملة والمنكرين لبعضهم على الإشارة أن نسألهم عن المعنى الذي له أقروا به أو أقر به سلفهم فإن أشاروا إلى معنى على






----------------------------------- صفحة 210


تحقيق ذلك أنه من المعاني التي توجب النبوة ألزمناهم في نبوة محمد صلى الله عليه ذلك المعنى بعينه وإن كانت الآية مختلفة بأنفسها فإن المعنى الذي صارت الآية إنه غير مختلف وإن تعلقوا بظواهر الآيات لم يجدوا لأحد مثل الذي لمحمد عليه السلام في الأعجوبة والرفعة أو يخرجان على أمر واحد وإن ادعوا موافقتنا إياهم فإن جواب ذلك يخرج من وجوه أحدها يسأل عن علتهم قبل كوننا وظهور مواقفنا والثاني إنا قررنا بما ثبت لنا أن الذي أخبرنا بهم رسول وأنتم تنكرونه سقط دليلكم فما برهانكم والثالث أن يقابلوا بالفرق الذي لم يقروا وما بما ادعوا والرابع أن يقال إنما أقررنا نحن ممن قد أقر بنبوة نبينا فإن كان من يدعونه هو فقد ثبتت نبوة نبينا وإن لم يكن هو فما الدلالة على نبوة محمد ممن ادعيتم له النبوة ليسلم لكم ما أردتم وبالله المعونة


آراء النصارى في المسيح والرد عليها


قال الشيخ رحمه الله وتفرقت النصارى في المسيح فمنهم من جعل له روحين أحدهما محدثا وهو روح الناسوتيه يشبه أرواح الناس وروح لاهوتي قديمة جزء من الله صار في البدن ذلك وقالوا ليس إلا أب وابن وروح القدس


وآخرون جعلوا الروح الذي في المسيح الله لا الجزء لكن فريقا منهم يجعل في البدن على كون الشيء في الشيء وفريقا التدبير لا على إحاطة البدن به وفيهم من يقول ليصل إليه جزء من الله تعالى ويصل جزء آخر


قال ابن شبيب سمعت من مولديهم أنه كان ابن التبني لا ابن الولاد كما سمعت أزواج محمد عليه السلام أمهات وكما يقول الرجل لآخر يا بني


قال الشيخ رحمه الله فيقال لهم إذ كانت الروح التي فيه قديمة وهي بعض كيف صار ابنا ولم يصل غيره من الأبعاض فإن قيل لأنه أقل






----------------------------------- صفحة 211


لزمه جعل كل أبعاض العالم البنين للأكبر منها ويلزمه أن يجعل كل بعض من البقية كذلك فيصير بكليته بنين ثم المعروف أن الإبن يكون أصغر من الأب كيف صارا قديمين وإن جعل الكل في البذر قيل له أي شيء منه الإبن فإن قال الكل صير الكل ابنا وأبا وفي ذلك جعل الأب ابنا لنفسه فإن قيل هو جزء فيه من غير أن كان في كلية الأصل نفصان نحو الجزء المأخوذ من السراج عورض بما لو كان الجزء المأخوذ حادثا كما حدث في الذي يؤخذ من السراج فيبطل قوله في قدم الروح وهو الإبن وإن زعم أنه منقول من الله كالمأخوذ من السراج حل عليه ما سلف


وبعد فما يدريه أن المأخوذ من السراج لا ينتقض فإن قيل معاينتنا إياه كذلك قيل لعل الله أحدثه أو يكون كالنار في الحجر فيخرج وأيهما كان فهو حادث والحادث مخلوق فلم جاز أن يكون إبنا قال من أن الله أظهر منه عجائب قيل وقد أظهر من موسى فقولوا هو ابن آخر


فإن زعمتم أن ذلك كان بدعاء وتضرع فمثله أمر غيره مع ما يحكى عن عيسى أنه كان يقول ليلة الأحد اللهم إن كان من مشيئتك أن تصرف هذه الكأس المرة عن أحد فاصرفها عني فإن قيل كان عن عيسى البكاء والتضرع ليعلم الناس قيل مثله من موسى


وبعد فإنه وموسى كانا يصليان نحو بيت المقدس ويتضرعان ثم البكاء والتضرع فعل الطباع لا يمتنع عنهما فما معنى التعليم ثم إن استحق هو ذلك بالعمل لزم ذلك في موسى وغيره فإن قيل استحق ذلك بإحياء الموتى لا غير قيل قد أحيا حزقيل إنسانا فإن عارض بالكثرة قيل اليهود يقولون موسى كان أكثر منه


قال الفقيه رحمه الله وله أحيا عصا ميتة ثعبانا غير مرة فهو أعظم






----------------------------------- صفحة 212


وإن احتج بإطعام البشر الكثير من طعام يسير عورض بنبينا إنه أحدث في إناء دقيقا لم يكن فيه فإن قيل صير الماء خمرا قيل اليسع أحدثه بلا عدة آنية لامرأة ثم صيره زيتا وإن احتج بالمشي على الماء فهم يقرون بذلك ليوشع بن نون ولإليا واليسع وإن استدلوا بالرفع إلى السماء فهم يقرون بذلك لإليا وقالوا ارتفع إلى السماء بمشهد من جماعة وإن احتجوا بإبراء الأكمه والأبرص ونحو ذلك فإحياء الميت أعظم منه وقد أقروا به لإليا واليسع مع ما عليهم في إقرارهم أن اليهود صلبوه وهزؤا به فإن كان الأول يدل على التعظيم فهذا يدل على التصغير وهلا صنع كصنيع إيليا حيث أتوه أن أرسل عليهم نارا فأكلتهم أكرمه الله به وإن رجعوا إلى إظهار العجائب في تحقيق التخصيص عورضوا بمن ذكرت


وبعد فقولوا الله في السماء وفي الأرض لما أظهر في كل شيء منها عجائب فيوجب تخصيص كل شيء من الوجه الذي يخصونه فإن قال قوى المسيح على فعله لا أن فعل هو به قيل أكان يفعل الأجسام فإن قال نعم قيل أهو مخلوق فإذ قال نعم قيل بدنه وروحه كبدننا وروحنا ما باله قدر على ما لا نقدر عليه وقدر على ذلك بقوة هي جزء من الله أو قوة محدثة فإن قال بجزء هو يفعل أبطل قوله في فعل المسيح وهو إله المسيح ويكون هو الله لا المسيح وإن انقطع الجزء عن الله فإذا فعل كثيرا من الأجسام غير الله وإن ادعوا اتصاله بالله فيكون الفعل لها وهما لله فصار إلى أن الله هو الفاعل وإن زعموا أن فيه قوة يفعل بها الأجسام لا أنها بفعله جعلوا إله المسيح بعضه يصرفه كيف شاء وإن قال يفعل بنفسه لا بقوة حادثة عورض بناء على ما قررنا






----------------------------------- صفحة 213


مسألة


ثم نتكلم في دليل حدث الأجسام فإن صيره العقل لزمه في عيسى ذلك فإن قال السمع قيل ودليل صدق المسموع ما هو فإن قال حدوث الأشياء يصير حدوث الأشياء لا يعلم إلا بالسمع وصدق لا يعلم إلا بحدوث الأشياء فانقطع سبيل معرفة فيها إلا أن يقر بالعقل فيلزمه ذلك في المسيح


ثم عارض من يقول ليس من الإكرام أعظم من قوله يا نبي قيل بلى يا أبي أكبر في التعظيم ولو قال يوجب التقدم أبطل اعتباره بالتعظيم لأنه من ذلك الوجه لا يراد بذلك ثم إذ ثبت ذا لعل غيره ممن قد سماه به فإن قيل في ذلك تسوية بنفسه قيل قد يقول الرجل لآخر يا أخي ولا يريد


وبعد فإن في خلقه الكرام ولعل غيره سمى به فيشركه فيه الحواريون والأنبياء وعورض بالجليل من الأمور أنه يجوز القول به على الإكرام قيل أما النبوة فلا تجوز إلا في متفق الجنس لأنه لا يجوز أن يقول للحمار والكلب فلذلك لم يجز في الأول وفي الجملة جهة المحبة والولاية ويكون في غير الجنس كما يجب الحق في جهة الولاية والمحبة والملائكة ونحو ذلك مع ما يجوز أن يكون لله أخلاء وأحباب من الخلق ولا يجوز مثله في البنين ولا قوة إلا بالله


والأصل في هذا عندنا أن الإختلاف رجع إلى وجهين أحدهما الربوبية والله تعالى جل ثناؤه قد بين إحالة ذلك بأكله وشربه دفع الحاجات إلى مكان الأقدار ووصفه بالصغر والكهولة وعبادته لله تعالى وتضرعه له وخضوعه ودعائه الخلق إلى عبادة الله وتوحيده وبشارته بمحمد صلى الله عليه وسلم وإيمانه بالرسل ثم جعل جل ثناؤه عليه جميع آيات الحدث وإمارات العبودة ما جعل في جميع العالم وكذلك هو صلى الله عليه وسلم لم يدع لنفسه سوى






----------------------------------- صفحة 214


العبودة والرسالة فالقول له بالإلهية قول لا معنى له مع ما لو جاز ذلك لجاز لكل من البشر والعجب أنهم لم يكونوا في حياته ومقامه في الأرض يرضون له رتبة الرسالة مع ما له من البراهين ثم بعد رفعه أو موته عند عامتهم لم يرضوا له بالعبودة والرسالة حتى جعلوا له رتبة الربوبية ليشهد عليهم بالخلقة والجوهر والبيان وكل شيء منه بالكذب في الإبتداء والإنتهاء


والثاني أن يكون ابنه وذلك يخرج على وجوه أحدها الولاد وذلك محال فاسد لغنى الرب عن أن تمسه الحاجة أو تغلبه الشهوة أو تعتريه الوحشة وهن أسباب طلب الولاد على إحالة كون الولاد من غير جوهر الوالد والله تعالى بذاته خارج عن شبه الخلق أو عن المعنى الذي يحتمل ذلك الوجه وعلى ما بين الله أنه لو اتخذ لهوا لما احتمل أن يتخذ مما عندنا


وبعد فإن كل ذي ولد يحتمل الشرك وزوال ملكه إليه ومن هو بذاته رب ملك قادر لا يحتمل ذلك ومن يقول لا معنى له أن يكون جزء من الشيء ولده ويجب أن يكون غير كامل حتى يوجد وجهة الآيات لا يوجب ذلك لأن طريق معرفة البنوة في الشاهد ليس الآيات مع ما قد شورك فيها


وبعد هو يدعى الصدق في الخلوص له بالعبودة فالآيات توجب ذلك لا غير أو من جهة الفضل ينسب إلى ذلك والأمر المعروف في الشاهد أن ذلك ليس من أسماء التعظيم بل تسميته المسيح والرسول أجل وأعظم في ذلك


وبعد فقد أعطيت لكثير من الخلق من الله تعالى كرامات خصوا بها لم يوجب شيء منها إسم البنوة على أن البنوة في الكلام إنما هو من الصغار والضعاف لا من أصحاب القوة والرفعة وهكذا شأن أثر البنين فيكون بها إكرامه وتعظيمه بصغره إذ قد يكون ذلك من العظماء في الصغار ولا قوة إلا بالله


أو أن يكون الله من حيث مفزعه وملجأه في كل أمر ونائبه فمن ذا الوجه






----------------------------------- صفحة 215


كل الخلق كذلك وذلك كتسمية الهاوية أم أهلها والأرض أم أهلها فمن ذا الوجه يكون من حيث المفزع للخلق والمعمود إليه وإن كان لا يتكلم بمثله إلا بإذن ولا قوة إلا بالله


مسألة أفعال الله


زعم قوم من أهل التوحيد أن أكثر منتحليه خرج منه من وجهين إما جهلا بواجبه وإما عجزا عن تلخيص القول فيه من مذهب الثنوية وسائر الملحدين فزعم قوم أنه إذ كان كل مما يعقل لغير نفع فعله يقع فليس بحكيم ومن فعل فعلا لغير علة فهو عابث فظنوا أن لا يجوز لله أن يبتدأ فعل ضرر بأحد وأن ذلك يزيل الحكمة عنه فألزموه في كل فعل يفعله الأصلح لغيره في الدين والأحسن لغيره في العاقبة إذ هو متعال عن قول ينفعه أو عن أن يضره شيء فلم يروا له الفعل إلا بما ينفع غيره أو يدفع به الضرر عن غيره فيكون ذلك أيضا علة فعله على ما كان علة فعل كل حكيم منا ما تأمل من نفع عاجل أو آجل أو دفع ضرر لزم به فيجر بذلك حسن الثناء مع جزيل الثواب وضربوا لتقدير فعله بفعل غيره مثلا بما لا يجوز أن يكون منه الكذب أو الجور أو يكون منه الحركة من غير زوال أو السكون من غير قرار فثبت أن تقدير فعله على فعل الحكماء في الشاهد لازم إلا أنهم دفعوا عنه الإرتفاع بالفعل والإنحطاط بترك فعل ما فأوجبوا بذلك أنه بفعله لا يجر إلى نفسه النفع ولا يدفع عنها الضرر فيجب أن يكون فعله لحكمة






----------------------------------- صفحة 216


بما ينفع غيره أو يدفع عن غيره الضرر وجعلوا ذلك علة فعله ليخرج عندهم فعله عن معنى العبث وبهذا الوجه خالفوا الثنوية إذ هم أبوا الفعل بغير نفع للفاعل فيه أن يكون من الحكمة فأثبتوا الفعل بجوهر الحكمة عند المزاج ليكون في خلاصه من جنس جوهر السفه فيصير فعله حكمة على التقدير بالشاهد مع ما كون شيء لا من شيء ممتنعا في الشاهد فأوجبوا لكلية العالم أصلا منه جعل وأنشئ لأنه لا فصل بين خروج الفعل عن حق الوجود في الشاهد فيلزم دفعه أن يكون ذلك من حكيم فخالفهم أهل التوحيد في هذين ثم ألزم فريق منهم إياه ما في العقل علة لم يكن له العقل دونها لما وجدوا فعل مثله في الشاهد عبثا وألزموا في فعل المضار لو كان لغير نفع يعقب سفها على ما ذكرت الثنوية في فعل لا ينتفع به الفاعل


ثم تفرقوا فزعم قوم أنه لا ضرر في الحقيقة على المفعول به وإن سمع منه التضرع والشكوى وزعم قوم أن عليه في الحقيقة ضررا لكن عليه أن يعوضه عن ذلك ليصير الفعل به حكمة كالموجود في الشاهد ممن يحمل المؤن العظام وشرب الأدوية الكريهة مع القصد وقصد الخراج لتقع العواقب وليس له فعل الضار بغير إلا بعوض


قال الشيخ من عرف الله حق المعرفة وعلم غناه وسلطانه ثم قدرته وملكه في أنه له الخلق والأمر عرف أن فعله لا يجوز أن يخرج عن الحكمة إذ هو حكيم بذاته غنى عليم والذي به الخروج عن الحكمة في الشاهد ويبعث صاحبه عليه جهله أو حاجته وهما منفيان عن الله فثبت أن فعله غير خارج عن الحكمة وعلى ما ذكرت يبطل أن يكون فعله في الحركة أو السكون إذ هما حاجتان يحلان في صاحبهما فيبلغه أحدهما إلى تأمل نفسه من الراحة والسلوى






----------------------------------- صفحة 217


والآخر إلى ما يبلغه الهمة والرغبة إذ لا سبيل له إلى مقصوده إلا بالتحرك والزوال ولا إلى دفع الإعياء والتعب إلا بالقرار والسكون فأما الله سبحانه إذ ثبت غناه وقدرته بطل أن يعتريه حاجة أو يعتريه همة وعلى ذلك لما ثبتت قدرته وسلطانه وعلمه بطل وصفه بأن لا يقدر على فعل شيء ابتداء لا عن شيء إذ ذلك علم الحاجة وآية الضعف وحاجة جميع ما يحس ويبلغه علم البشر هي الدلالة على تقدير العالم وعالم به قدير غنى لم يجز إزالة ذلك بالذي عرف غناه وقدرته وحكمته وعلمه ولا قوة إلا بالله فلذلك لزم القول بضرورة العقل لجواز كون العالم لا عن شيء وخروج فعله على الحكمة وإن عجزت عقول حكماء العالم عن إدراكها لخروج وجه الحكمة عن نهاية قوة عقولهم على ما بينا من كون شيء لا عن شيء ومن جواز فعل ممن لا ينتفع به وبذلك تظهر حقيقة الأمر له وأن له الخلق والأمر ولكل ذي ملك أن يفعل في ملكه على قدر ما ملك منه ما شاء ولاقوة إلا بالله


ثم الأصل أن الجور والسفه قبيحان وأن العدل والحكمة حسنان في الجملة لكن شيئا واحدا قد يكون حكمة في حال سفها في حال جورا في حال عدلا في حال نحو ما ذكرت من شرب الأدوية ثم أكل الأشياء وشربها ثم إتلاف الأشياء وإبقاؤها من أنواع الجواهر ما للحاجات أو للمجازات أو لحقوق أو لنحو ذلك وإذ ثبت حسن الحكمة في الجملة والعدل وقبح السفه والجور ولزم وصف الله تعالى في كل فعل خلقه في أقل ما يوصف أنه حكمة وعدل أو فضل وإحسان من حيث ثبت أنه جواد كريم غنى عليم وبطل أن يلحقه وصف الجور والسفه لما كان سببهما الجهل والحاجة قد ثبت انقسام الشيء الواحد على الجور والعدل وعلى الحكمة والسفه سببهما الجهل وجائز خفى وجه ذلك على الناظر المتأمل أو هو بالحس يريد الإطلاع على العلم به وقد ثبت احتمال الوجهين لايقع على واحد منهما الحس وعلم المتأمل ذلك






----------------------------------- صفحة 218


بطل قضاؤه في شريعته على الإشارة إليه بالحكمة والسفه والعدل والجور فلزم بهذا جهل كل البشر لمعرفة حقيقة الأمرين في الشيء بالتأمل فيه أن يعرف جميع الأسباب التي بها تتغير أحوال المحسوسات على الحواس وإذا ثبت ذا بطل قول الثنوية بالإثنين فجهلهم بوجوه الحكمة في خلق الضار والنافع إذ قد يجوز أن يصير كل ضار في حال نافعا في أخرى وبطل من يقول من المعتزلة أن كل فعل لا ينفع آخر فهو غير حكمة مع ما لا يوجد ضرر البتة إلا وأمكن أن ينتفع به أحد إما من طريق الدلالة أو من طريق الموعظة أو ما فيه من تذكير النعمة وتحذير النقمة ومن تعريف من له الخلق والأمر في الخلق وغير ذلك مما يكثر ذكره ولا قوة إلا بالله


ثم الأصل الذي يجعل الفعل في الشاهد سفها أحد أمرين إما تعدى الملك لا بإذن من له الملك لذلك الفعل أو لما فيه ركوب نهى ومخالفة الأمر ممن له الأمر والنهى وكل ذلك عن الله جل ثناؤه منفى ثبت أنه يتعالى عن احتمال لحوق هذا الوصف فعله ولا قوة إلا بالله


وليس ذلك كالكذب لأنه لا يصلح بحال كالفعل الذي ينقسم على الحكمة والسفه والعدل والجور وهذا من حيث الجملة لا انقلاب له ومن حيث الوقوع في شيء على الإشارة إليه ممكن فيه الأمران باختلاف الأحوال والأسباب لذلك لزم وصف الله تعالى في الجملة بالتعالي عن فعل السفه والجور وفي الإشارة أيضا لكن لا يجوز أن يوصف فما ظهر فعله بالسفه والجور بما لا يبلغه علم البشر ولا يدركه عقل ولا قوة إلا بالله


ثم جملة ما يعلم به فساد الوصف بالجور والسفه والكذب وجهان أحدهما قبح ذلك في العقول بالبديهة والفكر جميعا حتى لا يزداد عند التأمل والبحث عنه إلا قبحا لا عند طول النظر فيه إلا فحشا وليس ذلك كالقبيح بالطبع إن ذلك يصير حسنا بالإعتياد وطول الصحة كالذبح وأنواع ذلك وكذلك نجد






----------------------------------- صفحة 219


جواهر الدواب والسباع والطيور مستوحشة عن الناس بالطباع نافرة عما يراد بها من أنواع المكاسب والأعمال ثم تخرج عنها بالرياضة والتعليم حتى يألف بالذي كان تنفر عنه ويصير ذلك له كأنه الطباع المجبول ولا يكون الذي قبح بالعقل بهذا الوصف أبدا بل يزداد على طول النظر في شأنه ثم على ذلك من احتمل فعله ذلك لا يوثق لوعده ولا يخاف وعيده ولا يرغب في خبره ولا يؤمن شره ومن ذا شأنه وعمله فمحال احتمال إضافة مثله إلى العليم الحكيم بذاته الغنى بنفسه مع الوصف بأن لا يخفى عليه شيء ولا يصعب عليه أمره فيما أراد بل على قول المعتزلة لا يؤمن منه هذا إذ قد تخرج أكثر الأشياء عن إرادته ويوجد ما لا يريده في سلطانه منه بلا سلطان له في الإخراج عنه إذ لم يرده ويريد زيادة سلطان ويتولى ذلك أن يكون فيمنع عن ذلك نحو ما يريد أن يكون جميع خلقه مطيعين ويكون له في سلطانه وملكه الطاعة لا المعاصي فلا يكون ثم قد كان وعد لقوم مددا لأعمارهم وهو المبقى لهم إليها وكان في وعده أن يرزقهم إلى تلك المدد أنواع الرزق ويسوق إليهم أنواع الخيرات فيأتى خلق من خلائقه فيقتلوهم قبل مضى المدة فيمنعه عن إنجاز ما وعدوا الوفا بالفعل الذي أخبرهم أن يفعله من إبقاء حياتهم إلى تلك المدة وفي ذلك إيجاب الحاجة ولحوق الكذب اللذين يحققان السفه والجور مع تحقيقهم له القدرة على الظلم والجور والسفه والكذب وكل فعل لو كان لأسقط الربوبية وأزال الإلهية فأدخلو إلهيته وربوبيته تحت القدرة والتدبير فمتى يكون مع مثله أمن البقاء ومع حاله سكون القلب بالوفاء بالذي وعد ولا قوة إلا بالله


مع ما كان موصوفا بالجود والكرم والعفو والإحسان وفي الفعل بالوصف الذي ذكرنا زواله جل عن ذلك وتعالى


والوجه الثاني أن الذي يدعو إلى تلك الأفعال ويبعث عليها الحاجة والجهل






----------------------------------- صفحة 220


وقد ثبت تعاليه عن الأمرين إذ هما يسقطان الربوبية ويزيلان التدبير وفي وجود العالم على ما عليه من دلالة غنى صاحبه وعلمه بإعطاء كل شيء حقه دليل إحالة هذا الوصف لذلك بطل أن يوصف في شيء من فعله بذلك ولا قوة إلا بالله


ثم إذ كان الله جل ثناؤه موصوفا بالعلم والقدرة والجبروت والحياة لذاته لإحالة إحتمال الأغيار وإن لم يوجد في الحكماء كذلك لم يجب تقديره في أفعاله على أفعال الحكماء في الشاهد وجملة هذا الأصل أنه لا حكيم في الشاهد إلا وهو محتمل للسفه وكذلك الغنى والقدير يحتمل لأضداد تلك الصفات وكان بها موصوفا حتى أكرم بأضدادها فإنه له منها قدر ما أعطى منها فهو متى رأى السفه في شيء بين أن يكون قد أعطى علم حقيقة الحكمة في ذلك أو لا أو بلغ علمه ما يدرك حكمته أو لا أو مما كان من صفته القديمة باقية فيه يمنع ذلك إياه عن الإحاطة بذلك فلذلك تبطل وجه دعوى العبد في فعل الله أن ذا ليس بحكمة ولا كذا والذي يوضح ذلك علمه بجهله بأكثر الأشياء وعلمه بحاجته وعجزه في أكثر الأمور وإحاطته بسفهه في أغلب الأمر ومن هذا وصفه في نفسه فخوضه فيما لله أن يفعل عبث وجهل على الإشارة إليه وليس دون لزوم الجملة اشترك فيها العقلاء إذ ذلك حقيقة عمل العقل في الجملة وقد أعطى كل ذلك عبث لا معنى له وللذي بينا قال الله تعالى لا يسأل عما يفعل وهم يسألون إذ فعل كل أحد يحتمل السفه والحكمة وفعله يجل عن السفه وعلى كل أحد أمر ونهى إذ هو لغيره في






----------------------------------- صفحة 221


الحقيقة والله يتعالى عن ذلك ولأن كلا إنما ملك قدرا من الأشياء وجدا والله المالك لها بكليتها ونحو ذلك مما يحيل معنى سؤال الرب وإذا استحال ذلك فالجواب عنه تكلف لكن الله بمنه وفضله وعد الهداية لسبيله لمن جاهد فيه فألزم ذلك الخضوع له والتضرع إليه ليطلعه على مكنون حكمته على قدر ما يتفضل به عليه بكرمه فإنه على كل شيء قدير


مسألة في أفعال الخلق وإثباتها


الحمد لله المتوحد بالقدم والإلهية المتفرد بالدوام والربوبية ذي البرهان المنير والملك الكبير الذي فطر الخلق بقدرته وصرفهم بحكمته على سابق علمه ومشيئته وتقلب كل في مواهبه وإحسانه أنشأ الأشياء كيف شاء لا يسأل عما يفعل وهم يسألون لما يتمكن منهم السفه والحكمة ليزجروا بالسؤال ثم بالجزاء عن السفه ويرغبوا في الحكمة ونسأله أن يكرمنا بالتوفيق ويجدد عزمنا التسديد وينور قلوبنا بالتوحيد فإنه حميد مجيد


أما بعد فإن الله تعالى لما خلق البشر للمحنة بما جعلهم أهل تمييز وعلم بالمحمود من الأمور والمذموم وجعل ما يذم منها قبيحا في عقولهم وما يحمد حسنا وعظم في أذهانهم إيثار القبيح على الحسن والرغبة فيما يذم على ما يحمد دعاهم على ما عليه ركبوا وما به أكرموا إلى إيثار أمر على أمر وقبح في عقولهم إحتمال أمثالهم جعل الله جميع ما لهم فيه متقلب بين ضرر يتقى ونفع يرغب فيه ليكون ذلك لهم علما للموعود مما به الترغيب والترهيب وأنشأهم على طبائع تنفر عن أشياء وتميل إلى أشياء وأراهم في عقولهم حسن بعض مما تنفر عنه الطباع بحمد العواقب وقبح بعض ما تميل إليه بذم العواقب فصيرهم بحيث يحتملون المكروه على الطباع بلذيذ العاقبة ويقهرونه عما يدعوهم






----------------------------------- صفحة 222


إليه بشهى النهاية ثم امتحنهم إذ أبت عقولهم احتمال أمثالهم ورغبت في محاسن الأعمال ومكارم الأخلاق باختيار ما حسن من الأعمال واجتناب ما قبح من ذلك ثم جعل ما فيه محنتهم أمرين العسير واليسير والسهل والصعب إذ هم بلا محنة يتعاطون الأمرين جميعا لما إليه مرجع ما أقدموا عليه وامتنعوا وعلى ذلك جعل الأسباب التي بها التوصل لهم إلى الأصل الذي به يرتقى إلى كل درجة وينال كل فضيلة وهو العلم على وجهين على الظاهر البين والخفى المستور ليتفاضل بذلك أولوا العقل على قدر تفاضلهم في الإجتهاد وإحتمال ما كرهته الطباع ونفرت عنه النفس وعلى ذلك جعل سبيله قسمين أحدهما العيان الذي هو أخص الأسباب وهوالذي ليس معه جهل ليكون أصلا لما خفى منه والثاني السمع الذي عن دلالة الأعيان يعرف صدقه وكذبه ثم جعل السمع قسمين محكم ومتشابه ومفسر ومبهم ليبين منتهى المعارف من الكف فيما يجب ذلك والإقدام فيما يلزمه ومن حمل المبهم على المفسر لزم المحكم وعرض المتشابه عليه ما أمكن أن يكون ما فيه مما يلزم تعرفه ومما إليه حاجة بأهل المحنة أو ترك الخوض في ذلك فيما أمكن الغنا عن تعرف حقيقة ما فيه فيكون محنة الوقوف إذ الله تعالى يمتحن بوجهين بالتسليم مرة وبالطلب ثانيا وإنما على العبد الطاعة في قدر الأمر ولما جمع جل ثناؤه كتابه على الأمرين يعرف الناس الدين أقروا بالكتاب أنه حق من عند الله لا يسع العدول عنه وأن من لزمه أفلح ونجا ومن مال عنه شقى وخسر حتى ظن كل فريق أنه قد أصاب المحكم من ذلك ولزمه وأن عليه فيما ذهب إليه خصومه أن يقف في ذلك أو يجمله على ما تقرر عنده فيما اعتقده فألزم تفرقهم الحاجة كلا يعرف المحكم من المتشابه لزوم العلم بالمتشابه أن لا يتناقض المحكم منه ثم معلوم أنه لا يحتمل القرآن الإختلاف وبه وصف الله أنه ولو كان من عند






----------------------------------- صفحة 223


غير الله لوجدوا فيه أختلافا كثيرا وفي العقل إن تناقض أدلة من له الأدلة وهو دليل سفهه وجهله فثبت بذلك ان الذي له تفرقوا ليس من حيث القرآن ولا لما ليس فيه بيان بل دل تكليف الرد إلى القرآن ولزوم اتباعه على أن فيه بيان ذلك وإنما خفى المحكم على من لم يبلغه لمعان إما ميل طبيعة الجوهر إلى ما يتلذذ به أو لإلف بعض ما اعتاده أو لتقليد من وثق به أو لتقصير في الطلب أو لثقة منه بعقله أحب أن يسوى عليه حكمة الربوبية دون أن اتبع عقله ما ألقى في سمعه فصار به المحكم عنده متشابها أو لتقصير في البحث إذ الوجوه التي هي وجوه الشبهة على الذين عدلوا عن التوحيد على شهادة كلية الأشياء له بذلك ولا قوة إلا بالله


وأصل ذلك أن الله تعالى خلق البشر على طبائع تميل إلى الملاذ الحاضرة وتدعوا صاحبها إليه وتزينها في عينه بما ركب فيه من الشهوات إلى ما إليه مثل طبعه وهي تنفر عما فيه ألمه وتعبه فيصير طبعه أحد أعداء عقله في التحسين والتقبيح وإن كان ما حسنه العقل وقبحه ليس له زوال ولا تغير من حال إلى حال وما حسنته الطبيعة وقبحته هو في حد الإنقلاب والتغير من حال إلى حال بالرياضة والقيام على ذلك بالكف عما ألفه والصرف إلى ما ينفر عنه يحسن القيام عليه على ما يحتمل الطبع قبوله نحو المعروف من أمر الطيور والبهائم إنها بطبعها تنفر عما أريد بها من أنواع منافع البشر ثم يحسن قيام أهل البصر بذلك لصير مما طبع عليه بالميل إليه كالمستوحش ومما طبع على النفار عنه كالمطبوع عليه وعلى ذلك أمر نفار الطبع عن القتل والذبح في البشر ثم سهولة ذلك عليه في الحيوان وما يدرك حسنه بالعقل وقبحه فلا يزال يزداد على ما فيه إدراكه






----------------------------------- صفحة 224


ببديهة الأحوال ولذلك جعل الله العقول حجة لا ميل الطباع إذ أجرى قلمه على أهلها وإن شاركوا في الطباع غيرهم ممن ليست لهم عقول سليمة وألزم أهلها اتباع ما أراهم العقل حسنه وإن كان في الطبع النفار واجتناب ما في العقل قبحه وإن كان في طبيعة الجوهر قبوله إذ العقل يرى صاحبه على حقيقة ما عليه الشيء والطبع أعنى طبع الجوهر لا يوضح ذلك أن طبع الجوهر لا تبصر به ولا يمثل غير الحاضر والعقل يدرك به ما حضر وغاب وبه يحضر على الطبع ما غاب حتى يصير له كالشاهد مما يكرهه ويتلذذ به وعنده تسهل المحنة وتخف مؤن الذي يكرهه الطبع وعلى ذلك تقدير الكلام والعبارات إنها وإن كانت تختلف في الحسن والقبح على الأسماع فإنها لا تغير في الحقوق إذ هي تتغير ويجوز أن تؤدي عبارة واحدة بلسانين يكون أحدهما أحلى من الآخر والحسن لنفسه والحق لا يختلف لاختلاف المعبرين فلهذا لم يقدر حسن الأشياء بطبع الخلقة ولا بحسن العبارة وإنما قدر بالعقل الذي لا يرى الحسن قبيحا وهو الأصل الذي يلزم تسوية كل أمر من الأمور عليه وذلك كعلم العيان الذي لا يحتمل التغير ولا يناقضه جهل فيكون هو أصلا لكل خفى مستور وكذلك أمر العقل وما أراه أصل لكل أمر مطبوع ولما بينا من مخالفة الطبائع في التزيين المعقول وفي التقبيح تعذر على كثير من الخلق إدراك ما أراهم العقل والطبع فصار بذلك المحكم عندهم في صورة المتشابه والمتشابه في صورة المحكم وهكذا أريد درك كل شيء بغير سبيله فنسأل الله أن يعصمنا عن رؤية الباطل بصورة الحق والحق بصورة الباطل فإنه قوي مدبر قدير






----------------------------------- صفحة 225


اختلاف الفرق في أفعال الخلق


قال الفقيه رحمه الله اختلف منتحلو الإسلام في أفعال الخلق فمنهم من جعلها لهم مجازا وحقيقتها لله بأوجه أحدها وجوب إضافتها إلى الله على ما أضيف إليه خلق كل شيء في الجملة فلم يجز أن يكون الإضافة إلى الله مجازا لأنه الفاعل الحق والقادر الذي لا يعجزه شيء وفي ذلك إخراج عن قدرته وإزالة عن حقيقة فعله وقد أضيف كثير مما لا يشك على أن الله هو منشئه إلى العباد بالحرف الذي هو حرف العبادة عن الأفعال كالموت والحياة والطول والقصر الحركة والسكون والإجتماع والتفرق والله سبحانه لكل ذلك فاعل وعلى كله قادر فمثله ما ذكرناه وإضافة ذلك في القرآن ظاهر وذهب هؤلاء في التعذيب ونحو ذلك إلى أن له الخلق والأمر بكليته له في ذلك ما شاء على ما قدر كل مالك في ملكه ما له فيه وإن كان ذلك كله على هذا القول مجازى والثاني أن بتحقيق الفعل لغيره تشابها في الفعل وقد نفى الله ذلك بقوله أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم وإذا لم يكن حقيقة الأملاك في الجواهر وفي الإلزام يقع تشابه في الملك فمثله في الأفعال وأيضا أنه لو جعل للعبد إيجاد وإخراج من العدم لكان في معنى خلق فيلزم اسم خالق وذلك مما أباه الجميع حيث قالوا لا خالق إلا الله


قال الشيخ رحمه الله وعندنا لازم تحقيق الفعل لهم بالسمع والعقل والضرورة التي يصير دافع ذلك مكابرا فأما السمع فله وجهان الأمر به والنهى عنه والثاني الوعيد فيه والوعد له على تسمية ذلك في كل هذا فعلا من نحو قوله اعملوا ما شئتم وقوله وافعلوا الخير وفي الجزاء يريهم الله أعمالهم






----------------------------------- صفحة 226


حسرات وقوله جزاء بما كانوا يعملون وقوله فمن يعمل مثقال ذرة وغير ذلك مما أثبت لهم أسماء العمال ولفعلهم أسماء الفعل بالأمر والنهى والوعد والوعيد وليس في الإضافة إلى الله سبحانه نفى ذلك بل هي لله بأن خلقها على ما هي عليه وأوجدها بعد أن لم تكن وللخلق على ما كسبوها وفعلوها على أن الله إذا أمر ونهى ومحال الأمر بما لا فعل فيه للمأمور أو المنهى قال الله تعالى إن الله يأمر بالعدل والإحسان ولو جاز الأمر بذلك بلا معنى الفعل في الحقيقة لجاز اليوم الأمر بشيء يكون لأمس أو للعام الأول أو بإنشاء الخلائق وإن كان لا معنى لذلك في أمر الخلق ثم في العقل قبيح إن انضاف إلى الله الطاعة والمعصية وإرتكاب الفواحش والمناكير وأنه المأمور والمنهى والمثاب والمعاقب فبطل أن يكون الفعل من هذه الوجوه له ولا قوة إلا بالله


وأيضا إن الله تعالى إنما وعد الثواب لمن أطاعة في الدنيا والعقاب لمن عصاه فإذا كان الأمران فعله فإذا هو المجزى بما ذكر وإذا كان الثواب والعقاب حقيقة فالائتمار والإنتهاء كذلك ولا قوة إلا بالله


وكذلك في أنه محال أن يأمر أحد نفسه أو يطيعها أو يعصيها ومحال تسمية الله عبدا ذليلا مطيعا عاصيا سفيها جائزا وقد سمى الله تعالى بهذا كله أولئك الذين أمرهم ونهاهم فإذا صارت هذه الأسماء في التحقيق له فيكون هو الرب وهو العبد وهو الخالق والمخلوق ولا غير ثمة وذلك مدفوع في السمع والعقل ولا قوة إلا بالله


وأيضا أن كل أحد يعلم من نفسه أنه مختار لما يفعله وأنه فاعل كاسب






----------------------------------- صفحة 227


فلو جاز صرف مثله مما طريق العلم به الحس وإبطاله نحو العلم لجميع العالم مثله وذلك مهجور فمثله قول أهل الجبر وهذا قول يغنى الحكاية عن الإطناب فيه لما ليس له كثير اتباع ولما ليس لهذا القول معنى تكلم عليه صاحبه إذ هو ينفى عن نفسه حقيقة كل قول وفعل وإذا انتفى بطل القول وبه يناظر ويحاج فزال الذي به يكون الحجاج واضمحل


ومن الناس من عارضهم عند ظنهم وقوع التشابه بالعلم والوجود والكون وغير ذلك وذلك لازم لو كان ثمة عقل يحتمل الإدراك ولكنهم قوم أنكروا علم الضروريات وما هو في حد العيان فلا معنى لمناظرتهم ولا قوة إلا بالله


ومنهم من حقق الأفعال للخلق ونفى عنهم التدبير فيها وأزال عنهم قدرة خلقها وصير مشيئتهم فيها كبعض ما تتمنى به الأنفس أن يكون حقائق الأشياء خارجة منها واحتجوا في ذلك بالأمر والنهى ثم الوعد والوعيد ومحال رجوع مثله إلى ما للآمر والناهي حقيقته أو عليه وعنده وله وعده على ما ذكرنا وتلوا ذلك آيات الأمر والنهى وذكر العقل ثم آيات الجزاء وهي بينه بحمد الله لمن قرأ القرآن ثم هو قد سوعد على ذلك بما بينا في فساد قول المجبرة وقالوا في الإضافة إلى الله إنها تخرج على وجهين سوى حقيقة الفعل أحدهما بالسبب الذي كان منهم الأفعال مع الأمر بالخيرات والتخلية في الشرور وقد تضاف الأفعال إلى من له الأسباب وإن لم يكن حقيقتها له ولا قوة إلا بالله والثاني أن الأضافة إليه عند المحنة بما له بها حال التصديق والتكذيب كما أضيف إلى القرآن زادهم إيمانا ورجسا وإلى الدعاء أنه زادهم نفورا وإلى القوم أن أنسوهم ذكر الله وإلى الأصنام أن أهلكن كثيرا من الناس بما عبدوا كانت أفعال






----------------------------------- صفحة 228


البشر أولئك فمثله الإضافة إلى الله وقد يحتمل الأحوال كما أضيف إلى الدنيا الغرور وإلى زينتها بما هي تظهر ما يكون مثله الغرور وإن لم يكن منها حق الفعل وكذا ما أضيف إلى القرى الخاوية على عروشها والقيود من النطق وإلى البهائم من الشكاية مما لو كانت تنطق بقول فمثله في الإضافة إلى الله بما منه من الإمهال وإظهار النعم الذي كاد أن يكون حجة لهم في الرضا بأفعالهم ولذلك ظنوا أن الله أمرهم بما هم فيه من الأفعال بالإمهال والتأخير ولا قوة إلا بالله


ومنهم من حقق الأفعال للخلق وبها صاروا عصاة تقاه وجعلوها لله خلقا اعتبارا بما سبق من الإضافة إلى الله جل ثناؤه مرة وإلى العباد ثانيا والمذكور المضاف إلى العباد هو المضاف إلى الله تعالى لا غير بمعنى يؤدي إلى اختلاف الجهة في العقل نحو الإضلال والإزاغة والهداية والعصمة ثم الإنعام والإمتنان ثم الخذلان والمد ثم الزيادة من الوجهين ثم الطبع والتيسير ثم التشرح والتضييق ومحال وجود هذه الأحوال على وجود مضادات ما يوصف بها وإضافة الإهتداء والضلالة والرشد والغي والإستقامة والزيغ إلى الخلق وكان في وجود أحد الوجهين تحقيق الآخر إذ لا يضاف الذي أضيف إلى الله مطلقا مع إضافة أضداد الواقع عليه معانيها ثبت أن حقيقة ذلك الفعل الذي هو للعباد من طريق الكسب ولله من طريق الخلق دليل ذلك أن فعل الله تعالى في التحقيق خلقه وكل ذلك لو أضيف إليه باسم الخلق لم يفهم منه في ذلك غير إنشاء وفهم من الذي منهم من العبد فعله وكسبه نحو أن نقول خلق الشرح والضيق وخلق الضلال والإهتداء ونحو ذلك فمثله الأول مع ما لو جاز صرف أحد الوجهين عن حقيقة المفهوم أو الأسباب أو الأحوال فالآخر مثله وكل ذلك مجاز لا حقيقة ولذلك جاء مقابلة القولين من الجبرية والقدرية وهذا معنى






----------------------------------- صفحة 229


ما روى من لعن المرجئة والقدرية إن المرجئة أرجأت الأفعال إلى الله ولم تجعلها للعبد والقدرية أثبتتها لله على ما تنسب الخلق إلى الله تعالى ولم تجعل لله فيها تدبيرا والعدل هو القول بتحقيق الأمرين ليكون الله موصوفا بما وصف به نفسه محمودا به كما قال خالق كل شيء وقال فهو على كل شيء قدير وليكون عدلا مفصلا كما قال وما ربك لظلام للعبيد وقا ل ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا ثم الدليل على لزوم القول بهذا مع ما فيما بينا كفاية وجود أحوال في أفعال العبد لا يبلغها أوهامهم ولا يقدرها عقولهم وأحوال فيها ينتهي إليها قصدهم وتبلغها عقولهم فثبت أنها من الوجه الأول ليست لهم ومن الوجه الثاني لهم فالأول كتصوير خروج الشيء من العدم إلى الوجود وكأخذ الفعل من قدر الجو والمكان والحد الذي لو أحب أن يعود إليه ما أمكنه بلا فيه والثاني نحو التحرك والسكون بالمنهى والمأمور به ثبت أن فعلهم من الوجه الأول ليس لهم ومن الثاني لهم ولو جاز تحقيق فعلهم من الوجه الأول على ظهور خروجه من قصدهم وجملتهم مختلفة مما ذكر وعجزهم عن العود إلى مثله لجاز كون العالم على ما عليه بمن لا يقدر ولا يعلم ولا يعرف مقادير كل شيء ويجوز أيضا آيات على ما هي عليه بالبشر وإن لم يكن بمثلها علم ولا عليها قدرة فإذ لزمهم القول بالصانع والرسل بخروج الذي ذكرت عن وسع الخلق فمثله أفعال الخلق ولذلك قال الله سبحانه ليس كمثله شيء وأوجب أن تشابه الخلق من الوجه الذي قلت تماثلا ولا قوة إلا بالله






----------------------------------- صفحة 230


وأيضا إنا نجد أفعال العباد تخرج على حسن وقبح لا يعلم أهلها أنها تبلغ في الحسن ذلك ولا في القبح بل هم عندهم نفسهم في تحسينها وتزيينها وهي تخرج على غير ذلك بأن جعل أفعالهم على ما هي عليه ليست لهم ولو جاز كونها على ذلك لهم وهم لا يعرفون مبلغ الحسن والقبح فإذا لا جهل يقبح الفعل ولا علم يحسنه فثبت أن فعلهم من هذا الوجه ليس لهم ولا قوة إلا بالله


اللهم إلا أن يقولوا هي لأنفسها كانت كذلك فإذا استقام حسن الفعل وقبحه لأتمر له الفعل نفسه فالله تعالى به أحق من الشيء من نفسه إذ الشيء بحيث نفسه جاهل بما هو عليه


مع ما لو جاز كون حسن وقبح بلا منشيء له لجاز كون كل شيء بلا منشيء وفي ذلك الخروج من الإسلام ولا قوة إلا بالله


وأيضا إنا نجد الأفعال مؤذية لأهلها ومتعبة ومؤلمة ومحال تأذى الطبع بلا مؤذ وتعبه بلا متعب وتألمه بلا مؤلم فثبت أنها مؤلمة متعبة مؤذية إن قصد أربابها إلى أن يتلذذوا بها ويتمتعوا فثبت أنها كذلك لا بهم ولاقوة إلا بالله


وأيضا القول بالمتعارف في الخلق أن لا خالق غير الله ولا رب سواه ولو جعلنا حدث الأفعال وخروجها من العدم إلى الوجود ثم فناءها بعد الوجود ثم خروجها على تقدير من أربابها لجعلنا لها وصف الخلق الذي به صار الخلق خلقا وفي ذلك لزوم القول بخالق سواه وفي جوازه مناقضة قول من ذكرت مع ما لو جاز ذلك لجاز القول برب فعله وذلك مدفوع وبالله التوفيق


وأيضا إن العباد إذ أفعالهم في الحقيقة حركات وسكون في الظاهر والله قادر عليها لو لا ذلك ما أقدرهم عليها فصارت هي لأنفسها تحت قدرته عليها






----------------------------------- صفحة 231


فإذا أقدر العبد على ذلك ذهبت عنه القدرة فإذا قدرته زالت عنه وصار قادرا بقدرة تزول ومن ذلك وصفه فهو عبد لا رب والله الموفق مع ما كانت الحركة والسكون ليسا بمخالفين في رأي العين لما كانا عليه ولا سبيل للناظر إلى التفريق بينهما ولولا حقيقة الإشتباه لاحتمل التفريق وفي تشابه الفعل لزوم القول فيهما بما له وجبت التسمية في أحدهما وفي ذلك تشابه لأن استواء الأفعال في الشاهد يوجب تشابه الفاعلين ولا قوة إلا بالله


وأيضا إن الذي به عرف أهل التوحيد حدث الأعيان امتناعها عن الخروج من التفريق والإجتماع والتحرك والسكون فإذا لم يكن هذه الأحوال في الحقيقة خلقا من الله على يدي من جرت عليه يديه لم نقدر أن نثبت جسم وعين يدرك على ما هو عليه بفعل الله إذ الأفعال التي ذكرنا من الأسماء يجوز تحقيقها لا بالله وإن كنا نبصر من به ذلك فيصير دليل حدث العالم يقيمه غير الله إذ لا سبيل له إلى إظهار الذي منه من الأحوال الذي ذكرنا مما ليست منه ولولا تلك الأحوال لم يعرف حدث العالم فيبطل طريق العلم به بدليل أقامه هو ثم لما احتمل جميع الأحوال بغيره لم يثبت بها أنه صانع تلك والأجسام لا تعاين إلا بها فيبطل أن يكون الله تعالى جعل لوحدانيته دليلا يعرف ولربوبيته شاهدا يشهد على هذا القول وبالله العصمة والنجاة


وأيضا أن الله تعالى قال ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله ثم قال إذا لذهب كل إله بما خلق ثم الله جل ثناؤه لم يخلق عرضا قط إلا جعل عليه دليلا يعلم أنه خلق لما كانت الأعراض لما ذكرنا ويجوز أن يكون في خلقه خلق يجمع ويفرق ويحرك ويسكن ونحن لا نراه كما كان






----------------------------------- صفحة 232


فيهم من لا نراه بجوهره وإن كان يرى وتلك الأفعال لأنفسها لا ترى إنما ترى وتعلم بتغير الأحوال على الجوهر فإذا كانت جواهر لا ترى جائز منها مثلها لم يجعل لما خلق علما ولا ذهب به فكيف ناقض به قول المعتزلة قول الملحدة وهم شركاؤهم في هذا الوجه فنسأل الله النجاة من قول هذا عقباه


على أن القدرة الناقصة هي التي تكون لكل أحد من الخلق ولكل قدرة على ما ليس لغيره فإذا لم يكن لله قدرة على ما لعبده فإذا قدرته نحو قدرة كل منقوص جل الله عن صفة المخلوق وبالله التوفيق


وأيضا أنه لو جاز خروج شيء هو تحت القدرة عن أن يكون لله عليه قدرة بل ليس هو شيئا واحدا بل لعله أكثر من جميع الخلق كيف نؤمن بوعده ووعيده وكيف يطمئن السامع إلى ما وعده من البعث أن يكون وما أخبر أنه لو شاء لخلق مثل الذي خلق وهو لايقدر على فعل بعوض فضلا عن فعل هو أقوى منه ولا قوة إلا بالله


وأيضا أن الله إذ هو مالك كل شيء وملكه الأشياء ليس بما أوجب له فيه الملك لملك العبد بل هو بذاته مالك بما هو خالق كل شيء فأما أن يكون غير مالك لفعل العباد ولا رب لها فيجب به أن يكون للعباد ذلك فيكون ربوبيته وملكه ملكا ناقصا وذلك لكل مخلوق يملك أشياء بل هو أكثر لأنه يملك فعله وفعل غيره والله لا يملك وإذا ثبت له الملك في كل شيء لزم القول بخلقه إذ لا يملكه العبد ويملك الأشياء بالقدرة عليها أو تمليك من له تلك و لا قوة إلا بالله


وأيضا إن العبد يقدر بإقدار الله إياه فلا يجوز أن يقدر بإقدار من ليست له القدرة عليه كما لايجوز أن يعلم بإعلام من لا علم له به أو لا يرى أنه






----------------------------------- صفحة 233


إذا لم يجز لأحد القدرة على إقدار غيره على شيء لم يقدر هو عليه ومن له علم يعلم به غيره لم يجز أن لا يعلم هو فمثله الذي بينا وإذا ثبتت قدرة الله عليه وما يقدر الله عليه فهو محال وجوده بغيره ثبت أنه خالق ذلك


وأيضا إن العالم لا يخلو من الأعراض والأجسام وكل أنواع الأعراض أمكن في الحقيقة أن تكون فعلا لغيره فيكون العالم لله ولخلقه من طريق الإنشاء والوجود وفي ذلك بطلان القول بوحدانية صانع العالم


ولم يختلف أهل الإسلام في إطلاق القول بأن صانع العالم واحد وقول من يبطل قوله عند التحصيل هذه الجملة التي شارك فيها الجميع مردود بالجملة على نحو قول الله تعالى ليس كمثله شيء وقوله إله كل شيء إن قول الناس في التحصيل يجعل له شبها وعدلا في العباد منقوض بتلك الجملة وإن احتال فمثله الأول بل الأول أحق لأنه طريق العلم بالحرف الثاني وهو أن في تحقيق العالم تحقيق الوحدانية للخالق وبه يسلم له القول ليس كمثله شيء وأنه الواحد لا شريك له فإذا أثبت العالم بشركاء له فيه لم يكن هو أحق بأن ليس كمثله شيء من أن يكون لمثله أشياء أو أن يكون إلها لما أنشأه وأخرجه من العدم إلى الوجود من غيره في ذلك ولا قوة إلا بالله


وأيضا أنه لو لم يكن خالقا لأفعال الخلق عامة لما قدر على إظهار حجته التي أظهرها على أيدي رسله والتدبير الذي جرى عليه من أمر عالمه من أول ما أنشأه خلقه إلى آخر ما ينتهي إليه أمره منتقصا فاسدا لولا مساعدة خلقه






----------------------------------- صفحة 234


له فيما دبر من البقاء وفيما جعل من العدم فيما أنشأ من النسل إن ذلك كله مما ظهر بأفعال خلقه وتم به وليس بحكيم ولا قادر من أراد أن يظهر حجة لا يقدر عليها إلا بالمعونة بعلم غيره وفعله بل هو جاهل عاجز فثبت أنها كلها ظهرت بما خلقها على يدي من شاء كيف شاء على ما شاء جل ثناؤه


وأيضا أن القياس مما لا يخلو من أن يكون مستعملا فيما نحن فيه أو لا فإن كان لا يستعمل بطل مذهب الخصوم في معرفة الصانع لارتفاع الحواس عنه فيجب معرفته بذلك وهو على الإستدلال بالشاهد بم تجب جميع المعاني التي هي للعالم بأعراضه موجودة في أفعال الخلق فلئن لم يجب القول بخلقها لم يجز معرفة خلق البتة إلا بالسمع فيجب به استعمال العموم بقوله خالق كل شيء إذ لا سبيل إلى وجود خلق شيء باسم الخاصية له أو يلزم القول بالقياس من الوجه الذي ذكر ثم لم يصر العبد بفعله خالقا ثبت أنه بغيره مع ما إذ كان سبيل معرفة الفاعل إنما هو بأثار الفعل ثم كان الإيمان من أحسن الأفعال في العقول وأنور الأشياء وأتمها وأجلها قدرا وأبينها لمرضاته فلو قلنا إن الله غير خالق له دخل علينا أمران في ذلك أحدهما تفضيل من يطيع الله بالإيمان وغيره على الله بما خلق من الأقذار والأنتان والخبائث والقبائح من الجواهر مع ما كان ما حسن من الجواهر لا يبلغ قدر الذي ذكر من العبادات في الحسن والخير وإذا كان كذلك ومعلوم تفاضل الفاضلين بتفاضل أفعالهم أوجب ذلك فضل العبد على الله في الفعل والخلق وهذا بالمعتزلة أولى لأنهم زعموا أن فعل الكفر قبيح شر من جميع الوجوه وليس كذلك أمر القردة والخنازير فمثله فعل الإيمان من جميع جواهر الحسان ولا قوة إلا بالله






----------------------------------- صفحة 235


والثاني أن ثوابه إذ حسنه حسى وحسن الإيمان عقلي وما حسن في الحس دون الذي يحسن في العقل إذ قد يجوز إنقلاب مثله على ما مر بيانه ولا يجوز انقلاب الآخر وإذا كان كذلك فيقتصر الجزاء على قدر المجرى والله وعد جزاء الحسنة بعشرة أمثالها ثبت أن خلق فعل الإيمان حسنا لله ولا قوة إلا بالله


وبعد فإن الله تعالى ذم الذين قالوا وتحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا ثم ألزم عباده الشكر له على الإيمان والحمد لله على الأنعام لم يجز أن يكون غير خالق لذلك فيستأدى الحمد على ما لم يفعله والشكر على ما لم يسد إلى أحد به ولا قوة إلا بالله


وأيضا إن معنى فعل الله هو الإبداع والإخراج من العدم إلى الوجود وصيرت المعتزلة ذلك معنى فعل العبد ثم جعلت للعبد قدرة على الكسب ولم تجعل لله فصار العبد بذلك أعظم في القدرة إذ هي تقع على مختلف الأمر من الله إذ قدرته ترجع إلى أحد الوجهين ومما يبين أن كل شيء فعله نوع جعلوه طباعا ومن كان فعلين جعلوه أخيارا عن قدرة فيجب في الأول كذلك وذلك هو الحق عند المعتزلة لأنهم يجعلون للعبد قدرة على منع الرب عن فعله فيما ينفى عنه الحيرة ولا يجعلون مثله لله إلا أن يذهب عنه قدرة العبد وإذا ثبت أن في تقي خلق الأفعال تحقيق ذلك وذلك مما يأباه العقل والسمع جميعا ثبت أن الله خالق الأفعال كلها ولا قوة إلا بالله


ثم الأصل أن مذهب الثنوية والمجوس في صرف خلق العالم إلى إثنين وأن يوافقوا أهل التوحيد على أن الإله الحكيم الحق الذي لم يجز ولا يجوز واحد عليم قدير فمن أربى عليهم حتى جعل خلق العالم لمن لا يحصى عددهم وأبطلوا






----------------------------------- صفحة 236


أن يكون للإله الذي قال الخلق بألوهيته قدرة خلق أكثر العالم فهم أحق بالذم ممن نزهوه عن الشرور والقبائح ولا قوة إلا بالله


ومما يقولون في فعل العباد مما فيه قبح الإضافة إلى الله تعالى في خلق ذلك من أن فيها فواحش ومناكير ونحو ذلك فيه مثل ذلك للثنوية والمجوس في الجواهر أن فيها قبائح وخبائث وأقذار وأنتانا ومع ما إضافة تلك الأشياء إلى الله فليست هي عند التفسير بأن الله تعالى خلقها قبائح وفواحش من مرتكبيها مخالفة للمحاسن والمصالح من أفعالهم بأقبح ممن يقولوا هو رب الأقذار وإله الخزى والنكال وملك الشياطين والفجار ثم لم يمنع القول بتحقيق الربوبية له على كل شيء والإلهية وإن كان على التفسير في الإضافة من الوجه الذي بينا قبيح سمج فمثله جميع ما عليه وصف أفعال الخلق ولا قوة إلا بالله


ثم نذكر ما تعلق به هذه الفرقة التي ظنت أنهم فرسان الكلام وأنهم المخصوصون في العلم به من بين الأنام ليعلموا بذلك جرأتهم في الدعوى وبعدهم عند التحصيل عن إحتمال اسم عوام أهله فضلا عن مجاوزة أخطاء حذاقهم ونظهر إن شاء الله تعالى لمن تأمل ما ذكرت عدولهم عما توجبه حقيقة النظر ونبين ما استتروا به من الآيات ليعلم أنهم لو دققوا على طرف منها لنالوا خير الدارين فضلا من أن يظفروا بحقيقتها ولا قوة إلا بالله فاحتج من يأتى القول به في خلق الأفعال أول شيء أنهم أمروا بها ونهوا عنها وذكروا الآيات في الأمر بها والنهي ولو جعلناها خلقا له لكان يصير كأنه أمر / نفسه ونهى عن خلق ذلك


قال الفقيه رحمه الله فيقال لمن احتج به أتقول أمر العبد بخلق الإيمان ونحوه ونهى عن خلق الكفر ونحوه فإن قال بلى صرح بأن الله تعالى أمر






----------------------------------- صفحة 237


الناس أن يكونوا خالقين وقد أبى المسلمون أن يكون غيره خالقا ولم يختلف المسلمون في جواز عبادة الخالق مطلقا وأن الخالق هو الرب وهو الإله فيجب بهذا جعل كل عبد كذلك وذلك مما أباه الجميع وإن قال لا قيل فإذ لم يوجب الأمر بالفعل والنهى عنه أمرا بالخلق ونهيا عنه لم قلت إنه لو كان الله خالق ذلك يوجب الأمر له والنهى عنه ولم يثبت من الوجه الذي فيه الأمر والنهى أمرا بالخلق وغيره


ثم يقال له حدثنا عن الإيمان والكفر هل يخلوان من أن يكونا شيئين عرضين وحركتين دليلين على حدث الفاعل وحجتين على حكمة الرجل وسفهه ومظهري علمه وجهله لا بد من بلى لما فيهما هذه الوجوه كلها فيقال هل الأمر والنهى بالفعل موجبا الأمر والنهى بهذه الوجوه التي في فعله ذلك فإن قال نعم أحال لما في كفره دليل سفهه وهو من حيث الدلالة صدق ومحال النهى عنه من ذلك الوجه ولأن كثيرا منهم لا يعرفون تلك الصفات له لم يجز الأمر لذلك من ذلك الوجه ولا النهى فلا بد من المساعدة لهم في ذلك فيقال له ما منع أن يكون ذلك خلق وليس في ذلك أمر لنفسه بالخلق ولا نهى ثم استقام في العقل الجهات التي بينا مع ما أوصاف الإضافات أن ذا أصغر من ذا وأكبر وأخير وأشر وأقبح وأحسن من ذلك وأعظم في الحجة وأوضع وأضعف وأقوى وأنه حدث وموجود وغير ذلك مما يكثر وصفه ولا يوصف شيء من ذلك بالشر والخير من جميع الوجوه ولا بالطاعة والمعصية فجائز خلقها ولا يوصف من ذلك الوجه بطاعة ولا معصية ولا خير ولا شر ولا أمر ولا نهى ولا شيء مما له الفعل والله الموفق


وعلى مثل ذلك أمر الوعيد والوعد إنا حققنا الفعل فلزم فيه الأمر والنهى فمثله يلزم الثواب والعقاب ثم الأصل في هذا أن يكون القول بخلق الأفعال إما أن ينكر للإحالة أو لما لا دلالة على القول بذلك أو لما في القول به في إيجاب الضرورة وإرتفاع الإمكان ويقبح في العقول الأمر والنهى والوعد والوعيد فيما كان هذا سبيله فمن أبى القول به للأحالة كلف دليله على ذلك ولن يجد إلا على






----------------------------------- صفحة 238


التقدير بفعل العباد أن لا يكون فعل واحد في الحقيقة لا اثنين أو يظن أن القول يوجب الشركة فجواب الحرف الأول في تقسيم القول لما اختلف فيه فعندنا أن فعل الله تعالى في الحقيقة غير فعل العبد وفعل العبد مفعوله لا فعله ووجود مثله في الشاهد غير عسير نحو مد اثنين شيئا ينقطع وإزالة اثنين شيئا عن مكان وقبلهما واحد يصير به شركاء فيها إنه مفعولهما في الحقيقة وكذلك المزال والمنقطع وكذلك الحمل فيه جزء لا يتجزى حمله اثنان قواهما واحد أن حقيقة فعلهما وإن اختلف فالمفعول واحد لهما فمثله الذي نحن فيه ولا قوة إلا بالله


على أنه لا يجوز أن يملك أحد بقوته آخر على فعله ولا خلق فعل نفسه ولا أحد يقدر أن يفعل فعلا في غير حيزه وغير حال في نفسه فمن تقدير فعل الله بالموجود من فعل الخلق جهل وشبهه من جهة القدرة وقيام الفعل بالخلق جل الله عن ذلك وتعالى


والقول الآخر قول من يقول إن خلق الشيء هو ذلك فقد بينا اختلاف الجهات في ذلك فجائز القول بالخلق من جهة هي غير جهة القول بالكفر على ما بينا من الشيئية وقد زعم المعتزلة في حركة المفلوج أنها لله خلقا وللعبد حركة وهي شيء لنفسها إذ الشيئية عندهم في المعدوم وهي دلالة حدث الجسم وفي الكفر حجة الله على العبد في التعذيب ودلالة سفهه في التحقيق على أنا بينا أنه يحيل من حيث لا يكون مثل ذلك في الخلق وقد أوضحنا الفصل بين الأمرين وأن من قاس أحد الوجهين بالآخر فهو مغفل على أن المعتزلة إذ لا يجعلون من الله إلى الخلق سوى أنه أوجدهم بعد أن لم يكونوا ولا ذلك معنى فعل العباد إنما هو معالجات وعناء وجهد والموجود فيما نحن فيه مع المعنى الذي من العباد واقعان جميعا فلا وجه لإنكاره ثم يقال فيما لا يكون مثله في العباد ما يوجب إحالته أرأيت لو عارضك إخوانك فقالوا تجعل للذي ذكرته أصلا ثم كون الجواهر بالخلق محال ثبت قدمها به وكون فعل لا ينفع فاعله ولا يدفع عنه الضرر ليس بحكمة فدل أن الذي صنع العالم انتفع به وقال






----------------------------------- صفحة 239


كون شيء لا من شيء خارج عن إحتمال الخلق فمثله أمر الواحد الذي به كان العالم وإذا كان دعوى الإحالة توجب قول الزنادقة والدهرية في قدم العالم أظهر ذلك صدق من قال الإعتزال طرف من الزندقة ولا قوة إلا بالله


وأما الدلالة فقد أوضحنا لمن عقل لو أنصف مع ما في جملة ما أدى المسلمون أن الله خالق وما سواه مخلوق وأنه قادر على كل شيء وهو رب كل شيء وألهه من غير اضطراب في ذلك أو ميل قلب إلى خصوص في ذلك دليل كاف وسنذكر أيضا بعض ما في ذلك وأما القول بإيجاب الضرورة فإنه محال فاسد لإنه حسي أن يعلم كل أنه مختار ولو جاز القول مما يعلمه كل على جهة قلبه لجاز ذلك في جميع العالم ولا قوة إلا بالله فإن قلت إذ لم توجب الضرورة دل أنه لا تدبير فيه لغيرك قيل قد فرغنا عن دلالة ذلك مع ما يجوز أن يقال هو من طريق الخلق اضطرار ولا صنع للعبد من ذلك الوجه إذ لا يسمى به ومن طريق الكسب اختيار فعلى ذلك تقسيم الأمرين وقد بينا ألا ترى أن قول الكفر كذب وهو من حيث الدلالة على سفه القائل صدق فمثله يكون اختيارا من حيث الكسب ومن حيث الخلق لا وجهة الخلق لا تدفع عنه الإختيار بما ثبت فسواء لو كان خلق ذلك الفعل أو خلق السماء والأرض إذ ليس في واحد صرف فعل الخلق عن الخلق ولا إزالة الإختيار عنهم فمثله خلق الأفعال ولاقوة إلا بالله على أن تسمية الخلق لا يوجب وصف الإضطرار إذ القدرة للفعل مخلوقة وهي سبب جعله مختارا لا مضطرا ولا قوة إلا بالله


وقد قال الكعبي إن كل مختار في فعله مضطرا في تألمه به وتأذيه به فألزمه الأمرين في الشيء الواحد وكذلك زعم أن قد يجوز أن يعرف الفعل من لا يعرفه كفرا وإيمانا أو شيئا عرضا وحركة وسكونا وهو ذلك بعينه ولم يجز في الجملة أن يقال الذي يجهله هو الذي يعلمه والذي هو مضطرا فيه






----------------------------------- صفحة 240


هو الذي هو مختار فيه حتى يذكر معه الجهات فمثله في الخلق والتعذيب وغير ذلك ولا قوة إلا بالله


واحتج بالوعد والوعيد بذلك وإذ ثبت الأمر والنهى وبان إغفاله في تقديره وظهر تمويهه فكذلك شأن الوعد والوعيد ولا قوة إلا بالله


ثم زعم الكعبي أنه محال أن يكون ذلك في الحقيقة فعلا لي خلقا لله


قال الشيخ أبو منصور رحمه الله وهذا لجهله للمحال وقد بينا بعض ذلك ثم زعم أن ذا يوجب الشركة المعقولة إذ محال إنفراد كل بجزء وإن وإن كان لا يتجزى ثم عارض نفسه بقول الخصم أن ذلك يوجب فيما كانت الجهة واحدة فأما فيما اختلفت فلا يعارض بملك ورث بعضه واشترى بعضه ثم عورض بملك لي ولعبد لي فأطنب في جواب ذلك


ونحن نقول وبالله التوفيق من تأمل الذي ذكر وله أدنى فهم ولا يكابر عقله علم سفهه وإن شاء استدل بالذي قدم من الميراث ليعلم جهله بالشركة الحاضرة فيكون ذلك عذرا في الجهل بما كان طريقه الإستدلال إذ خفى عليه حق العيان لكن هذا سؤال لم يزل المعتزلة تظن أن ذلك يوجب ذلك وإن كانوا لا يستحقون الجواب في ذلك فإنا ننزع به عليهم فإنهم قصدوا بالقول قول من يقول خلق الشيء هو ذلك ولا يوجد شيء واحد لاثنين في الشاهد لكل كله ولهذا الوجه أنكر أن يكون فعل واحد لاثنين فإذا لم يوجد له مثال يعلم أنه يوجب الإشتراك أو لا فقولهم يوجب ظن وخيال ثم الأصل أن الفعل نفسه يجعلونه لله ملكا وكذلك للعبد وكذلك كل ملك لأحد فهو لله ملك وللعبد كذلك ولم يوجب ذلك شركا بينهما في ملك الأفعال والأعيان فكيف فيما نحن فيه شركاء ثم يضاف إلى الله الإطعام والكسوة والرزق وذلك بعينه يضاف إلى الخلق ولا يوجب شركا فمثله الذي نحن فيه مع ما بينا جهات الفعل بم لم يقل الفعل نفسه من تلك الجهات مشترك إذ كل جهة تحيط بالكل






----------------------------------- صفحة 241


وكذلك من يعلم الفعل من وجهه ويجهله من وجه لم نقل أشرك جهله علمه فما بالهم يزعمون أن ذا شركة معقولة بل لو كان ثمة عقل لكان يكون ذا كذبا معقولا ولا قوة إلا بالله


وكل هذه الوجوه على قول من يقول بخلق الشيء غيره يعلم أيضا إفساد دعوى المعتزلة ثم يقال له قد يقال في الشرك في قرية على تفرق الأملاك وفي التجارة على تفرق المعاملات فقل بين الله وبين الخلق شرك في العالم ثم في الأفعال بما كان منه أمر وإقدار ولا قوة إلا بالله


واحتجاجهم بالتسمية من المطيع والخاضع ونحو ذلك وقد بينا اختلاف الجهة على القولين والفعل على الآخر وإنما سمى كل بالذي له على ما بينا من الجهات على أنهم جعلوه خالقا للحركات ولفساد الأشياء غير مسمى به لأنه خلق فمثله الأفعال ولا قوة إلا بالله


ثم عارض فعلا واحدا لفاعلين بقول واحد وخبر واحد


قال الشيخ رحمه الله يجوزان في الشاهد قد يقال هذا قول جماعة وخبر المتواتر وهو قول فلان وفلان وخبر فلان وفلان فلئن كان ذا أصله فيجب به جواز الآخر إذ به يلزم الآخر ولو كان ما يجوز في الشاهد هو دليل الغائب ليجب التفريق بين الفعل والقول في الغائب كما وجب في الشاهد وهذا يبين وهمه ثم جائز القول بأن الله خالق كل شيء وهو خالق وما سواه مخلوق ولا يجوز أن يقال هو قائل كل قول ولا مخبر كل خبر ولا هو مخبر وقائل وما سواه خبر وقول فدل أن أحدهما ليس بنظير الآخر مع ما يجوز عندهم فعل كل واحد بقدرة هي فعل لله تعالى ثم لم يجز في قول كل أحد وخبره أنه بقدرة هو قول لله تعالى وخبر ويقال له إذا لم يسم هو متحركا بما حرك غيره فقل أيضا إنه لا يسمى خالقا بما خلق حركة غيره أو إذ فصل بينهما بالعموم والخصوص أو بما شئت فافصل بينهما على أن المعنى الذي به سمى خالقا يوجد في فعل كل شيء والمعنى الذي به سمى قائلا لم يوجد لذلك اختلفا والله أعلم






----------------------------------- صفحة 242


وأيضا أن القول الخالق يخرج مخرج التعظيم فكل ما هو أعم فهو أبلغ وبقائل لا لذلك اختلفا


فنذكر معاني إنكاره أيضا ثم الأصل أن إنكار المعتزلة هذا بما لم يجدوا فعل أحد يخرجه غيره من العدم إلى الوجود وهو الأصل الذي له أنكر من أنكر خلق الأعيان بإمتناعه في الشاهد عن الوجود في الحقيقة بفعل أحد بل لا يوجد فيه غير جمع وتفريق فأبوا أن يكون خلق أعيان الأشياء بذلك وبمثله أنكرت المعتزلة خلق الأفعال فلذلك نسبهم الأوائل إلى ذلك مع ما قولهم في التحقيق ذلك لأنهم حققوا الأشياء في القدم وجعلوا من الله إيجادها لا إحداث شيئيتها وكانت الشيئية لا به فيكون العالم عندهم في التحقيق حدثا عن أشياء لا أنه أحدث عن غير شيء ثم ذكروا في الكفر والإيمان أنهما شيئان كان من الفاعل إيجادهما لا جعلهما شيئين فصارا من حيث الشيئية ليس للعبد ثم لا ينكر ذلك فما ينكر أن يكون من حيث الشيئية خلقا ولا يدفع ذلك ولم يوجب بذلك أنه عذب لا لشيء ولا أنه عذب للشيئية ولا أحيل التعذيب إذ سقطت عنه الشيئية ولا أوجب الشرك بين الفاعل والشيئية في العقل و في الوجود ولا أطلق القول بأنه لإثنين إذ هو بكليته في أنه شيء ليس له وفي أنه إيمان وكفر له وكذا هذا التقرير في حركة المفلوج ولا قوة إلا بالله


ثم قال الكعبي ما جعل فاعل المعصية أحق بالذنب من خالقها


قيل له وما جعل جهة المعصية أحق بالذم من جهة الشيئية والحركة والحدثية والعرضية وأنه خلاف للعبد ولله وغير لهما وأنه حجة الله ودليل سفه الكافر فإن الذم لشيء من ذلك لزمه الذم بكل مسمى به فيجب الذم على فعل الإيمان وكل حسن وإن لم يجب ثبت لذلك جهات يصرف إلى كل ما يليق به ثم الذي من الله تعالى حكمة من حيث جعله في الحقيقة قبيحا وسفها وجورا






----------------------------------- صفحة 243


ومذموما وهو من هذا الوجه حق وحكمة والفعل من حيث العبد سفه وجور ومن ذلك الوجه قبيح ومعصية ألا ترى أن من عرف فعل الكافر على ما هو عنده كان جاهلا ومن أخبر به كان كاذبا ومن عرفه على ما عليه حقيقته كان عالما حكيما ولو أخبر به كان صادقا فعلى ذلك خلق الله ذلك وجعله على ما هو عليه وفعل العبد لا وعلى قول من يجعل خلق الشيء غيره لا معنى له لأن فعل الله في الحقيقة ليس بكفر ولا جور ولا سفه ولا الذي كان من العبد من خضوع وذلة وطاعة ومعصية ولا قوة إلا بالله


ثم يعارض تسمية غير الذي خلق الموت وأحوال الخلق أحق من الذي خلق وهو بالجملة مسمى أنه خالق ذلك فمهما قال في ذلك فهو جواب له في الأول والأصل أنه ثبت للعبد فعل في الحقيقة وأنه له محتار وأنه آثر الأشياء عنده وأحبها وأن خلق ذلك لم يدفعه إليه ولم يحمله ولم يضطره إليه فوجود ذلك ووجود علمه به وخبره عنه وإثباته في اللوح المحفوظ وإيجاب معاداته لوقت فعله وتسميته بما سمى إذ لم يضطره إلى فعله ولا حمله عليه حسن معه الأمر والنهى والتعذيب والإثابة ومن أنكر بهذا خلقه فتعلقه بهذا النوع خيال وحقه أن ينظر في الوجه الذي به يعرف خلق الأشياء فإن أمكن تحقيقه فالإنكار بهذا النوع إنما هو جهل بالحكمة وعلى ذلك كان أول ما جبل عليه فيعلم إن خضع للمكرم به إن شاء الله وإن لم يمكن تسقط المسألة ويفضل الذي عارض به كله ولا قوة إلا بالله


ثم ذكر أسئلة من ذلك قوله خالق كل شيء وأعمال العباد أشياء فزعم أن ذا امتداح وليس ذلك في شتم نفسه ولا في الكفر به ولا في فعل الأنبياء والثاني أنه عاب الكفر وعذب عليه ولا يجوز ذلك على ما يفعله وقال خصصنا أيضا بما تلونا من الآيات ودليل ما لم يدخل في ذلك وهو شيء مع وجود آيات ذلك مخرجها وهن خاصة






----------------------------------- صفحة 244


وبعد فإن القبائح لم تذكر في هذا على رسول الله وإنما ذكر في الجواهر المورثة وقال بل قول المجوس إن الله أراد شيئا مما هي محرمة في الإسلام ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم القدرية مجوس هذه الأمة


قال الشيخ رحمه الله نقول وبالله التوفيق إذ ثبت أن الآية بحق الإمتداح كان في خروج شيء من الكائنات امتداح بغير الذي له أو بما يشاركه فيه كل ضعيف لأنه لو أراد كلية الاشياء ولم يكن خلقها فامتدح بغير الذي له وذلك كذب وفي إخراج البعض مساواة غيره في أنه صانع كل شيء يريد ما لا صنع لغيره فيه وذلك فاسد مع ما لو جاز ذلك على الصرف إلى غير الذي لغير فعل ليجوز أن يقال ليس بخالق شيء على أنه ليس بخالق ما هو فعل لغيره فإذا كان وصفا له بالذم والعبودة ثبت أن الأول وصف له بالمدح والربوبية وفي التخصيص إيجاب الأول وأيضا أنه قال هو رب كل شيء وإله كل شيء وهو على كل شيء وكيل ولم يجز إخراج شيء عن ذلك وإن كان لا يليق القول به على التخصيص لقبح نحو أن يقال رب الخبائب وإله القبائح ووكيل الشياطين وإبليس وقائم على كل نتن وقذر فمثله الأول وإن كان يقبح على التخصيص في أشياء من حيث التسمية وبهذا الوجه الذي قال شهدت المجوس والزنادقة أن الله تعالى لم يخلق مؤذيا ولا فسادا ولا أمات وليا ولا قوى عدوا و لا أبقى الشياطين ولا أعطى من يعلم أنه يشتمه ويصد عن طاعته أحدا لقوة ذكرنا ذلك ليعلموا أن أصل الإعتزال مقدر عن ذلك إذ إليه فزعهم عند مخالفتهم المفهوم من القرآن ومما جرى عليه قول الإسلام ولذلك قال رسول الله عليه السلام القدرية مجوس هذه الأمة ولو جاز خروج شيء من أن يكون هو له خالقا لجاز مثله عن الملك والربوبية ونحو ذلك من أسماء الإمتداح فيبطل أن يكون له مدح بشيء لما في كل شيء له شركاء في حقيقة معناه ولا قوة إلا بالله






----------------------------------- صفحة 245


وقوله لم يدخل هو فيه عجيب متى يذكر هو في اسم الأشياء بالإطلاق ولو جاز ذا لجاز أن يذكر في ذكر العلماء وذكر الفاعلين وذكر الوكلاء والأرباب والملوك وذلك كلام من لا يعقل ما يقول


وبعد فلو كان يذكر وإن كان ممتنعا ذلك في العقل الشيء لم يجز خروج غيره بخروجه لوجوه أحدها قوله وهو على كل شيء وكيل وهو رب كل شيء وإله كل شيء لم يجز خروج شيء من ذلك وتخصيصه في الخلق ليبطل معرفة المراد من حيث لم يدخل هو فيه والثاني أنه امتداح وفي دخوله سقوطه إذ هو إمتداح بما صير كل شيء تحت القدرة وحقق في كل العبودة وتحقيق ذلك فيه إبطال ذلك والله الموفق والثالث أن القول المعروف بالفعل إلى آخر والربوبية ونحو ذلك راجع إلى ! وإذا كان كذلك فكأنه قال سواي ولم يكن بمثله التخصيص فمثله الأول ولا قوة إلا بالله وما ذكر من الآيات فقد بينا فساد الخصوص في هذا ولا قوة إلا بالله وما ذكر من الآيات فقد بينا وهمه فيها وحصوله على الدعوى كهو في هذا وما ذكر من أنه شتم نفسه وكفر به ونحو هذا فهو الذي لم يزل يعود نفسه من الذب على خصومه وليس أحد منهم يقول ذلك بل لو خلق شتم نفسه يكون مشتوما في الحقيقة مذموما بل خلق فعل الشتم من الكافر كذبا وجورا وسفها وفي ذلك دفع كونه مشتوما مذموما في الحقيقة ألا ترى أن من عرف فعل الشتم لذلك كان يكون عالما حكيما ومن أخبره عنه كذلك يكون صادقا ومن عرفه على ما عليه عند الكافر كان جاهلا سفيها وبالخبر به كذلك يكون كاذبا فمثله الذي ذكر ولا قوة إلا بالله


وجملته أن فعله من حيث كان عرضا أو شيئا أو دليلا على سفهه أو حركة ونحو ذلك لا يوصف بشتم ولا قبح فمثله من وجه خلقه إياه ولا قوة إلا بالله






----------------------------------- صفحة 246


وما قال من قبل الأنبياء فهو فيما أنابهم موجود وفيما أبقى أعداءهم قائم ثم لم يخرج ذلك من الحكمة بل استدل إخوانه أن الذي يفعل هذا غير حكيم فما الذي يجيبهم فهو في الأول جواب وقوله لم يكن في عهد رسول الله كذا فكأنه قال لا يجوز ورود البيان في الشيء قبل وقوعه وأن البيان لا يرد فيما لم يسبق فيه التنازع وذلك يدفع جميع آيات القرآن وما عليه الأمر المعتاد


وبعد فإن الآية لو نزلت فيهم لنزلت في دمهم ووصف فيما نفوا عن الله من الوجه الذي نفى أهل الإعتزال فذلك لازم لهم مع أن الآية لا يعمل بها المعتزلة من ذلك الوجه الذي في أصل دينهم جواز إضافة حقيقة ذلك إلى الله فكيف يجتمع على منكر مثله ممن يزعم أن ذلك في العقل مدفوع وطريقة السمع ومحال الإحتجاج بالسمع على إمكانه في العقل ثبت أن حقيقة ذلك في أفعال الخلق وبه يكون امتداح في الحقيقة من وجوه أحدها في جعل كل شيء بحيث القدرة تحت قدرة الله ليظهر حاجة الخلق جملة إلى الله تعالى في كون كل شيء لهم به والثاني أن الوصف بالقدرة على ما لا فعل لغيره ليس بعجيب بل يستحقه كل ضعيف مهان ثبت أن الإمتداح يكون من هذا الوجه والثالث فيه بيان سفه من يفهم أن خلق كل شيء على ما عليه يوجب وصف الرب أو تحقيق الفعل من الوجه الذي يكون من العباد منه والرابع ليعلم أن الله يتعالى عن أن يلحقه ذم في فعل أو مدح من حيث ذلك المفعول بحال وذلك ببعض الإعتزال إذ جعلوا له هذا الإمتداح بخلقه وما يكون كذلك فهو شرف الدوام وخوف الإنقطاع جل ربنا عن ذلك


وما ذكر في المجوس فهم قالوا ذلك لإنكار خلق الله الشرور ونسبتهم كل خير إلى الله خلقا وإرادة وذلك رأى المعتزلة في تخصيص هذه الآية ليخرجوا






----------------------------------- صفحة 247


بذلك الشرور عن خلقه فهذا وجه تشبيه رسول الله إياهم بالمجوس ولا قوة إلا بالله


ثم كان قول المجوس خيرا من قول القدرية عند التحصيل لأنهم نزهوا الله عز وجل عن قول الشر وما يذم الفاعل عليه وحققوا له فعل الخير وما يحمد عليه ثم القدرية بالوجه الذي أنكر المجوس صرفوا الآية عن المفهوم تسترا وأبطلوا عنه أيضا خلق كل شيء يحمد عليه من الخيرات ونسأل الله العصمة


ثم من حيدهم أن سئل عن حكم الآية فأعرض عن ذلك واشتغل في الإجابة عن نوع الأفعال وحقيقته أن يقول به في الجملة وعند التفسير فيما يقبح لا يقول كما يقول الله في كل مكان فإذا سئل عنه في الحشوش والأمكنة القذرة أبى ذلك ثم هو رب كل شيء وإله كل شيء ثم عند التفسير فيما يقبح يأبى إلا أنه لما يصير بحيث ذلك الإطلاق يدفع أصله فمثله ما نحن فيه والله الموفق


ثم احتج لخصمه بقوله والله خلقكم وما تعملون قال يريد به آلهتهم كقوله أتعبدون ما تنحتون وكقوله تلقف ما يأفكون


قال الشيخ رحمه الله نقول وبالله التوفيق ظاهر الآية ذكر خلق العمل فلم يجز صرف ذلك إلى غيره إلا بالبيان مع ما في جميع ما ذكر نحتهم داخل وكذلك إفكهم ما ذكر وبه عوبوا لا بذلك الشيء حيث فعلوا ثم عبدوا فكأنهم عبدوا فعلهم فمثله ما نحن فيه أيضا أنه لو صرح بالآية آلهتهم بعد أن ذكر معمولا فإذا لم يكن الله خلق العمل لم يجز له القول بخلقه معمولا إذ






----------------------------------- صفحة 248


ليس هو كذلك مخلوقا فثبت أن العمل مخلوق ليعبدوا مخلوقا معمولا كما ذكر ولا قوة إلا بالله


ثم من عظم سفههم أن احتجوا بقوله تعالى ما جعل الله من بحيرة وتلك أسماء تلك الأعيان في نفى خلق الأعمال بقوله ماجعل كذا وهن أسماء تلك الأعيان لا الأفعال وهن مخلوقات لا شك ثم يرد فما ذكر العمل بالخلق إلى حقيقة الأعيان ليدفع خلق الأفعال فهذا يبين أن رأيهم أن لا يقبلوا عن الله خبره ولا يرجو في أمر إلى تدبيره والله أسأل العصمة عن ذلك


قال واحتجوا أيضا بقوله أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه إنه على قولكم تشبيه فعلكم خلقه فقال معاذ الله بل فعلنا عبث وفساد وخضوع وذله وفعله حكمة وصواب وتفضل وتطول قال وليس من حيث الحدث والحدث والخروج من العدم تشابه لإختلاف الجهة كما لم يكن في عالم وحي وقادر لإختلاف المعنى


قال وبعد فإن فعلنا يخالف فعل الله لعينه ثم الإيجاد والحدث معنى يوجب التشابه وإنما يجوز ذلك في الأعيان بما يحل فيها مع ما يعارض بقول جهم حيث قال في تحقيق الفعل تشابه ثم قال العجب من إلزامهم التسمية بالإحداث ولم يلزموا أنفسهم فيما فعلوا فعل ربهم في الحقيقة


قال الفقيه رحمه الله نقول وبالله التوفيق أثبت الله تعالى التشابه من حيث الفعل حيث قال خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم نفى أن يكون من أحد خلق كخلقه وأوجب لهم العذر في عبادتهم ما كانوا يعبدون لو كان منهم






----------------------------------- صفحة 249


خلق كخلقه ثم لا سبيل إلى معاينة كيفية الإنشاء وإنما يعلم بالمنشأ إنه في حق الخروج من العدم إلى الوجود والحدث من لا أصل أو هو في حق الكسب والتحرك والسكون فمن حقق للعبد من الفعل من الوجه الذي يحقق من الله فقد وجد خلق كخلقه إذ لا وجه لفعله غير ذلك ولو كان بالذي يذكره دفع لكان لا وجه للإحتجاج لأنهم لو أثبتوا يقولون ليس ذلك كذلك لأن الذي منكم كان بفلاح وهذا النوع من الخيال ثم إتباع ذلك الحرف ودفع إمكان حقيقته بقوله خالق كل شيء ليعلم كل أنه أي شيء أضافه إلى أحد أنه خلقه لم يقدروا عليه لوجود ضرورات له فيه توجب تدبير غيره في ذلك ولا قوة إلا بالله وقد قال الله عز وجل إذا لذهب كل إله بما خلق وإذا جعلت لكل عند المعنى الذي به وصف الله تعالى بالخلق ويذهب كل بالذي منه فكان في ذلك تثبيت آلهة ذهب كل بما خلق ولا قوة إلا بالله


مع ما ليس من الله في الخلق سوى الوجود وذلك بعينه قد يوجد فأي معنى بقى مما به تمام التشابه ولا قوة إلا بالله


ثم من قول المسلمين في نفى تشبيه الخلق عن الله لأنه من الوجه الذي يقع فيه تشابه يوجب حدثه بحدث الآخر فلو لم يقع من حيث الحدث تشابه لم يكن ينفى من حيث لزوم الحدث مع ما كانت الحوادث في الأجسام هي أدلة حدثها وحدث الأجسام هو دلالة المحدث الصانع وذلك كله آية التشابه فقوله لا يقع بذا تشابه لا معنى له إذا فإن خلق الشيء عندهم هو الخلق ولا شك في الخلق ذلة وخضوع وحاجة وعيوب وشيطان وشر وفتنة وبلاء وفساد ونتن وخبث وقذر كل هذا أوصاف فعل الله تعالى عند المعتزلة بقولهم خلق






----------------------------------- صفحة 250


الشيء هو ذلك الشيء فكيف أنكر هذه الأحوال عن خلقه وقوله هو تطول وتفضل فإذا إبليس هو خلقه عندهم وفعله في الحقيقة تطول وتفضل وهو خير وحسن وهو حكمة وصواب وهذا كله قول وحش لم يجز إطلاق ذلك إلا بصلات توضح المراد فمثله الذي ذكر وليس من هذا الوجه دفع التشابه ولا قوة إلا بالله


ثم العجب ممن يعجب منه وفي ذلك أنه واحد والتشابه والإختلاف أبدا تقع في الأغيار وجملة ذلك أنا نجد فعل العبد من الوجه الذي عليه أمر العالم لله فثبت أن خالق العالم كله واحد وإنما يجعل للعبد لا من ذلك الوجه والله الموفق


ثم عارض قول خصمه أن من عاين أعلى القصبتين تتحركان لا يفصل بين التي يحركها الله والتي يحركها آخر ثبت أنها تشابها فزعم أنه يجب الفصل بينهما بالبحث عن السبب


قال الشيخ رحمه الله يقال له لعل ملكا تحرك أو شيطانا أو دابة تحت الأرض فأي سبب له يصل به إلى ما لله حقيقة دون ما لأحد من الخلق لا يعلمه ليعلم أن الله عندهم لا يقدر أن يذهب بما خلق وليعلم أنه لشدة التشابه انقطع سبيل العلم به من حيث نفسه على أن السبب ليس يفصل عنده فيما كان من الله إذ ليس غير الذي يعاينه فأنى يعرف ذلك ولا قوة إلا بالله


قال وهذا كمستدل بالشاهد ربما يعجز عن الفصل بين القديم والحديث بما لم ينظر من وجهه فمثله الأول


قال الفقيه رحمه الله وذلك عليه لوجهين أحدهما أن لا سبيل في الأول إلى السبب والعلم به في الحقيقة مع ما ليس من الله غير الذي نراه ليعلم به فلا معنى لهذا الثاني أن الذي عارض به لا يجوز أن يكون جهة واحدة يدل






----------------------------------- صفحة 251


على أن الحدث والقدم إنما هو في أنه لم ينظر إليه وأغفل عنه حيث لم ير موضع الدلالة وما نحن فيه ليس ثمة ما يفصل إن كان فهو في غيره ثبت أنهما بحث أنفسهما شبيهات ولا قوة إلا بالله


ثم عارض هل يعرف به المكتسب من غيره


قال الشيخ رحمه الله وهي المعارضة أن اشتبه المكتسب لغيره حتى لا يعرف حقيقة واحد منهما ثبت أنهما مخلوقان معا لذلك


وبعد فإنه ليس على معرفة المكتسب وإنما على معرفة ما لله لا عرفه في خلقه لا نفى عنه ما هو له ولا أثبت له ما ليس له فأكون كاذبا عليه وذلك كفر وعلى قول المعتزلة لا وجه لمعرفته فتحيل أبدا على الشك ولا يصل إليه وذلك هو المعنى الذي نفى الله أن يكون معه إله حققه أهل الإعتزال سفها بغير علم وذلك في وقوله تعالى إذا لذهب كل إله بما خلق والله الموفق فبلغ قوله إنه لا يعلم بنفس الحركة أنها مخلوقة فيجب هذا في كل عرض نحو الجمع والتفريق فيبطل أن يكون في شيء من ذلك دلالة خلقه ثم لا سبيل إلى معرفة حقيقة الأعيان بدونها فكأن الله لم يقم دليلا على خلقه بكون تلك بالله دون خلقه أبدا وذلك قول لم يتوهمه الشيطان لعل أحدا من أوليائه يبلغ بطاعته إياه هذا المبلغ نسأل الله العصمة عن ذلك وعلى قوله إن الشيء لا يدل على الله إنما يدل إذا علم سببه إسقاطه الدلالة عن الأجسام من أن يعرف بها الله سبحانه قال ومن عظيم ما أجمعوا عليه أن دليل خلق الجسم حدثه فكذلك كل محدث يدفع هذا وسأل الدليل وأيد ذلك بما يجوز أن يعرفه محدثا من لا يعرف خلقا






----------------------------------- صفحة 252


قال الفقيه رحمه الله نقول وبالله التوفيق أهل التوحيد إنما تكلموا في حدث العالم وثبات محدثه ولا أحد تكلف القول بخلق العالم وثبات خالقه فلولا أنهم رأوا بالأول كفاية عن الثاني وجعلوا ثبات الحدث دليلا مقنعا في الخلق لصنعوا مثله لأن لكل إليه حاجة وذلك ممتنع وقد احتج بخلق القرآن بالتبعص والتجزئة فمثله في كل الأعراض قائم فيلزم القول به ولا قوة إلا بالله ثم احتج لهم بخلق الشرور والأسقام وإن كانت ضارة لم لا قلت في الكفر


قال الفقيه وهذا سؤال لا يسأله أحد على الإبتداء إلا على المعارضة إذ لم يسم خالق هذه الأشياء بها وجب أن يسمى بخلقه أفعال الخلق بأسمائها وهذا نوع ما ليس لغيره فعل في الحقيقة وفي أفعال الشرور ذلك فأجاب بأن هذه الأشياء ليست بشرور في الحكمة بل هي رحمة بذكر التوبة وبزجر عن المعصية والكفر ليس بحكمة بوجه ألا ترى أنه لا يجوز خلقه لا عن أحد ويجوز في الأول


قال أبو منصور رحمه الله فالأول يقال له في خلق فعل الكفر قبيحا وهو بذكر من عاينه عظيم فعله فيفزع إلى الله بالعصمة عنه بم يذكره حدث الذي منه فيدعوه إلى التوحيد ثم يعرف به سفه من منه ذلك وفسقه وبه يعرف إسمه وعواقبه ثم يعرفه أنه لا يضر الصانع ولا قوة إلا بالله


وقوله لا يخلقه لا عن أحد كلام من لا يعقل ما يقول وإلا فهو اسم لفعل العبد فكيف يكون ولا عبد وهذا لمن يقول التحرك هو زوال الجسم وهو لايخلقه دونه فيجب خلقه منه حكمة وعلى ذلك جميع الأعراض وإماتة الخلق ولا قوة إلا بالله


ثم الأسقام لا يجوز أن يخلقها لا في أحد ولا أحد ثم لم يمنع تحقق الحكمة لها فمثله الذي ذكر والله الموفق


ثم عارض نفسه بأنه إذا قدرتم على إخراج الأعراض من العدم إلى الوجود لم لا جاز أن يقدروا على ذلك في الجسم






----------------------------------- صفحة 253


قال أبو منصور رحمه الله وليس هذا تقدير السؤال ولكن بما ليس معنى خلق الجسم إلا خروجه من العدم ووجوده بعد أن لم يكن وبه وصفتم أنفسكم في فعل الأعراض كيف لا جاز الوصف بخلق الجسم وليس ثمة غير ولا قوة إلا بالله


فأجاب بالفعل وذلك فاسد لأنأ لم نحقق لنا في فعلنا الوجه الذي هو وجه وجود الجسم وكونه ليلزمنا ذلك وهم قد حققوا فيلزمهم ولا قوة إلا بالله


ثم قال إذ ليس فعل زيد سوى فعل بقدرة وأنتم تفعلون بها كيف فعلتم فعل زيد


قيل لأن زيدا لا يقدرنا على فعله فلم يفعل والله قد أقدركم على المعنى الذي به كان الجسم فلزمكم ما قابلناكم به و لا قوة إلا بالله


قال واحتج بالكاتب والمصور إنه لو أراد أن يخرج الثاني على ما عليه الأول لم يمكنه دل أن الأول لم يخرج على ذلك به فزعم أولا أنه يجوز أن يكون كذلك ما ألقاه الله فيه تلك القدرة فإن قيل لم لا يأتى بمثله فأجاب بأنا وإن كنا نفعل بتلك القدرة نفعله بأسباب لا تجتمع بكليتها حتى لا يخرج منها شيء من نحو الذهن والحفظ وأنواع الأشغال قال ولو وجب بهذا محدث آخر ليجب به مصور آخر وعارض بالفعل إنه لم يدل العجز على أنا لم نفعل ولو كان العجز يدل على ما ذكروا كان الثاني إذا كان أحسن فدل أن الأول له ثم عارض أنه ما يمنعه فقال لأنا نفعل بآلة وقدرة وعلاج وفكر ولا مستوى هذه ولو استوت أمكننا ذلك فيقال له الوجوه التي تمنعك هي فعلك أو لا فإن قال لا أعظم القول أن علاجه وفكره ونحو ذلك الله وهو الذي أنكر خلق ذلك فقد أقر به وإن قال بلى قيل السؤال عن ذلك كله أن القدرية زعمت أن الله لو أبقاها وقد أبقاها للفعل وكل ذلك أفعال لها القدرة عليها فما بالها لم تستو وقد قصدت أن تستوي وكانت لك القدرة فهذا يبين أنه على غير تقديرك تخرج وما ذكر من المعنى هو الدليل الواضح






----------------------------------- صفحة 254


أن قد يخرج أحسن من الأول وأسوى على قصد الإستواء إن ذلك كان كذلك لأنه مع ما لا يبلغ علم أحد إلى تقدير حركته من الهواء والمكان ومن ارتفاع اليد وإنخفاضها لو اجتهد كل الجهد والفعل لا يخلو عنه ثبت أنه لغيره من هذا الوجه ولا قوة إلا بالله


وعلى ذلك لا أحد يقصد قصد بقبيح الفعل وقد يكون كذلك ثبت أنه من ذلك الوجه ليس له ولو جاز وقوع فعل من وجه لا يعلمه ولا يريده ولو اجتهد كل جهده ليعرف حده ومبلغه ويكون له على ما هو عليه ذلك الفعل لجاز مثله في جميع العالم وآيات الرسل وغيرها والقول في المصور هو القول في الفاعل وفي الصورة هو القول في الفعل لا فرق بينهما


ثم قوله لو أبقى الله القوة ومن مذهبه أن القوة لا تبقى وقتين لا معنى له ثم ما عارض من الفعل فهو يختاره ويعلم ما يفعله ويقصده فهو من ذلك الوجه له وقد بينا في ذلك ما ليس هو بعالم بذلك الوجه ولا قوة إلا بالله


ثم الدليل عندنا من طريق القرآن على لزوم القول بخلق الأفعال قوله وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير فلو لم يكن جل ثناؤه خالقا لما يجهر ويخفى لم يكن ليحتج به على علمه ومعلوم جواز الجهل من غير الذي يفعله لم يكن للإحتجاج به بفعل سواه معنى وأيضا أن الله تعالى قال هو الذي يسيركم في البر والبحر وقال في موضع آخر وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي أخبر أن تقدير السير والتسيير فعله وبه كان السير وقال ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا فيها خبر أن جعل المودة والرحمة من آياته وأن منامكم






----------------------------------- صفحة 255


من آياته وابتغاؤكم من فضله ومن آياته ومن البعيد إنشاء غيره له من الآيات إذ ذلك الفاعل أحق أن تكون الآية له وهن كلهن أفعال الخلق وقال وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة وقال أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وقال جعل لكم من جلود الأنعام بيوتا وقال وجعلنا قلوبهم قاسية وفي الجملة قال الله فعال لما يريد وفي أفعال العباد ما يريد وقد وعد أن يفعل ما يريد وقد ذم الله من أحب أن يحمد على ما لم يفعل وقد ألزم المؤمنين أن يحمدوه على الإيمان ثبت أن كان ذلك بفعله ولا قوة إلا بالله


والأصل فيه أن دلالة خلق فعل كل أحد عنده أعظم من دلالة خلق السماوات والأرض فيما أريد تعرف حقيقة ذلك بالعقل أنه لا أحد امتحن قوى جواهر العالم حتى يعلم خروج كل شيء عن ذلك واحتمال خلق مثله بل إنما يعرف ذلك بخروجه عن إمكان مثله ومعلوم وجود أمور في غيره من الجواهر مما امتنع جوهر عن احتمال ذلك نحو الطيران وإخراق الأشياء والسباحة بالجوهر وغير ذلك بقوى فيها ويعلم كل أن ليس لأحد من الخلق تدبير في فعله فيعلم بالضرورة بما خرج عن مقصوده وقصر عن الحد الذي يحده وكان مقدرا بما لا يحتمل وسعه التقدير به فيعلم به ضرورة أن الذي به قام هو الذي قدره وأخرجه على ما أراد ولا قوة إلا بالله


مع ما لم يكن عند المعتزلة من الله إلى خلقه جملة سوى أنه أوجده بعد أن لم يكن وأن الله لم يزل موجودا وذلك المعنى في فعل كل أحد موجود على أنه لولا الأمر والنهى لم يكن العقل يحتمل إخراج شيء عن قدرة الله وصرف شيء إلى فعل غيره والأمر والنهى محل حق مع المعنى الذي يلزم القول به لولاهما لم






----------------------------------- صفحة 256


يزل ذلك فيكون المعروف بالعقل وما يوجبه ضرورة ذلك مدفوعا بالجهل بالحكمة بالحادث ولو جاز ذلك لجاز إنكار الأمر والنهى بما كان في العقل من إثبات قدرة الله على كل شيء بل قدرته على أشياء لا من شيء أو إحداث أعيان لا عن مثال أعجب من خلق فعل لآخر إذ لولا ما للآخر من القدرة على ذلك لكان لا يضطرب عاقل في تحقيق ذلك لله وقدرته لا يجوز أن تنفى عن الله قدرة ذلك بعينه فيكون كالقادر على الشيء بغيره لا بنفسه جل الله عن ذلك وتعالى


قدرة العبد أو استطاعته


قال الشيخ رحمه الله الأصل عندنا في المسمى باسم القدرة أنها على قسمين أحدهما سلامة الأسباب وصحة الآلات وهي تتقدم الأفعال وحقيقتها ليست بمجعولة للأفعال وإن كانت الأفعال لا تقوم إلا بها لكنها نعم من الله أكرم بها من شاء ثم يستأديهم شكرها عند احتمالهم درك النعم وبلوغ عقولهم الوقوف عليها إذ ذلك حق القول في العقول وهو القيام بشكر المنعم ومعرفة حقيقة النعم والنهى عن كفران المنعم والجهل بحقيقة النعم ولولا ذلك لم يحتمل أحد الأمر والنهى ابتداء بلا سبق ما في العقل لزوم شكره وإتقاء كفرانه ولا قوة إلا بالله


والثاني معنى لايقدر على تبين حده بشيء يصار إليه سوى أنه ليس إلا للفعل لا يجوز وجوده بحال إلا ويقع به الفعل عندما يقع معه وعند قوم قبله أعنى فعل الإختيار الذي بمثله يكون الثواب والعقاب وبه يسهل الفعل ويخف ولا قوة إلا بالله






----------------------------------- صفحة 257


ثم الدلالة على قسمة الإستطاعتين قول الله تعالى فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا وما قال لو استطعنا لخرجنا معكم ثم الدلالة على أن الإستطاعة استطاعة الأسباب والأحوال لا استطاعة الفعل وجوه أحدها أن قوله فمن لم يستطع وإنما هو صوم شهرين ولا أحد يعلم أن قدرة الفعل لا ترده تلك المدة ثبت أن المراد من ذلك استطاعة الوجود ومثله أهل النفاق لم يكونوا يعلمون الإستطاعة التي لديها الأفعال وإنما أرادوا بذلك المرض أو فقد المال على ما بين الله تعالى بقوله ليس على الضعفاء إلى قوله إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء


ودليل آخر القول المعروف أن الإستطاعة الموجود منها لا يبقى إلى مدة شهرين ولا إستطاعة فعل الجهاد تبقى من وقت كونهم بالمدينة إلى أن يلقوا عدوا بل هي تتجدد وتحدث وقد لزمهم الخروج قبل العلم بأنها تحدث أولا وكذبوا بقولهم لو أستطعنا لخرجنا معكم وحققوا في الأول نفى الإستطاعة فثبت أن المراد من ذلك استطاعة الأحوال والأسباب لا الأفعال ولا قوة إلا بالله


وأيضا أنه لا يجوز أن يكون الله تعالى يعير قوما بالعناد فيما يعلم أنهم لا يعلمون وأن دليل العلم به لم يظهر لهم وقدرة الإحتمال التي يتكلم فيها بمع وقبل وتبقى ولا تبقى ليس لأحد من العوام تصور في الأوهام ولا ترجع إليها عقولهم ثبت أن الرخصة والمعاينة في أهل النفاق فيما يدركون ويعرفون وأيد ذلك قوله ومن لم يستطع منكم طولا وقوله ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه






----------------------------------- صفحة 258


سبيلا وهذا النوع مما أجمع على أن الخطاب لا يلزم دونه وأنه من الإستطاعات التي لا يعير من عدمها بترك الفعل ولا يخاطب به دون استكمال


وعلى ذلك تأويل قوله لا يكلف الله نفسا إلا وسعها وقوله وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها إنها مذكور عند ذكر الأسباب والأحوال دون وقوع الأفعال وعلى ذلك قول جميع من يحقق للعباد الفعل وهو النظر من وجهين أحدهما إحالة الأمر بإستعمال سبب ليس له وهذه أسباب فيقال أبصر ولا بصر أو مد يدك ولا يد والثاني أن الأمر والنهى إنما هما في أسداء الشكر وتحذير الكفران فلا يحتمل أن يفعل فيما لم يظهر ثمة نعمة ولا احتمل معرفتها الوسع ولا قوة إلا بالله


والدلالة على الإستطاعة الأخرى قوله تعالى ما كانوا يستطيعون السمع وقول صاحب موسى إنك لن تستطيع معي صبرا ثم قال ألم أقل لك أنك لن تستطيع معي صبرا ثم قال ذلك تأويل ما لم تستطع عليه صبرا على تحقيق قدرة الأحوال نفاها إذ زالت الأفعال وكذلك قوله فاتقوا الله ما استطعتم وغير ذلك


ثم الدليل على لزوم الكلفة دون حقيقة هذا النوع من القدرة السمع والعقل فأما السمع فما أخبرت من الآيات على نفى الإستطاعة ثم الأمر والنهى والتعيير






----------------------------------- صفحة 259


على ذلك إدراك العقل ثم الذي يوضح هذا أيضا قوله تعالى ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومعلوم أنه لا سبيل إلى حقيقة الأفعال حتى يجد الزاد والراحلة ولو كان لا يجب إلا بوجود حقيقة القدرة قدرة الفعل لم يكن ليلزم أحدا ذلك إذ قدرة الأفعال هي التي تحدث على حدوث الأوقات والحج غير واجب حتى ترد هي وهي لا ترد إلا بقطع الأسفار فيكون له التخلف إذ هو غير واجب وكذلك أمر الجهاد إذ لو علم أن الذي معه من قوة الأسباب لا يبلغه لم يعرض عليه الخروج ومعلوم أن قوة العقل بعد البلوغ ليست معه للحال وقد لزمه فرضه حيث عير من قعد وكذلك نجد القيام والصيام ونحو ذلك يكون له الخروج من ذلك بالبدل وإن كان قدرة حقيقة الفعل قد توجد بالجهد ثبت أن فرض الأشياء ليس بها ولكن بالأحوال وعلى ذلك جميع العبادات من يعلم أن ليس معه السبب ما يتم به الصلاة أو الصيام أو الحج لم يكلف ابتداء ذلك


ثم كانت قوة الأفعال لا تبقى وما بها يحتم غير موجودة والتكلف لازم وكذلك الزكوات تجب بالأموال والأحوال وإن احتمل أن يتعذر عليه الدفع لأعذار ترد ولا قوة إلا بالله وعلى ذلك مجيء السمع واتفاق الألسن على سؤال المعونة من الله والتقوية على ما أمر من العبادات فلو كانت هي موجودة أو العبادة تسقط لعدمها كان السؤال سؤال جور والأمر بكفران ما أنعم عليه من القوة ثبت بما ذكرنا لزوم التكليف دونه ولا قوة إلا بالله


وعلى ذلك قول شعيب إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت أثبت تحقيق الذي قال بوجود الإستطاعة ولا قوة إلا بالله


ثم في إثبات القدرة تحقيق المعنى الذي له أبطل القول باثنين وهو أن يقدر كل واحد منهما على نفى ما يريد الآخر إثباته أو يسر أحدهما ما لا يبلغه علم الآخر فمن أقدر العبد على ما لا يعلم الله أن لا يكون وعلى أن يجعله كاذبا فيما






----------------------------------- صفحة 260


أخبر به وعلى أن يتلف ما أراد الله إبقاءه قدر على تسفيه الله وتجهيله وخلفه في الوعد ومن ذلك وصفه ليس بإله وبمثله نفوا قول الثنوية مع ما في هذا أمر عجيب أن يكون الله يقوى أحدا على نقض ربوبيته إذ ملك تصييره كاذبا وقدر على جعله جاهلا وعن وفاء ما وعده عاجزا وهذا النوع من الأقدار لا يفعله أسفه السفهاء فكيف أحكم الحاكمين ولا قوة إلا بالله


وعلى قول هؤلاء يكون للبشر قدرة نقض تدبير العالم وللرسل قوة أن لا يظهروا لله حجة في الأرض وأن يمتنع كل منهم عن الوجه الذي عليه مضى تدبير العالم وهو مبنى على كون أحواله على أيدي البشر وخلق الأرض والسماء والله تعالى لم يكن له قدرة على خلق تلك الأفعال والأحوال على أيديهم ولهم قدرة على أن لا يفعلوا شيئا من ذلك فإذا لهم عليه أرفع المنن وأعلى النعم إذ على القدرة في منع تقديره ونفاذ تدبيره فعلوا الذي به قام تدبيره وتم ملكه وسلطانه وعلى ما دبر وشاء وذلك أوحش قول وبالله التوفيق


ثم وجود القول ظاهر في الخلق لا أقدر لشغلي بكذا أو لا أستطيع بنقل هذا علي ولم يجز أن يكون الله ينطق ألسن الخلق على غير تمانع منهم بما هو كذب في الحقيقة وهم يعلمون أن معهم استطاعة الأسباب والأحوال فثبت أن وراء ذلك عندهم قدرة يذكرونها مع الإعتذار في الأفعال لا في الجمل التي ترجع الأوهام إلى الأحوال ولا قوة إلا بالله


والنظر في ذلك أن القوة إذ ليست هي من أجزاء الجسم فهي عرض في الحقيقة والأعراض لا تبقى إذ لايجوز بقاء ما يحتمل الفناء إلا ببقاء هو غيره والعرض لايقبل الأغيار بما لا قيام له بذاته ومحال بقاء الشيء ببقاء في غيره فبطل البقاء ثم فساد حقيقة الأفعال بأسباب متقدمة إذ لم تكن هي وقت الفعل فمثله قوة الفعل فيلزم القول بالكون مع الفعل ولا قوة إلا بالله






----------------------------------- صفحة 261


وأيضا أن القوة إذ هي للأفعال وجائز حدوث العجز بعد الوصف بالقدرة فلو كانت القدرة للفعل بعدها لكانت لما هو عنه عاجز وذلك متناقض فاسد ولا قوة إلا بالله


وأيضا أن القوى لو كانت لأحوال ترد لكان بها يستغنى عن الله في جميع الأفعال قبل وجود الأفعال والله جل ثناؤه صير الخلق جميعا فقراء إليه وهو الغني الحميد لم يجز أن يقع لهم الغنى عنه بأحق ما لزمتنا الحاجة والأصل أنها إذ كانت لا تبقى تزول حاجة البقاء والفعل ليس بموجود فيصير غنيا عن الله قبل كونه وذلك قبيح في السمع ولا قوة إلا بالله


وأيضا أن القوة ليست تعلم لذاتها ولا لها حد يعلم حقيقتها سوى ما جعل الله على حقيقة كونها من العقل والعقل ليس بموجود قبل كونه وبها وجوده ثبت أنه شهد لها وقت كونه لا قبله والله الموفق


وأيضا أنه لا يوجد قادر غير فاعل البتة كما لا يوجد عاجز فاعلا لم يجز القضاء بالقدرة ونفى الفعل كما لا يجوز العجز ووجوده إذ هما جميعا في الخروج عن الموجود واحد مع القول بالبعد عن ذلك من طريق العقل من حيث يضاد المعنى في الحقيقة وليس بالموت ونحوه معتبر لأن الموت عجز في الجملة وليست الحياة بقدرة في الجملة ولما يجوز وجود الحياة أوقاتا لا فعل معها ولا يجوز وجود قادر وقتين لا فعل له ولا قوة إلا بالله


وأيضا أنا نجد الأسباب في الشاهد إذ كانت بحيث لا توجد دون ما هي له سبب أوقاتا يوجب كون الأشياء مع ما كان ذلك اختيارا أو اضطرارا من ذلك نحو الخروج مع الإخراج والزوال مع الإزالة والألم مع الضرب واللذة مع الملذ والتعب والعناء مع الفعل ثم الإختيار من ذلك نحو ولاية الله مع الإيمان






----------------------------------- صفحة 262


وعداوته مع الكفر وكذلك القبول والرد ونحو ذلك وعلى ذلك حق التسمية بالأشياء والحكم بها وإن كان الله تعالى موصوفا بالفعل في الأزل فإنه عند الإقتران ذكره بغيره يذكر الوقت له ما لذلك الغير كما يقال لم يزل عالما به كائنا وقت كونه وموجودا وقت وجوده ولا قوة إلا بالله


ووجه آخر مما زعم جماعة المعتزلة أن الممنوع لا بفوت القدرة يقع له الفعل مع الإطلاق فما أنكروا ذلك بفوت القدرة والمنع وفوت القدرة في إحالة الفعل معه واحد مع ما لا يجوز وجود الفعل في حال وقوع المنع بحال ويجوز مع فقد القدرة بما تقدم من القدرة ولا قوة إلا بالله


والأصل في ذلك أن القدرة لو لم تكن لها فعل وهي موجودة ويكون بها فعل وهي غير موجودة فتكون سببا لفعل إذا عدم القدرة في التحقيق فيصير القول به قولا بوجود الفعل بعدم القدرة فيكون الفعل دليلا أن ليس الفاعل بقادر وبه استدلوا على أن الله قادر فبطل موضع الإستدلال بالشاهد إذا لحق فيه أن يعلم أنه كان غير قادر وقت الفعل فيصير الفعل دليل نفى القدرة وفي ذلك إبطال التوحيد ولا قوة إلا بالله


على أن وجود القدرة إذ كانت لا تنفع وهي موجودة فوجودها وقت الوجود وعدمها سواء وفي ذلك لزوم القول بالفعل لا بقدرة عليه البتة أو يجعل القدرة معه ولا قوة إلا بالله






----------------------------------- صفحة 263


مسألة القول في صلاحية القدرة للضدين وتكليف ما لا يطاق


قال الفقيه أبو منصور رحمه الله ثم اختلف أهل هذا القول في قوة الطاعة أهي تصلح للمعصية أم لا قال جماعة هي تصلح للأمرين جميعا وهو قول أبي حنيفة وجماعته وهذا القول أثبته جميع أهل الإعتزال عند التأمل ويحقق عليهم القول بتحقيق ما لا يطاق وذلك سببهم في القول بتقدم القوة والله الموفق


وأصل هذا أنه لما كان سبب من أسباب القول يصلح للشيء وضده فكذلك القدرة مع ما في نفى أن يصلح للأمرين فوت القدرة على فعل ضد الذي جاء به وقد يؤمر به وينهى عنه في وقته فيلزم القول بالقدرة على الشيء وصده ليكون الأمر والنهى على الوسع والقوة ولا قوة إلا بالله


ثم الأصل أن كل شيء يصلح لشيء لا يصلح لضده فيكون الذي به بالطبع لا بالإختيار ولو كانت القوة لا تصلح لهما لكان ما كان يقع بالطبع لا بالإختيار ولا قوة إلا بالله


وقال جماعة منهم قوة الطاعة هي غير قوة المعصية منهم الحسين وغيره وهم يذهبون إلى أن قوة الطاعة التوفيق والعصمة وقوة المعصية الخذلان والترك على ما يختار ودليل ذلك وجود سؤال المعونة والعصمة على الإحاطة أن ليس معهما زيغ والتوفيق على الإحاطة أن معه الإصابة وكذلك القول الظاهر باللهم قوني على طاعتك وأعني عليها وبتعوذ من الخذلان والإزاغة ثبت لو كان يكون بكل واحد منهما ما يكون بالآخر لم يكن الذي يسأل بالسؤال أحق من الذي






----------------------------------- صفحة 264


يتعوذ منه ولو كان يكون بالعصمة زيغ لم يكن يطمئن القلب عند الوجود فثبت أن قوة كل نوع من ذلك غير قوة النوع الآخر وثبت بما يسأل العصمة والتوفيق كما يسأل المعونة والتقوية أنهما في الحقيقة واحد وأيضا أنه لا أحد يطلق القول في الكافر أنه موفق للإيمان معصوم عن الكفر ولا أحد يمتنع عنه في المؤمن ثبت أن معنى ذلك المعونة على الإيمان والآخر الخذلان وأيضا أن القوة إذ هي لا تبقى وقتين ليصلح بها الفعلان ولا سبيل إلى جمع الفعلين المتضادين في وقت واحد ثبت أن ذلك قوة لأحدهما لا لهما وأن الذي يكون لهما يبقى لاحتمالهما ولا قوة إلا بالله


وأيضا أن القوة لا يجوز وجودها إلا وثمة اختيار كالنار في التحريق والثلج في التبريد إنه يقع به الذي له طبع بالإضطرار وذلك كالولاية مع الإيمان والعدوان مع الكفران سببهما مختلف على اختلافهما فمثله أمر القوة على الأمرين ولا قوة إلا بالله


ثم نذكر طرفا مما يبين قبح قول المعتزلة عند التحصيل وإن كان قولهم في الإطلاق قولا لذيذا في السمع يشبه أن يكون حقا والله الموفق


وهو من أن قولهم أن القدرة لا تبقى وقتين وأنها ليست وقت الفعل فوقع الفعل في الحقيقة ولا قوة له وقت وجوده وذلك علم الإضطرار ووقوع الفعل بالطبع ثم الدلالة أن حق مثله الإضطرار أن فقد جميع الأسباب التي بها الفعل لوقته يحيل الفعل ويوصف صاحبه بالإضطرار ففوت القدرة التي لها الفعل أحق بذلك فصيروه مضطرا إلى ما يصير به وليا لله تعالى وعدوا له عند الإختيار


ومما يوضح ذلك أيضا أن من قولهم إن من أراد التحرك للوقت الثاني منه أنها تقع لا محالة ولا يقدر صرفها إلا بمنع من قبل غيره وذلك آية الضرورة ثم وجبت الولاية والعداوة بمثله وذلك وحش في العقل






----------------------------------- صفحة 265


وأيضا أن من قولهم أن ليس عليه وقت الفعل أمر ولا نهى إلا على المجاز لما يقوله المسلمون وإنما معناه أنه مأمور به بمعنى أن كان من قبل ليفعل فيه فإذا لم يكن هو مأمورا به ولا منهيا لم يكن بالفعل مؤتمرا ولا مرتكبا النهى وقته وبه تجب العداوة والولاية فصارا في الحقيقة لا لطاعة ولا لمعصية أو لا أمر ولا نهى ولا قوة إلا بالله


وعلى ذلك قولهم إنه مأمور بالفعل في الوقت الثاني وفي الثاني مأمور به في الوقت الثالث كذلك أبدا فلا يفعل الذي أمر بكل وقت وليس بتارك للأمر لما ليس بمأمور وقت الترك ولا قوة إلا بالله


ثم الأصل الذي في العقل دركه أن كل مأمور بالفعل للغد ليس بمأمور هو به للحال فكذلك يجب في الوقت القريب فيجب أن الذي أمر بالفعل للوقت الذي يتلوه ليس بمأمور به للحال في العقل ثم ليس بمأمور به في الوقت الثاني عندهم ولا منهى عن ضده فيبطل حقيقة الأمر والنهى بما في العقل إحتماله على قولهم ويبطل قوهم بما في العقل دفعه وهم مع ذلك لا يجعلون له قدرة في ذلك الفعل فيكون تكليف ما لا يطاق على قولهم ولا قوة إلا بالله


ثم المسألة بينهم وبين الحسين لا معنى لها لأن الحسين يقول كل شيء يكون به فعل الطاعة كان مع الكافر سوى العصمة والتوفيق وهم وافقوه بأنه لا يوصف بعصمة ولا توفيق فحصل اختلافهم على تسميته قوة أولا ولا قوة إلا بالله


ثم الأصل عندنا في المسألة أن وجود الفعل ولا قوة لمن له الفعل عليه يبطل معنى الفعل ويصرفه إلى غيره وكذلك وجود الفعل ممن هو جاهل به وهو غير جائز ثم كان الخطاب لازما بسبب العلم وإن لم يكن حقيقته مما لو طلب






----------------------------------- صفحة 266


يظفر به فكذلك القدرة والفاجر بالذي لا يلزمه الكلفة لفوت ما به يطاق به كما لا يلزم المجنون لفوت ما يعلم ولا قوة إلا بالله


ثم نذكر ما ذكره الكعبي مما يبين وهمه في قضاياه زعم أن تكليف ما لا يطاق قبيح في العقل بالبديهة وهذا إنما هو في العقل الذي لا يعرف الطاقة غير القوة الظاهرة وهي الصحة وأما غيرها فليس كما يقول بل كلف الله صاحب موسى بما يعلم أنه لا يستطيع وكذلك تكليف ما يجهل مثله في البديهة قسمته فمثله الأول


ثم يقال له وكذلك تكليف ما لا يطاق لوقت الفعل قبيح في العقل والذي ادعيته من القبح إنما هو في عقول من يحيل وجود الفعل ولا قوة وذلك وقت الفعل فصار قوله عند التحصيل هو القبيح في العقل إن صدق فيما ادعى ولا قوة إلا بالله


وأما الأصل أن تكليف من منع عنه الطاقة فاسد في العقل وأما من ضيع القوة فهو حق أن يكلف مثله ولو كان لا يكلف مثله لكان لا يكلف إلا من يطيع وليس ذلك شرط المحنة ولا قوة إلا بالله


وعندنا أن القدرة في الصحيح السليم إذ هي تحدث تباعا على قدر حرص العباد وإختيارهم وميلهم إليها فما لم يحدث لم يحدث بتضيعهم إذ آثر وا بذله واختاروا الفعل الذي يدفعهم ولا قوة إلا بالله


وعلى مثل هذا التقدير عندنا وعندهم أمر الفهم والعلم ولا قوة إلا بالله


ثم ذكر معنى يدل على سفهه فقال لو جاز التفريق بين الله وبين ما يكون من غيره لجاز أن يكون الكذب من غيره يكون منه صدقا فلا أدرى أي






----------------------------------- صفحة 267


شيء دفعه إلى هذا الخيال وقد بينا بخروجه ذلك وتعنته فيما ادعى على أنه لا يخلو من أحد أمرين إما أن يجعل كل شيء يعرفه في الشاهد من البشر حكمة أو سفها يقول به في الغائب أو ينظر إلى المعنى الذي له صار كذلك في التحقيق فنقول به في الغائب فإن قال بالأول لزمه ذلك في خلق ما لا ينتفع به وفي خلق الشيء من لا شيء وفي التعذيب من غير دفع ثم يقال نفسه في إجازته قوله بالكذب فمهما أجاب من شيء فذلك لازم له فيما قال وإن نظر إلى المعنى أبطل قوله ذا ببديهة العقل وذا لا يجوز له وهذا النوع من الخيال الذي لا أصل له فلا ومتى تدرك حقائق الأشياء ببداهة العقول وإنما العقول ركبت مميزة بين مختلف الأشياء بمعانيها التي توجب الإختلاف ومؤلفة بين مجتمعها بمعاني توجب الجمع وذا حق الفكر والنظر ليوصل بهما إلى ذلك ثم لا أحد يعلم عالما بشيء لا علم له به قادرا على شيء لا قدرة عليه بل كل معروف ينفى القدرة والعلم موصوف بالجهل والعجز إذا احتمل الوصف بالقدرة والعلم إنه عالم قادر ولا قوة إلا بالله


وإن رجع إلى اعتبار المعاني التي هي أسباب حقائق الأشياء فذلك له مسلم ولا معنى لقوله ببديهة العقل إنما ذلك حق الطباع ونفاره ثم ينكر أن يكون في خلق الله قبيحا في الحقيقة وشرا وفسادا على وجود ما لا يحصى من ذلك على هذه الأوصاف بالعقول بل الله جل ثناؤه بما جعلها كذلك صرف بها مثل ما قبح من الأفعال وتقطيع منظره أوعد به ذو عقل أين الذي ينكر مثل هذا من دعوى بداية العقول ثم لم يزل أئمتهم كلموا الثنوية بجواز كون الخير والشر والطيب والخبيث من واحد ليدفعوا به القول بالإثنين ثم رجعوا إلى إحالة أحد الوجهين عن الله فمن حق الوجه الآخر في الموجود في العالم أوجب ما قالت الثنوية ولا قوة إلا بالله






----------------------------------- صفحة 268


ثم دفع ما عورض بخلق شيء لا ينتفع به بما لم يدل ذلك على تكليف الزمن فهذا يبين أن الذي قال ببديهة العقل كذب وأنه إنما ادعى القياس على ما وافقه خصمه عليه لا غير ثم حصل بما عارض به خصمه مما ادعى ببديهة العقل على من يثبت صدقا مما هو كذب في الشاهد ثم أجاب بما يوجد احتراز النفع بالفعل لا يحق عليه ثبت أن ما قبح منه لم يقبح لعينه وكذلك يجد خصمه مما يقدر عليه لا يجوز التكليف به ثبت أن ذلك لم يقبح لنفسه نحو الفواحش والكفر ولا قوة إلا بالله


وذا أولى لما يجيء مثل هذا من الصغار لا يلحقه وصف فحش ولا كفر ولا يجيء منهم فعل غير نافع نفسه يوصف بالحكمة والذي قال من إصرار النفع فهو من ذلك الوجه حكمة ولكن من وجه الضرر صار كذلك وهو ضرر العاقبة أو كفران النعمة أو مخالفة الرب في الفعل وإذا كان به دفعه ولزمه السؤال ولم يلزم خصمه فيما عارضه بالزمن الذي أجابه مما ينقض عليه ليعلم به بعده عن الحق فيما يوافق عليه ويخالف فيه جميعا ثم إن جواب خصمه سهل وهو ما بينا والله أعلم


ثم قال ذلك الذي قيل فيمن يفعل لحاجة قيل والأول أيضا قبح ممن لا يملك التقوية لو طلب منه وتضرع إليه ثم عارض نفسه بمن يدفع إلى عبده ما يعلم أنه يعصيه به فقال قد يكون ذلك حكمة نحو من يعلم بخبر الرسول أنه لا يؤمن يجوز أن يطعمه ونحو ذلك مما يعلم من تأمله جهله بما عارض به نفسه لأن الذي ذكره لا يجوز أن يعطيه ليؤمن بذلك بعد علمه بأنه لا يفعل وإنما يعطيه لمنافع سوى هذا والمعتزلة تزعم أنه أعطى القوة ليؤمن بها وهو يعلم أنه يكفر بها فليس ذلك مما قدر في شيء ثم المعارضة كانت فيمن يعصيه فلا أحد يعد نفسه في الحكماء إذا علم أن عبده بالذي يعطيه يعصيه ولا يكتسب رضاه بل يعمل بعداوته وشتمه ولا قوة إلا بالله






----------------------------------- صفحة 269


ولكن ذا عندنه إنما قبح في الشاهد لأن ذلك يضره ويدخل عليه الألم وذلك لا يحتمل أمر الغائب والله الموفق


ثم قال لأن ليس لمن حضر أن يمتحن ونحو ذلك فأنى له هذا بعد تقدير فعل الغائب بالشاهد على تحقيق ما يجد فيه لأنه يقابل بجميع ما أنكر وادعى الخروج من الحكمة أن ذلك في فعل من ذلك وصفه فأما الله سبحانه وحكمته فهو متعال عن وقوف عقل مثله على حقيقة ذلك ولا قوة إلا بالله


وقد بينا تأويل قوله لا يكلف الله نفسا إلا وسعها وبينا قبح قوله في إسقاط التكليف وقت الفعل وإبطال القدرة عليه فيصير في التحصيل هو المكلف على غير الوسع على أنه يقال كيف لو كان في علم الله أنه لا يفعل أو في علمه أنه يريد الفعل في الوقت الذي يتلوه ومن قولكم إن من أراد الفعل في الوقت الذي يتلوه إنه يفعله لا محالة إلا أن يمنع أن يفعله أيمنع أو يفعل ضده فإن قال يفعل ضده أبطل قوله في كون الإرادة قبل الفعل وألزم نفسه الأمر معه والقدرة معه وبطل قولهم في الإرادة الموجبة وإن قال يمنع فقد ألزم من في علم الله أنه لا يفعل التكليف بقوة تمنع عن الفعل وهو في التحقيق تكليف العاجز الممنوع وإن كان برفع الكلفة أبطل أن يكون أحد ممن في علم الله أنه لا يعطيه مما تضمنته المحنة ولزمه الأمر والنهى وذلك غاية ما ينتهى إليه القول في القبح وعلى ذلك أمر الإرادة إن الله إذ يمنعه عن الفعل الذي في حكمه أنه لا يفعله لا بد أن يمنعه كالإرادة وفي ذلك منع عن الطاعة إذ يمنعه عن الفعل الذي في علمه أنه لا يفعله لا بد أن يمنعه بالإرادة وفي ذلك منع عن الطاعة عنده والخير ثم يقال المروى عن الذي روى أنه سل سيفه على رسول الله فمنعه الله بقبض يده أكان ذلك المنع أصلح له في الدين وأخير له أو الإطلاق فإن قال الإطلاق فقد أقر بأن الله قد يفعل بعباده






----------------------------------- صفحة 270


ما كان غيره أصلح في الدين وإن قال المنع فقد أقر أن المنع قد يكون أصلح فكل عاص لم يمنع عنه لم يفعل به الأصلح ولا قوة إلا بالله


واحتجاجه بقوله لو استطعنا لخرجنا معكم قد بينا ما عليه في ذلك وما يظهر أن خصمه أشد لاتباع ذلك ومعرفته منه ولا قوة إلا بالله


ثم عارض بما لا يحقق لهم العذر بالفقر إلا بما لا يتهيأ لهم الفعل وذلك المعنى في فقد القدرة موجود


قال الشيخ رحمه الله جوابه من أوجه ثلاثة أحدها أن الذي معه من المال لو لم يبلغه لم يعرض عليه وقوة فعل البلوغ لم تكن معه فلم يمنع الغرض فمثله أمر وجود الأمرين محال للحال وعدمهما وأيضا أن الأمر المعتاد أن تحدث القوى تباعا على قدر ما يختاره العبد ويريد من الفعل فهي تحدث لا محالة إلا أن تضيعها هو بصرف الإخيار إلى غير ما يفعل بها فبالتضييع عدم هذه القدرة والأخرى بالمنع لذلك اختلفا والثالث إجازة وجود الفعل في حال لا قدرة فيها ولا يجوز في حال لا سبب به يحدث القدرة ثبت أن أحد الوجهين ليس بنظير للآخر والله الموفق


ثم عارض بجواز الأمر بالخروج على أن يعطوا المال معه وزعم أنه إن أجاز أبطل قوله وإن لم يجز ترك قوله


فيجاب في هذا بالأوجه الثلاثة من التفريق بالمبلغ وغير المبلغ وبالأمر المعتاد وبما ينكر هو الفعل لوقت عدم الأسباب ولا ينكر لوقت عدم القوة ولما أحد الوجهين يعدم لا به والآخر لا ولو كان يعلم أيضا حدوث الأملاك على التتابع بخبر الصادق لكان الجواب فيهما لا يختلف ولا قوة إلا بالله


مع ما في المعارضة إذا حققت إحالته وهو أن تصريف المال مع الملك له لا يحتمل كالحركة مع خلق الله الجسم لا حركة ضرورة ولا اختيار ونوع






----------------------------------- صفحة 271


حركة الضرورة قد يكون مع العجز ومثله الإختيار مع القدرة على أن القدرة لو كانت بحيث لا يجامعها الفعل ليبطل أن يكون بها الفعل بل بعدمها يكون ولا قوة إلا بالله


ألا ترى أن الأموال والأسباب مع قيامها بفعل على بقائها توصف بقدمها وبحال إبقاء القدرة فمثل ذلك وصف التقدم والله أعلم


وفي المسألة سوى ما قدمنا ذكره من الأدلة أنه لو كان العجز المتقدم يمنع الفعل لوقت القدرة ليجب أن يكون القدرة المتقدمة توجب الفعل لوقت العجز وفي إحالة ذلك إحالة الأول ولو كان الفعل يقع لفقد القدرة لكان كلما دامت دام الفعل إذ أسباب الأشياء لما هي لها كلما دامت أوجبت دوامها وفي ذلك لزوم القول بالوجود معها ثم زعم أن القدرة محال كونها مع الفعل لأن الله يراه موجودا ومحال كون القدرة مع الفعل الموجود


قيل عنيت بالوجود الفراغ منه أو هو فيه فإن قال الفراغ منه بأن كذبه عند من يعقل وأبطل قوله يجوز أن يكون في ذلك بالبدل وهو العجز معدوما ولم يجب القول بإحالة العجز مع المعدوم وإن كان يراه معدوما إذ لم يكن العدم متقضيا بل هو مشغول به ثم يقال له الله يواليه ويعاديه مع فعله أو قبله أو بعده فإن قال قبله أحاله وإن قال بعده أبطل قوله يراه موجودا لأنه يحقق وجود فعل العداوة والولاية ولا عداوة ولا ولاية وإن قال في حاله قيل صار السبب مع المسبب موجودا ولم ينف كون الفعل معه وإن كان يرى الولاية والعداوة موجودتين فمثله القدرة وأيضا أنه على أي حال يراه يرى القدرة معه على ما نرى إلقا الشيء وإخراجه مع خروج ذلك وإلقائه ولم يبطل حق الإلقاء والإخراج بما يرى الشيء على ما يراه فمثله الذي ذكرت وإذ جاز أن يراه موجودا ومعه الأسباب كلها ولم يبعد ذلك فمثله القوة بل كذلك يجب أن يرى كما كذلك يجب أن يرى مع الأسباب






----------------------------------- صفحة 272


وجملته أن للفعل وقت العدم وهو قبله ووقت الفناء وهو بعده ووقت الوجود وهو في حاله ولا محالة يراه الله مع أحوال فعله على ما ذكر لا غير وكذلك الأوقات التي تقع فيها الأفعال والأمكنة فعلى ذلك الأسباب فمثله القوة يراها معدومة قبله فانية بعده موجودة معه ولا قوة إلا بالله


واحتجاجه بقوله أو لا يستطيع أن يمل هو ماسلف بيانه مع إحتماله لا يحسن وهو استطاعة العجز أيضا دليل ذلك ما بينا أن قدرة التمام لا تكون قبل الإبتداء وقد أضيف إليه الكل ولا قوة إلا بالله


ثم قال أن لا يؤمن حتى يقدر ولا يقدر حتى يؤمن فهو يبقى أبدا غير مؤمن كالواقع في البئر إذا كان لا يخرج حتى يأتيه الحبل ولا يأتيه حتى يخرج فجواب هذا قد تضمنه ما ذكرت من الأشياء التي تقع مع أسباب لها لا تتقدم ولا تتأخر ثم لم يقل ذلك للعلم بأنها تقع إذا لم يعقل عنه ولا يعرض فمثله الذي ذكرت والأصل الذي زعم إنما يعظم وجوده إذا جعل كل واحد منهما يوجد بوجود الآخر متقدما فأما وجود ذلك معا فعليه أكثر أمر الدين والدنيا من وجود شيئين معا لا يجوز تقدم أحدهما على الآخر ثم عارض نفسه بالإلقاء على ما سبق وصفه وتكلف إجابته بما لو رزق الحياء ما سمحت له نفسه بالتفوه به فقال إن إلقاء الشيء هو خروجه من يده لا غيره والإستطاعة غير الفعل فمن نظر إليه يعرف كذبه فإن الإلقاء هو الخروج لا غير بالبديهة بلا تأمل وإذا لم يكن غير فإذا ليس ثمة إلا الخروج مما ألزمه الفعل ويجوز كون الخروج ولا صنع معه له ولا قوة إلا بالله


ثم احتج لخصمه بما يشبه جوابه هذا لعله نفعه ثم احتج لخصمه بقول المساول القيام بحاجته لا أستطيع وهو ممن لا علة به فزعم أنه لا يريد






----------------------------------- صفحة 273


به نفى القوة إنما يريد نفى النشاط دليل ذلك ما يعود عليه السائل بالقول فيقول بل تستطيع لكنك لا تنبسط بمعونتي وقد قسمت بحوائج فلان فكيف تقول لا أستطيع


قال أبو منصور رحمه الله له جوابان أحدهما أنهما جميعا صدقا إذ عدم النشاط يرفع القوة وأمكن القيام بذلك والنشاط من ذلك فيوجد القوة وهو ما يقول وهما أمران معروفان لذلك لا يجوز إلحاق الكذب بواحد منهما وعلى ما يقوله عنده إلحاق والثاني إنه قال على الأمر المعتاد إنه لو قام به لآتته القدرة ألا ترى أنه احتج بالقيام بحوائج غيره ومعلوم أن تلك القدرة قد زالت عنه والله الموفق


وزعم أن الكافر مأمور به في حال كفره بالإيمان تأويله أن النهى تقديمه فيلزمه أن يقول هو قادر عليه بقدرة تقدمت وزعم أنه ترك في الأول لقول المسلمين ووجه إلى ما أمكن وفي الآخر لم يقل


نقول نحن وبالله التوفيق لا أحد من المسلمين إلا وعنده أن الكافر في حال كفره قوى على ما هو عليه فقل في القدرة مثل الذي قلت في الأمر إذ المعنى واحد في القول والتحصيل جميعا ثم تأويله قول المسلمين على وجه يعلم كل مسلم أن ذلك لم يخطر بباله بل لايحتمله عقل كل أحد لو ألزم يجهد أن يكون كافر ليس بمنهى عن كفره وليس بمأمور في حاله فإذا لم يكن في وقته مأمورا منهيا لما هو فيه ولا لضده وهو كذلك في الوقت الثاني والثالث إلى ما لا نهاية له وفي ذلك بطلان الأمر والنهي على التحقيق لأنه يكون الأمر بالشيء للوقت الثاني والنهى عن ضده وهو في ذلك ليس بمؤتمر بالأمر ولا مرتكب النهى لأنه ليس ذلك وكذا في كل وقت فيبطل حق الأمر والنهى عن الفعل أبدا ويرجع إلى غير حال الإئتمار والإرتكاب وذلك بعيد ثم ذكر سؤال خصمه من وجه يحتمل خصمه قوله فقال إذ أثبتم لأنفسكم القدرة فقد أشبهتم






----------------------------------- صفحة 274


الله بها فقال لا يجب ذا لما قدرت به وهو لا بغيره كما يقال في العلم


قال الشيخ أبو منصور رحمه الله لو قدرت بالله لم يجز أن تزول بقدرتك قدرة الله كما إذ علمت به لم يزل بعلمك علم الله به


وبعد فإن السؤال من وجهين أحدهما الإنفراد بالقدرة وبه احتججت في نقض قول الثنوية فيلزمك في هذا والثاني أن ذلك يوجب الغنى عن الله في الفعل قبل وجوده ولا يجوز أن يكون الله يغنى أحدا عن نفسه فإن قلت يحتاج إليه في الإبقاء أحلت عندك لأنها لا تحتمل وإن قلت يحدث أخرى فقد أغناه عنه في وقت ولو جاز ذلك في الوقت مع قيام العبودة يجوز أبدا ولا قوة إلا بالله


والأصل أن القدرة محال كونها لا للفعل وكذلك العجز لا عن فعل ثم قد يجوز أن يكون قادرا في وقت للفعل يعجز في الوقت الثاني إذ معلوم وجود مثله فيكون الله تعالى معطيا القوة لشيء يستحيل كونه وفي ذلك فساد كون القوة للفعل فألزم ما أوجبه العقل إنها لا تكون إلا للفعل إحالة القول بالتقدم ولا قوة إلا بالله


ثم عارض نفسه بأمر فرعون إنه لو كان يقدر على الإيمان لكان يقدر على إبطال علم الله وهذا في فرعون وكل من في علم الله أنه لا يؤمن فأجاب بأن ذا لا يجب لأن القدرة غير الإيمان الذي هو المعلوم أنه لا يكون ولو لزمنا ذلك في القوة ليلزمكم في الأمر ثم عارض بقدرة الله على إنشاء العالم ليحال من غير أن يجوز الوصف بالقدرة على إبطال علمه فمثله الأول ثم عارض حسينا بالإطلاق أنه أطلق بينه وبين الإيمان أتقول في أنه أطلق في إبطال علم الله ثم قال الله عالم أن لو كان كيف يكون فلو كان لم يكن يخرج من علم الله






----------------------------------- صفحة 275


قال الشيح أبو منصور رحمه الله ووجه الإعتبار به ليس على ما قدر ولكن بما يقول بالأصلح ومعلوم أن الله لو لم يكن ملكه على ما ملكه لم يكن ليقدر أن يضل من أضله ويمنع من يمنعه عن طاعة رسوله وكان ذلك أقل للغواية وأقرب إلى الطاعة فثبت أن القول بالأصلح باطل مضمحل والثاني أنه إذا أخبر أنه لا يؤمن بالله وقد علم ذلك وهو عدوه وإقدار العدو على تسفيه المقدر وتقويته على نقض ملكه وإبطاله ربوبيته خارج عن حد الحكمة ببديهة العقل مع ما فيه تمكين عدوه لأعظم منة له عليه أن يقول لي عليك كل منة أو ملكتني نقض ربوبتك بما لا يكون ربا جاهلا وقويتني على إزالة حكمتك بما لا يكون حكيم كذوب وقد جعلت لي القدرة على ذلك وبذلك أمرتني وقد تعلم أني لو شئت لفعلت فتمت لك الربوبية وسلمت لك الحكمة فمنتي عليك أعظم ونعمتي لديك أعم فبأي نعمة لك تعاقبني وبأي حكمة تأمرني وبي تمت لك ولا قوة إلا بالله


والثالث أن طريق معرفة فساد القول بإثنين ليس إلا قدرة أحدها على ما لا يعلمه الآخر وفي ذلك إيجاب ذلك ولو جاز ذا من غير أن يكون في ذلك فساد الألوهية لبطل قول الموحدين فيما به أبطلوا قول الثنوية وقوله يعلم أنه لو آمن كيف يكون فهذا معنى لا منفعة فيه لأنه مع علمه بذلك يعلم أنه لا يؤمن أولا فإن قال لا سفهه وإن قال نعم قيل في ذلك وقعت المطالبة وقد ذكرت أنه لو آمن لم يخرج من علمه فكيف لم يخرج وعلمه أنه لا يكون وقد كان ولا قوة إلا بالله


وأما قوله لو لم يقدر عليه لم يكن ملوما فهو مثل القول سواء ودليله أنه قوله بل عليه أعظم اللائمة لما هو صنع القدرة حيث أعرض عن الذي به يأتيه وقوله لا يلزمنا لأن القدرة غير الإيمان يدفع أيضا فما فيه ما يمنع اللزوم بل إنما لزم ذلك لأن القدرة غير الإيمان ثم اعتباره بالأمر فاسد لأنه استعباد






----------------------------------- صفحة 276


به يظهر ذله وعبوديته والقوة هي الغنى والعلو والرفعة فهو الوجه الذي به يبطل ربوبيته غيرا لله وليس في الأمر ذلك على أنه لو لم يكن أمر ولا نهى كان القول بيؤمن ويكفر ويقدر ولا يقدر لا معنى له ولا قوة إلا بالله


وبعد فإن القدرة ثمرتها الفعل وبه يكون الذي ذكر لا بالأمر لذلك لم يصر الأمر بالأمر أمرا بالذي ذكرت فبالإقدار يصير ملكا غنيا مستخلفا لما إذا تم كان ربا إلها ولا قوة إلا بالله


وبعد فإنا عارضنا بالذي طريق العلم به العقل من الوجه الذي ذكرت والأمر لا يناقض ما يوجبه العقل ولولا الأمر كان الأول بالعقل وحشيا فأما أن يعرف وجه الحكمة في الأمر أو لا يعرفه بالذي عرفناه لم يجب دفعه بما يتعذر عليه وجه الثاني ولا قوة إلا بالله


وأيد الذي ذكرت أمر الشاهد أن كل قوى يرتفع ويجل بقوته ولا يؤمر الجليل العظيم بشيء ثبت أن في الأمر ذلة واستعبادا فهو لا يوجب ذلك وفي الإقدار رفعه وعلوه فهو يوجب والله الموفق


وبعد فإذ لا توجد قدرة لا تضيع فوجودها يوجب الفعل الذي يقصد وحق الأمر اللزوم لا وجود الفعل وكم من أمر به لا ائتمار هنالك فلذلك لم يجب به وما ذكر في الله فهو بقدرته ونفاذ مشيئته وجرى سلطانه فتمت ربوبيته واستوجب الجلال والرفعة بذاته لم يجز أن يكون فيه ما ذكر من الخوف بل به تمام الحكمة وعلو الرتبة وفي إيجاب ذلك لغيره نقض ألا ترى أنه قد نقض قول الثنوية بالذي ذكرت ولا يقبل قولهم بمعارضته مثله في الله أنه يقدر على ما علم أنه لا يفعل فإذا يقدر على نقض ربوبيته وبمثله جعلوه في غيره معارضا موجبا ذلك فمثله الذي نحن فيه ووجه آخر أنه لا يوجب لله قدرة ولا علما بقوله له قدرة بكذا وعلم بكذا لا معنى له وذلك متحقق في غيره






----------------------------------- صفحة 277


فالمعارضة له لازمة وأيضا أن الله إذ هو قادر بذاته عالم بذاته فمحال وصفه بالذي ذكر إذ بذلك تمت ربوبيته وجل سلطانه وألوهيته وقد يكون الشيء الموصوف بذاته مما إذا ثبت لغيره عليه سلطان تجرى قدرته عليه كالأعراض التي هن مختلفات لأنفسهن والأجسام لهن أو الأجسام التي هن قائمات بأنفسهن والأعراض بهن ثم لله عليها سلطان وملك فلو جعلنا على الله في إبطال تقديره ونقص تدبيره وإزالة علمه ونفى الحقيقة عن خبره لكان تحت قدرة غيره وفي سلطان آخر فتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا مع ما الإطلاق يرجع إلى الأمر وقد بيناه


ومسألتان في القدرة على القدرية يوجبان أن الله ليس بقادر بذاته أحدهما أنهم قالوا يقدر الله جل ثناؤه على حركات العباد وسكونهم فلما أقدرهم على تلك الحركات والسكون زالت عنه القدرة عليها فيكون قادرا في التحقيق بغيره إذ هو بذاته على ما كان عليه فلو كانت تلك القدرة له بذاته لم تكن تزول عنه إذا أقدر عليها غيره ومما يبين ذلك أنه إذ كان عالما لذاته بكل شيء لم يذهب علمه لما أعلم غيره فمثله القدرة مع ما كانت أدلة غيرية الأعراض للأجسام هي وجود الأجسام دونها ومثل ذلك علة غيرية القدرة والعلم في الشاهد إنهما غير الذي له فكذلك القول بالذي قالوا في الله سبحانه ومما يزيد لهذا وضوحا أنه لو أراد أن يحركه بحركة الإضطرار ويسكنه ذلك التسكين ومعه تلك القدرة لم يقدر عليه حتى يأخذ منه تلك القدرة فثبت أنه بها يقدر وهي التي تزول عنه وتعود إليه وهذا نعت الأجسام وحقيقة الأعراض ولا قوة إلا بالله


والثاني أن الله تعالى لما أقدر عبده على إتلاف شيء ذهبت عن الله قدرة الإبقاء الذي يريد ذلك والإبقاء فعله فصار عن فعله الذي هو في الحقيقة






----------------------------------- صفحة 278


فعله ممنوعا ومن احتمل المنع لغيره يحتمل الإطلاق به وفي الأول إعجاز وفي الثاني إقدار وجبا جميعا له بغيره جل الله عن ذلك


ثم قال الكعبي إن قال قائل لو جاز أن يبقى القادر وقتا لا يفعل فيه لم لا جاز كذلك أوقاتا كثيرة كما يوصف بذلك الله تعالى


قال الفقيه أبو منصور رحمه الله وقد أخطأ في التقدير وإنما السؤال فيه من وجهين أحدهما أن القدرة إذ ليست إلا للفعل وقد تخلو عنه وقتا جاز أن تخلو عنه أوقاتا وقد حققت هذا الوصف لله والثاني أنه للوقت الثاني من وقت القدرة ليس بواجد لها وجاز الفعل بها لم لا كان للوقت العاشر كذلك وإن لم يجدها أو إذ لم يجز الفعل بها بعد فنائها بأوقات وجب أن لا يجوز بوقت فأجاب عن الأول أن الله كذلك بما لا تتضاد عليه الأفعال ويقدر على ما لا ضد له والعبد لا يقدر على ما لاضد له لذلك لم يجز أن يوجد أوقاتا غير فاعل فيقال وما فيما ذكرت ما قوبلت به بل قيل لك ما منع أن يكون من يتضاد عليه لا يجوز وجوده ولا فعل شيء أو ضده وقتا واحدا ومن لا يتضاد عليه يجوز ثم يقال للتضاد لا يجيز وقت القدرة أو له يوجب في الوقت الثاني فأي الأمرين أجاب فهو في الحالين واحد وما قال على الله فهو فاسد لما ليس عنده فعل الله غير خلقه وهو متضاد كالموت والحياة وغير ذلك ثم أجاب بأول أحوال الجسم أنه يخلو عن الحركة والسكون لم لم يجب به خلاؤه عنهما أوقاتا


قال أبو منصور رحمه الله فنقول وبالله التوفيق الحركة والسكون هما اسما البقاء فمحال وجودهما في أول أحوال الجسم لإحالة البقاء إذ السكون هو القرار حيث الوجود والحركة الإنتقال عنه والقدرة ليست إلا للفعل ولو جاز وجودها ولا فعل وقتا واحدا لجا أوقاتا إذ هي له والجسم ليس للحركة ولا






----------------------------------- صفحة 279


للسكون وهما معنيان لا يقتضيان الحال ألا يرى لأوقات البقاء لا يخلو عنهما ثم القدرة لا تبقى فيجب أن لا يخلو منه عند الوجود ولا قوة إلا بالله


وبعد فإن مسألتنا في الفعل ونجيز من الجسم وقت وجوده إذا لم يكن الفعل الذي هو اسم للبقاء ولا قوة إلا بالله


وقال في الصحيح السليم أنه يجوز أن يخلو عن الفعل وقت كونه ثم لم يجز أبدا


قال الشيخ رحمه الله وما يقوله خطأ بل يجوز ذلك ثم زعم أن ذلك معقول وهو عقل من حق العقل الخروج عما حاله عقلا ثم تكلم في العلم بما لم أظن أحدا تأمله إلا عرف أن الحيرة دفعته إليه فتركته لقلة نفعه ثم عارض نفسه بالذي قدر على الإيمان والكفر فلم فعل أحدهما دو الآخر فزعم أن ذا محال لأنه لو كان لا يأتي إلا بواحد كان يكون مضطرا وقد ثبت الإختيار ثم عارض بمثله في الله نقول قد حاد عن جواب السؤال إذ هو في أنه كيف اختار ذا على ضده وليس شرط الإختيار أن يفعل ما شاء ولكن يختار الأولى به أن يفعل فإذا فعل ما لا يعرف لماذا فعل ثبت أن لغيره في فعله تدبيرا على ذلك خرج فعله والله الموفق


ومعارضته بالله سبحانه محال على القولين على قولنا بأنه خالق بذاته فالقول به كالقول بأنه لم قدر وعلم وعلى قوله إن ذلك أصلح في الدين ولا يسأل من ذلك وصف فعله ولا قوة إلا بالله


ونحن نحمدالله قد أعنانا الله عن نحو هذا السؤال لكن أحببت أن أذكرهما مقداره فيما لا يرضى به سؤالا لضعفه ليعلموا به قدره في المرضى به والله الموفق


ثم زعم أنه إذ صلحت قوة واحدة للإيمان وضده لم لا صلح القول بالتقوية عليهما فدفع ذا بالأمر والنهى وعارض بالسيف والدرهم وإن احتمل استعماله في قتل الولي وانفاقه في شرى الخمر لم يجز القول بالإعطاء لذلك نقول تمام






----------------------------------- صفحة 280


السؤال أن الله إذ علم أنه فيم يستعمل وفي مثله في الشاهد يوصف بالتقوية عليه والله لم يوصف بمثله فمثله في الخلق مع ما يقال بالأول لكنه طلب منه واختيار ذلك فبه لا بها ولا يوضع في ذلك حرف الإعطاء لأنه نوع امتنان ولا قوة إلا بالله


وما عارض فاسد لاحتماله أن لا يستعمل في الوجهين فلم يكن الدفع لوجه من ذلك والقوة لا تحتمل إلا أحدهما ولا يجوز أن يخلو عن وقوع أحدهما بها وقد علم بذلك فلا يحتمل القول بالدفع لغير ذلك ثم قال فإن قلت العاصي إذ يفعل بقدرة الله لم لا قلت إن المعصي من الله


قال الشيخ رحمه الله وقد أخطأ من وجهين أحدهما أن خصومه لا يقولون في المعصية إنها من الله والثاني لا يقال فعل العبد بقدرة الله ولكن بقدرة طلبها من الله ثم أجاب في ذلك بمثل جوابه في الأول إنه أعطى ليطيع وأتم هذا وقد بينا الوجه في الأول وخطأه في هذا السؤال ثم عارض نفسه بما إذ كانت القدرة مخلوقة للخير كيف قدر العبد على قلبها فزعم أن ذا ليس كالذي يسخن ويبرد لكنه كالسيف والدرهم


قال أبو منصور رحمه الله فيقال له القدرة إذ لا تحتمل الفعلين ولا تركهما وما عارضت به محتمل ثبت أن القدرة مخلوقة لأحدهما لا لهما ثم لا يحتمل المخلوق بجهة واحدة قلبها عنها من نحو الذي ذكرت مما يسخن به ويبرد لم لا دل أنها خلقت لأحدهما وهو ما كان بها ويبين لك العرف الظاهر في الخلق بسؤال القوة على الخير ولو كانت لا تحتمل الشر لكان لا معنى لتخصيص ذلك ولا قوة إلا بالله


ثم عارض نفسه بالغنى فقال معاذ الله لأنه المغنى وعارض بالسيف والدرهم






----------------------------------- صفحة 281


قال الشيخ رحمه الله وقد حاد عن ذلك إذ القوة لا تحتمل البقاء وبها أوجب الحاجة فإذا استحال ذلك لزم ما عورض به عن الغنى ولا قوة إلا بالله


وما قابله به فالوجود لا يديم النفع بل يديمه البقاء وله الحاجة إلى الإبقاء وليس ذلك في القوة فلذلك لزمك الذي تعوذت منه ولا قوة إلا بالله


ثم سأل عن خصمه سؤالا بتره وإنما هو والله أعلم أن المعتزلة تزعم أن الله تعالى يجعل لعمر الرجل مدة بها ينقضى وإبقاؤه إلى تلك المدة فعله وهو يريد أن يفعل ذلك وقد كان قدر له في تلك المدة أرزاقا ثم أثبت لعبد من عبيد الله قوة يمنع بها ذلك الرجل عن استيفاء مدته التي جعلها الله له ويمنع رب العالمين عن إنجاز ما وعده ويحول بينه وبين فعله من إبقاء حياته في جسده وهو يريد ذلك ليكون من فعله بما يقتله عدوه منعا منه ربه فيكون في ذلك خلف الوعد وقهر ومنع عن فعله وكل ذلك يكون بما أقدره هو عليه وذلك لعجز وخلف وسنة في المعقول أو لا


أجاب لجواب المسلمين أن المسألة فيما يقال في كل أمر لو لم يكن ذلك كيف كان في علم الله أن يكون وذلك القول عند المسلمين على تحقيق أن الكائن في علمه ذلك فإن كان في علمه وقدرته أن له أن يجعل في الإبتداء غير تلك المدة ولو جعل ليكون ذلك في علمه لا هذا الذي كان ثم رجع إلى حقيقة قوله وقال لو كان الظالم إنما قتل لحضور أجله لم يكن معلوما وقد يحمد أيضا في ذبح شاة لآخر إذ لولا ذبحه لكانت تموت ثم عورض بأنك تشهد أنه لم يحضره أجله لو لم يقتله فقال معاذ الله بل لعله يقتله غيري أو ينقضى أجله ثم احتج بقوله عز وجل ولا يعمر من معمر ولا ينقص من عمره وبقول رسول الله عليه السلام صلة الرحم تزيد في العمر فأخبر أن له مقدارا






----------------------------------- صفحة 282


معلوما يزيد فيه بالصلة فيكون في اللوح إن وصل فأجله كذا وإن لم يصل فكذا ثم رجع إلى سفهه وعارض بالموهوم المطلق فإن قيل في ذلك دفع المنع لا غير وفي القدرة الفعل فقال وفي القدرة دفع العجز لا غير وقال لو أوجبت القدرة لأدخلت فيه ولحملت عليه ويكون إذ ذاك الفعل لغيري


قال الشيخ أبو منصور رحمه الله من تأمل ما قال وما قوبل به أيقن أنه حائد عن حد الجواب لكنا نذكر غفلته فيما جاد به ليعلموا عذره في جميع ما فرق به خصومه إذ هذا مبلغ علمه في الله سبحانه ونقول له الله علم أنه يقتل أو لا فإن قال يعلم قيل وقتله يزيل حياته ويذهب عمره أولا فإن قال لا كذبه الوجود وإن قال نعم قيل كيف جعل انقضاء عمره وخروج روحه من جسده بغيره ولو علم ذلك وكيف كتب في اللوح أنه إن فعل كذا يكون كذا وإن لم يفعل كذا يكون كذا وهذا أمر من لا يعلم ما يكون فأما من يعلم ما يكون فهو يكتب يكون كذا ولولا أنه يكون كذا وكذا يكفر فلان ويستوجب مقت الله ولولا أنه يكفر كان يؤمن ويستوجب محبة الله فأما القول بيكون ذا أو ذا من غير القطع بما يكون إنما هو فعل الجهال بالعواقب ثم أنى يكون ذا خبرا عن علم ثبته قبل كونه وكل الناس يعلمون هذا القدر إن فلانا إما يقتل أو يموت يؤمن أو يكفر يتحرك في وقت كذا أو يسكن فهذا القدر من اللوح هو لوح كل سفينة ولبس هو اللوح المحفوظ ولكنه اللوح المضيع ولا قوة إلا بالله


وقوله لو حضر أجله فإن أجله ليس بغير القتل فيما كان في علم الله وهو كما في علمه أنه يقتل ولكنه بالقتل المنهى عنه أو المأمور به على ما في علم الله وهو كما في علمه أنه يؤمن ويكفر فذلك في علمه وكل داخل فيما علم الله عاقبته أنه إلى ماذا يرجع وإن كان في علمه أنه لو لم يفعل ذلك ماذا تكون عاقبته أنه إلى ماذا يرجع فمثله الأجل وعلى ذلك إذ علم الله أنه يصل رحمه فجعل عمره أكثر مما كان في علمه أنه لا يصل وكذلك أمر






----------------------------------- صفحة 283


الآية إذ محال أن يكون ما يفعله خارجا من علمه والذي قالوا هو ذلك في المعقول وللآية قال أهل التأويل يبين منتهى عمره وعلى نقصان كل وقت يمضى من عمره وقال قوم إنما هو في مختلف أعمار الخلق من بين مطول ومقصر لا أن الله يجعل لأحد عمرا ثم تبدو له فيزيد أو ينقص كفعل الجهال ومن في أمورهم على شك ولا قوة إلا بالله


والله تعالى يقول فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون وفيما يقول لا يجيء أجلهم بل يقتلون قبل مجيء أجلهم والله أيضا لا يزيد في العمر وكيف يقدر أن يزيد في عمر آخر بصلة الرحم من لم يقدر بإبقاء ما ضمن عمره أن يبقيه إلى وقت كذا بل أقدر عدوه حتى منعه عن ذلك جل الله عن هذا الوصف


ثم يقال له ما ضرب من المدة له ألا كان في اللوح أنه يبقيه إلى ذلك أو يبقى هو إلى ذلك أو يبقيه ويبقى إن لم يقتل فإن قال بالأول والثاني فادعى عليه الكذب في خبره والخلف في وعده وإن قال بالثالث قيل أكان يعلم أنه يقتل أو لا فإن قال لا استحق الإبانة بين رأسه وجسده والخلود في عذاب ربه وإن قال نعم قيل لم كتب ما لا يعلم إذ ذلك في العرف صنيع الجهال مما تأبى عقول من عرف الرب التفوه به ولا قوة إلا بالله


ثم يعارض بمن علم الله أنه لا يقتل ويريدون قتله ويؤثرونه ويقصدون قصده لجميع ما يحتمله وسعهم ثم يكون على ما علم وهذه أسباب لا تجد أحدا يكون منهم لا يقع الفعل به وفي الوقوع كذبه إلا أن يقول يمنع فيلزمه في كل من يعلم الله أنه لا يكون المنع مع القوة وإذا لزم ذلك لزم الدفع في كل ما يعلم أنه يكون إذا لم يرض به العبد فيكون كل خير وشر بالمنع والدفع الذي ظنوا بهم أن قول خصومهم يؤدي إليه هو الذي حملهم على رأيهم ولا قوة إلا بالله


وما ذكر من الإطلاق والتخلية فهو كلام يتوجه أوجها ثلاثة رفع العسر






----------------------------------- صفحة 284


والمنع أو الأمر به أو الإباحة وذلك كله في الخير مطلق وفي الشر لا إلا مقيدا إنه لم يعسر ولم يجبر وإذا كان كذلك فمعارضته بالذي ذكر فاسدة وما أجاب عنا بالمنع فحق قال الله تعالى في قوله فخلوا سبيلهم بعد ذكر المنع وما يحمد من قول الناس اللهم قونا على طاعتك ولا يحمد اللهم خل بيننا وبين طاعتك ثبت أن لأحدهما حالا ليس للآخر وكذلك هو يقول بالفعل وقت فناء القدرة ولا قدرة معه ولا يقول بإرتفاع الإطلاق والتخلية وقت الفعل ليعلم بذلك بعده فيما قدر ولا قوة إلا بالله


ثم تكلم في سؤال الرزق بوجه لا يرضى به سؤال بل الوجه في ذلك أن الله تعالى إذ ضمن الرزق بقوله وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها كان ذلك يملك بملكه أو بما يطعمه فأما أن يكون لأحد قدرة في منع الله عن وفاء ما ضمن من الوجه الذي ضمن حتى يلحقه الخلف في الوعد والعجز عن وفاء شيء ضمنه فيكون الله في فعله تحت قدرة غيره وبغيره يقدر على إنجاز الوعد ووفاء العهد وهذا أمر عظيم أو لا يكون فيبطل أن يكون أحد يرزق بما هو في الحقيقة رزق غيره من ذلك الوجه أو يقدر عليه ولو كان ذلك فيما القدرة معه لكانت هذه الوحشة تلحقه إذ علم أنه من ذلك الوجه يطلب رزقه


قال سأل الوراق فقال يقال لهم هل اتقى أحد معصية الله وهو قادر مراقبته لله فإن قالوا لا أعظموا القول في وصف الأنبياء إنهم لم يفعلوا ذلك وإن قالوا نعم لزمهم القول بها قبل الفعل


نقول له وبالله التوفيق إن عنيت بالقدرة الأسباب التي هي أحوال القدرة التي تعرض لا محالة لولا التضييع من العبد فبلى وكل الأنبياء كذلك كانوا وكذلك الأخيار وإن أردت به القدرة التي هي مع الفعل أحلت السؤال وصرت كمن يقول هل راقب الله أحد في إبقاء المعاصي وهو فاعل لها وذلك مما لا






----------------------------------- صفحة 285


معنى له وهو يعارضك فيقول هل راقب الله نبي من الأنبياء في إبقاء معصية علمها منه أو أخبرها عنه فمهما أجاب في شيء فمثله الأول ثم يقال هل تفضل الله على أحد من أوليائه بمنع قدرة عداوته فإن قال نعم نقول إن الله لم يعط أوليائه قدرة معاصيه فعليه في أعدائه أيضا أنه لم يعطهم قوة طاعته وفي ذلك ما أنكر آنفا وإن قال لا زعم أنه أعطى أولياءه قوة عداوته ومن قولهم إنه لم يعط أعداءه قوة العداوة فالآن صار إلى أن أعطى أولياءه قوتها وذلك عظيم ثم يقال هل أعطى الله وليا قوى على تلك الطاعة حين الطاعة فإن قال لا فالوحشة في طاعة لم يقو عليها ليست بدونها في إجتناب معصية لم يقو عليها بل قوى على ترك المعصية وعندهم لم يقو على الطاعة وهذا أوحش ثم يقال هل والى لله ولي أو عاداه عدو بفعل قوى عليه فإن قال نعم أقر بالقوة مع الفعل وإن قال لا زعم أن العداوة والولاية بما لا يقوى عليه وذلك بعيد ولا قوة إلا بالله


وقال من أحمد من لو قدر على المعصية عصى وهو النبي أو من قدر على الطاعة أطاعه وهو إبليس قيل إن عنيت الأسباب فالأول وإن عنيت القوة التي معها الفعل أحلت ومثله عليك في العلم والخبر ثم يقال له من أطوع لله من لو والاه الله أطاعه أو من لو عاداه عصاه فبأي شيء يجيب في ذلك فهو له في الأول جواب ولا قوة إلا بالله


وقال آخر إنه لا عذر للعبد في الشاهد أعظم من أن يقول لو قيل له لم لا فعلت كذا فيقول لأني لا أقدر عليه فمثله في الغائب قيل هذا يكون عذرا فيما يمنع عنه القدرة لا فيما ضيعها باتا وما منع حدوث القدرة وكذلك أيضا في الشاهد لا عذر أوسع من أن يقول لم أعلم أمرك ولا نهيك






----------------------------------- صفحة 286


ولا علمت أن فعلى يغضبك فإن لم يكن عذرا مما أعطى ما لو لم يترك طلبه ليبلغه فمثله في القوة


وبعد فإنه لا عذر على ذلك أيضا أعظم من أن يقول لأنك أخبرت أنى لا أفعل وكذلك علمت فقلت لو فعلت لصيرتك جاهلا كاذبا فلم أفعل لهذا وأن يقول أيضا لي عليك أعظم المنة لأنك أقدرتني عليه وجعلت أمر ربوبيتك في يدى وأقدرتني على نقضه فلى عليك أعظم المنن وعندك أكثر الأيادي فمهما أجاب من شيء فذلك أعظم منه جوابا له ولا قوة إلا بالله


مسائل في الإرادة


مسألة الإرادة يمكن أن تلحق بمسألة خلق الأفعال من الوجه الذي لو ثبت خلقها والله مختار مريد لما يكون منه ثبت القول بالإرادة من الوجه الذي يوصف بالخلق وإن لم تثبت تبطل من الوجه الذي أريد بالإرادة في الأفعال دفع الغلبة والسهو إذ ذلك معنى حقيقة الإرادة في الشاهد إلا أن يراد بالإرادة التمنى أو الأمر والدعوى أو الرضا ونحو ذلك مما يجوز أن لا يوصف الله ببعض ذلك في كل شيء وينقض ذلك في شيء البتة ولا قوة إلا بالله


ويمكن أن تفرد عن تلك بما أفردها أهل الكلام وإن كان الحق هو الأول على أن في إيجاب القول بالإرادة في كل شيء إيجاب القول بخلق






----------------------------------- صفحة 287


الأفعال مع ما يمكن الإستدلال في هذا بأشياء ليست في الأول وإن كان في تحقيق الكلام في هذا تحقيق في الأولى قال الله تعالى فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام إلى قوله كأنما يصعد في السماء أخبر أنه يريد هداية قوم بأفعالهم بهدايته وإضلال قوم بجعل قلوبهم ضيقة حرجة وقال عز وجل من يشإ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط ففرق بين القوم بالمشيئتين فدلت الآيات على أن الله شاء لكل فريق بما علم أن يكون منهم ودل على أن المشيئة في هاتين الآيتين ليست بأمر ولا رضا قال تعالى ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها وقال ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة وقال فلو شاء لهداكم أجمعين ولا يحتمل أن يكون هذه المشيئة رضا أو أمرا لما قد كانا ثبت أنه أراد به المشيئة التي يكون عندها فعل لا محالة ولا يحتمل أن تكون قد كانت وهو يقول لو كان ليكون كذا وفي تحقيق الكون دون الموعود به كذب جل الله عن ذلك ولا يحتمل تأويل القسر لأوجه أحدها أن الله قد علمهم كيفية الهدى ومائية دينه وما به وجود حقيقته فلا يحتمل أن يريد بهذا ضد ذلك من غير أن يتقدم الإعلام في إحتمال هذا الإسم ضد الذي هو اسمه في الحقيقة عندهم بتعليم الله ذلك لهم ولا قوة إلا بالله والثاني أن طريق معرفة وحدانية الله والإيمان به وبرسله طريق الإجتهاد






----------------------------------- صفحة 288


والإستدلال وذلك نوع ما لايحتمل الإضطرار ولو جاز علم الإضطرار فيما ليس في الخلقة احتماله لجاز نفى علم الإضطرار فيما كان ذلك طريقه فيبطل علم العيان مع ما كان ذلك طاعة وإئتمار والجبر يسقط ذلك كله فيصير في التحصيل كأنه قال لو شاء لمنعكم عن الإيمان وعن ملة واحدة وهذا خلف من القول وإنما أخبر أنه لو شاء لجمعكم على على الهدى وقد آمن بعضهم بالإختيار ولو كان جبر البقية لم يكن ليجمعهم ولكن يمنعهم عما أبوا به من دينه وطاعته وذلك بعيد وحش وأيضا أنه لا صنع للخلق في موضع الجبر والقهر وإنما يرجع ذلك إلى إيمان الخلق وكل جوهر بخلقته مؤمن مهتد بل به هداية كثير من الخلق فإذا ذلك قد شاء وقد كان بالقول بلو شاء لا معنى له وعلى ذلك قوله ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا وأيضا مما يبطل تأويل القسر قوله ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم ومشيئة الجبر لا تسقط ما ذكر أنه حق ولا قوة إلا بالله


وقال الله من يشاء الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم وعند المعتزلة إنه شاء جعل الكل على ذلك وهو عز وجل وعد أن يكون الذي شاء كذلك فلم يكن وقال عز وجل ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله فلا يخلو هذا الشيء من أن يكون في الخيرات فهو لغو على قولهم لأنه قد شاء وإذا لم يكن أيضا يصير كأنه مأمور بالقول الكذب






----------------------------------- صفحة 289


لأنه أمر أن يقول كذا ولم يكن كذا وإن كان شرا لا يشاءه فذكره عندهم لا معنى له ولا قوة إلا بالله


وقال الله عز وجل فعال لما يريد امتدح جل ثناؤه بالفعل لما يريد وعند المعتزلة ما يريد من الخيرات التي تكون من الخلق مما لو اجتمع الخلق على إحصائها لم يبلغوا جزءا من ألف جزء مما أراد فلم يفعل وهو عز وجل تمدح به ثم من عظيم قولهم إن عند الله مشيئة جبرا لو كانت لكان الخلق على ما قال فمن يصدقهم على هذا الدعوى أن له هذه القدرة أو المشيئة التي تعمل هذا العمل بعد أن ظهر للخلق كل هذا الخلف في وعده وهذا العجز في فعله أو متى يؤمن بوعد من وعد الخلق أن يفعل ما يريد أكثر مما يبلغه حساب الخلق ثم يخلف ومن يثق بعد هذا بوعده أو متى يخاف وعيده وهذا محله عندهم فإن أراد أن يظهر عجزه وخلفه وما لا يليق بوصف الحكمة فأي شيء كان يبدي ليعلم به هذا على مذهب الإعتزال جل ربنا وتعالى عن ذلك


وقال تعالى وإذ أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها أخبر أنه يريد إهلاك قوم وقرية بفسق أهلها قبل أن يكون منهم الفسق فلو لم يرد كون الفسق منهم كما علم أن يكون ولكن أراد أن تكون الطاعة ويهلكهم كان يكون ذلك جورا فثبت أنه أراد الذي كان منهم أو علم ذلك وقال نوح لقومه ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم وقلت لا يريد ذلك وصرفت كلام نوح إلى ما لا يحتمله وهم البشر وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأمولا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك وأنتم تقولون لم يؤتهم لذلك ولكن آتهم ليهتدوا وقال تعالى






----------------------------------- صفحة 290


أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم وأنتم تقولون بل أراد الله ذلك وقال ومن يرد الله فتنته وأنتم تقولون لم يردها أو تقولون هذه محنة وأنى كان رسول الله يريد أو يتمنى أن لا يكون حتى يقال له فلن تملك له من الله شيئا وقال الله تعالى ولا يحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم خير لأنفسهم وقال تعالى ولا تعجبك أموالهم وأولادهم أخبر ما يريد بهم بما أعطى وهم يقولون لا يريد فما يقال لأمثال هؤلاء إلا ما قيل لليهود والنصارى أأنتم أعلم أم الله وقال الله جل ثناؤه لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين فنقول لهم أراد الله عز وجل أن يفى بما وعد هذا أو أراد أن يكذب وعده ويبطل وعيده فإن قالوا بالثاني أعظموا القول ووصفوه بإرادة السفه والكذب وكفى بهذا القول خزيا وإن قالوا أراد أن يفى به قيل أراد أن يفى به وهو يريد أن يطيعوه فيفى وهم يطيعون له أو يعصون فإن قال بالأول فهو جور أراد لأنه فعله جور فإرادة كونه إرادة فعل الجور أن يكون له فعلا وقال الله تعالى وما الله يريد ظلما للعباد وإن قال بالثاني أذعنوا للحق وقالوا بالعدل ولا قوة إلا بالله


وقال الله تعالى يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة ومن أراد أن يكون منه كل خير فقد أراد له الحظ في الآخرة وقال تعالى تريدون عرض






----------------------------------- صفحة 291


الدنيا والله يريد الآخرة وقال تعالى يريد الله أن يخفف عنكم فأراد للمؤمنين هذا فكان ذلك وللكافرين الأول فكان ذلك ولا يجوز أن يريد الأول وهم مطيعون ثبت أنه أراد أن يكون منهم ما قد كان وبالله العصمة والنجاة


وقال الله تعالى وما تشاءون إلا أن يشاء الله فإذا كانوا لا يشاءون إلا أن يشاء الله لايجوز إذا شاء الله أن لا يشاءوا ويشاءون وإن لم يشأ فإن ذلك آية الكذب الذي هو قبح الله في العقول وبالله المعونة والتوفيق


ثم قول المسلمين المتوارث بينهم ما شاء الله كان وما لم يشأ لا يكون على غير اضطراب قلب لأحد أو توهم غير وعلى غير سبق الوهم إلى خلاف لما عليه المشيئة المعروفة التي لديها يقع فعل الإختيار والإضطرار جميعا على أنه لو جاز أن يشاء شيئا لا يكون ويشاء أن لا يكون فيكون لم يكن الكون بالأول أحق من أن يكون من صفات الربوبية من الثاني ولكل موضع بل لو قيل إن ذا يغلب على الأول عندهم لم يبعد ولا قوة إلا بالله


وأيضا تعارفهم في الوعد إذ حذروا الخلف إن شاء الله وفي اليمين إذا خافوا الحنث قالوا ذلك ثبت أن عقد جملة المسلمين واحد قبل تمويه المعتزلة وهو كمال قال كل مولود يولد على الفطرة إلا أن أبويه يهودانه وينصرانه ويمجسانه بين الخلقة يوجب شهادة ودلالة وحدانية الله تعالى حتى يجيء التلبيس ممن ذكر وكذلك أمر المشيئة عند الجميع قبل تلبيس المعتزلة ولا قوة إلا بالله


وأيضا الموجود في عرف الخلق من الدعاء بإرادة اليسر والخير لهم على طمأنينة القلب بحقيقة ذلك لو كانت ثمة إرادة ولا قوة إلا بالله






----------------------------------- صفحة 292


وأيضا عظم القول في القلوب بأن ما شاء إبليس كان وما لم لا يشأ لا يكون على العلم بكون ما لا يحصى من الشر وخروج الخير من الكون في ذلك ووجود مشيئة إبليس بذلك ثبت أن كون حقائق الأشياء بما لله فيها مشيئة وإمتناعها عن الكون لذلك لذلك استحسنوا إضافة ذلك إلى الله واستقبحوا إضافته إلى إبليس وغيره من العصاة ولا قوة إلا بالله


ثم العبرة بما يوجبه ضرورة العقل وهي توجب ذلك إذ يعلم كل أحد أن فعله يخرج على غير الذي يريده من الحسن والقبح واللذة والألم والمحبة والسخط ثبت أن لغيرهم في خروج فعلهم على ما خرج إرادة على تلك الإرادة يخرج الفعل والله الموفق


وأيضا أن إحداث شيء في سلطان آخر وفي مملكته من حيث لا يشاء ولا يريده آية الضعف والقهر ومن ذلك وصفه محال أن يكون ربا وإلها لذلك لزم وصف الله بذلك والله الموفق


وأيضا أن الله تعالى لو أراد أن يكون الكفر غير الذي يعلم أنه يكون غير الذي أخبر أنه يكون أراد أن يكون كذابا سفيها ومن تلك إرادته لم يجز أن يكون إلها وربا ولا قوة إلا بالله


وأيضا في الحكمة أن كل من صنع أمرا يريد غير الذي يكون به كان يكون جاهلا بالعواقب أو عابثا بالفعل والله تعالى يجل عن هذين الوصفين ألا يرى أن من بنا لشيء يعلم أنه لا يكون كان ذلك منه عبثا ولو كان به شيء غير الذي يريده كان جاهلا به وأيضا أن الخطأ المعروف في الشاهد نوعان أحدهما خروج الفعل على تقدير يجهله والثاني وقوعه في غير الذي يريده فلو كان الله تعالى يريد بما أعطى غير الذي يكون به لكان يكون فعله خطأ على ما عرفنا الله تعالى من فعل الخطأ وبالله التوفيق






----------------------------------- صفحة 293


وأيضا أن الذي عليه أمر الشاهد أن كل من أراد موالاة من يختار عداوته كان يكون عن ضعف وخوف فلا يجوز أن يكون الله تعالى يريد مولاة إبليس والذين اختاروا عداوته ولا قوة إلا بالله


وأيضا أن شرط كل من فعله اختيار الإرادة وكل من فعله الإضطرار أنه غير مريد لذلك فلو كان الله لفعل العبد غير مريد ليكون على ما كان يكون مضطرا ولذلك لا يجوز أن يكون لأحد في فعل غيره إرادة لما لا يحتمل خروجه على ما يريد وسموا ذلك تمنيا فعلى ذلك لو توهم كون شيء لم يرده الله كانت إرادته تخرج مخرج التمنى وأيضا أنه لو جعل لنا أن نبوة نبي بقول بشر يكون ذلك معصية لنا أن نريده من حيث يكون آية وإن لم يكن له أن يعصى فمثله إذ علم الله أنه أخبر عن ذلك وأنه علم أن لا يكون كان له أن لا يريد في الحكمة على أنه لا يختلف أن ليس للعبد أن يسأل الله هداية من يعلم أنه لا يهتدي نحو إبليس لم يكن له أن يقول اللهم اهده لما يعلم أنه لا يكون ثم محال أن يكون علينا إرادة ذلك وإذ لم يكن علينا إرادة ما يعلم أنه لا يكون لم يجز أن يقال ذلك على الله إذ كونها علينا إنما يكون إذا جهلنا بحاله ولا قوة إلا بالله


ثم نسأل عمن يريد أن يكون شتم رسول الله مثل شتم إبليس في المرتبة والمأثم أليس هو بمتعد سفيه كافر لا بد من بلى فيقال من أراد أن يكون شتم رسول الله أمرا عظيما لا يبلغه شتم أحد من الخلق أن يكون محمودا لا بد من بلى قيل فمن يريد أن يكون الشتم منه كذلك إذ محال كونه لا من أحد أعظم ولا بأصغر ولا نحو ذلك فلا بد أن يقول من كافر وفي ذلك جواز إرادة فعل الكفر من وجه لا يحتمل الذم من ذلك الوجه وبالله التوفيق


ثم الأصل الذي هو معتمد المعتزلة أن إرادة الله ليست غير خلقه وأن تأويلها على ما فسر الكعبي ليس غير أنه لم يغلب ولم يضطر في فعله وهذا المعنى قد أعطوه جميعا في فعل العباد فإنكارهم الإرادة وهذا معناها لا معنى له بعد الإعطاء في الجملة والله الموفق






----------------------------------- صفحة 294


والأصل عندنا إذا سئلنا عن مشيئة الله فعل الكفرة على ما كان وجهان أحدهما القول بذلك في الإطلاق على ما عرف من الإرادة في ذلك والثاني منع الإطلاق إذا لم يفهم مراد السائل أو خشى أن يريد التعنت في ذلك وهو أن يقال إن للمشيئة معاني فيما يتعارف أحدها التمنى وذلك عن الله منفى في كل شيء والثاني الأمر والدعاء إليه فذلك منفى عن الله في كل فعل يذم فاعله والثالث الرضا به والقبول له وذلك كذلك أيضا في كل فعل يذم عليه والرابع تأويله نفى الغلبة وخروج الفعل على ما يقدره ويريده وهذا يقول ذلك وقد أجمع على معناه فمن أنكر ذلك بعد إعطاء معناه فهو قدر المشيئة على غير حقيقة المراد منها وهو عندنا لازم إذ هو لكل شيء خالق وقد ثبت وصفه فيما يخلقه أنه غير مضطر إليه ولا يكره عليه ولا قوة إلا بالله


ثم نذكر وهم الكعبي فيما ذكر في هذا الباب سأل نفسه عن قول الناس ما شاء الله كان وما لا يشاء لا يكون فأجاب بالذي في تأويل قوله خالق كل شيء أنه ليس في إرادة الشتم له مدح وقد بينا ذلك على أنه في إرادته أن يكون كاذبا فيما أخبر به حقيقة الشتم وليس ذلك في إرادة كون فعل الشتم ممن يشتمه قبيحا شتما يدل على ذلك العلم به في الوجهين أنه في الأول جهل وخطأ وفي الثاني حكمة وصواب وصرف المشيئة إلى القهر وقد بينا وهمه على أن معنى القهر في هذا أو في غيره محال لأنها هي في الإيمان والكفر والكذب والصدق وهو لو خلق الكفر والكذب لا عن أحد في الحقيقة يكون كافرا كاذبا عند جميع من يرى خلق الشيء ذلك الشيء فذلك يلزمهم أن يقولوا تأويل قول المسلمين ما شاء الله كان أي لو شاء الكفر






----------------------------------- صفحة 295


والكذب وهذا التأويل مما لا يرضى به مجنون أن يوجه إليه قوله فكيف جملة المسلمين وبالله التوفيق


ثم خرج من المعارضة بأخرى يقول بها على المسلمين فقال هم يقولون ما أحب الله كان وما لم يحب لا وهذا لم يسمع من شيطان فكيف من مسلم


ثم عارض بقولهم أمر الله نافذ ولا مرد لأمره قيل لهذا وجهان أحدهما أمر التكوين كقوله إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فهذا لا مرد له ويدخل في ذلك فعل الخلق جميعا وهو مثل الأول والثاني أن يراد به حقيقة حق الأمر أن لا يرد عن الوجه الذي يكون الأمر وما به الأمر فيما لم يكن لم يخرج الأمر عن حدة وتزول الإدارة إذ هي المكون والأمر ليفعل به ألا ترى أن كل مختار في الفعل موصوف بالإرادة ولا يجوز أن يقال هو مأمور لإحالة وصف الله به ولا قوة إلا بالله


وقال في قوله وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الإستقامة كانت بها وذلك فاسد لأن الله قد شاء فلا يكون فلا يجوز فيما يكون بها إلا على قولنا إنها تكون لا محالة إذا شاء الله


ثم قال أتريد الله أن يشتم وقد أخطأ في السؤال بل حقه أن يقال أتريد الله أن يكون فعل الشتم ممن يشتمه قبيحا مسخوطا ثم قال معاذ الله لأنه نهى عنه وغضب عليه ولا يفعل الحكيم ذلك


قال الشيخ رحمه الله قيل أحكيم لا يشاء ذلك مما لو كان الذي شاء يصير كاذبا سفيها فإن قال نعم بان جهله بالحكيم وإن قال لا ألزم القول بالمشيئة إذ في فوت ذلك كذبه وسفهه ولا قوة إلا بالله






----------------------------------- صفحة 296


أن النهى ليس من الوجه الذي ذكرنا وكذلك الغضب وهذا النوع مما قد ذكرنا منه الكافي في باب خلق الأفعال


وبعد فإنه إذا أراد لما علم أن يختار هو عداوته أن يكون منه عدوا ليزول معنى الضعف ويظهر الغنى عنه وعن فعله كما قال إن الله لغني عن العالمين على أنه يزعم أن معنى الإرادة أن لايغلب وقد وجد في هذا فليقل ما شاء فهو له في الأول جواب وأما جوابه بالمحبة والرضا فإنه لا يجوز أن يقال إن الله يحب إبليس ويرضى به وكذلك الخبائث والأقذار وإن كان أراد كونهم فمثله فعل الكفر وكذا كل قبائح الصور والجواهر والله أعلم


وأجاب لما عورض من الزيادة في ملكه مالا يريده بالرضا والمحبة وقد بينا التفريق في ذلك بما هو فعله ثم قال إذا قدر على المنع فلم يمنع فليس بممنوع فيقال له لو قدر وهو لا يريده ليمنع فدل كونه بلا إرادة أنه لم يقدر ومما يبين ذلك أنه لو قهرهم على الإسلام لم يكونوا مسلمين قهرا يبين أنه لم يكن يقدر على ذلك وذلك حق الغلبة والقهر في الشاهد ولا قوة إلا بالله


وعارض بتركهم فيقال ليس في الترك خلاف له في الإرادة فيلحق ما ذكرنا من الزيادة في ملكه ما لا يريده وبالله التوفيق


وعارض بمثله في الشاهد وهو خطأ لوجهين أحدهما ان ملكنا لا يقدر على المنع وإلا كان يمنع عن كل شيء لم يرده والثاني أن ذلك ليس في ملكه ولا سلطانه لما ليس لملك الأرض على أفعال غيره ملك ولا سلطان ولا قوة إلا بالله


ثم عارض نفسه بما يعقب خروج الشيء عن علمه جهلا لم لا أوجب خروجه عن إرادته نقصانا وهو عجز فقال إنما يعقب الكراهة لا النقصان قيل كراهة النهى كذا والغلبة تحدث نقصانا وفي كتاب الله أيضا دليل






----------------------------------- صفحة 297


الفرق بين المحبة والرضا وبين الإرادة والمشيئة بقوله ولا يرضى لعباده الكفر وقوله والله لا يحب الفساد وقوله إن الله يحب التوابين لايحب المعتدين وقال في المشيئة من يشإ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم وغير ذلك مما يوجب تخصيص المحبة والرضا وتعميم المشيئة والإرادة مع ما يوصف بهما من أفعاله ولا يوصف بالرضا والمحبة على أن المشيئة صرفها إلىالقوة حتى جعلها بحكم القسر فلذلك قوتها توجب ذلك وألأصل في ذلك أن المحبة والسخط معنيان يوجبان بفعل العباد وليست المشيئة كذلك لما ليس في أفعال العباد معنى يوجب المشيئة إلا أن يراد بها الرضا أو التمنى ولا قوة إلا بالله


وفي الشاهد قد يفعل الرجل ما لا يرضى به ولا يحبه ومحال حقيقة فعل لا يريده وكذا معنى الإرادة متقدم عندهم على الفعل وعندنا معنى يكون معه ولا وجه لها بعده وأمر الرضا والسخط والمحبة ونحو ذلك يكون من بعد في المتعارف أبدا ولا قوة إلا بالله


ثم احتج بقوله تعالى يريد الله بكم اليسر ونحو ذلك وقال ولا يريد بكم العسر والكفر أعسر العسر قيل الإرادة في هذا تخرج على الإذن والإباحة والرخصة ليس ذلك من أمر الإيمان في شيء فكذا إرادة العسر وأيضا أنه لو كان على الأمرين فالوجه أن أولئك قوم قد آمنوا فلم يكن لهم في التحقيق غير الذي أراد فلو كان من الكافر أراد الإيمان لكان






----------------------------------- صفحة 298


لا يكون سواه كما إذا أراد الإيمان لم يكن غيره وعلى هذا قوله تعالى فمن يرد الله أن يهديه وأيد ذلك قوله يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة وبين في المؤمنين والله يريد الآخرة دل أن كل من أراد له الإيمان أن يكون فعله أراد له الآخرة ومن لم يرد لا ولا قوة إلا بالله


واحتج بقول الله تعالى وما الله يريد ظلما للعباد


قال الشيخ رحمه الله فنقول كذلك ومن أراد عدواة إنسان له عداوة أو فعله الظلم قبيحا فاحشا فليس بمريد لهم الظلم بل أراد لهم العدل قال الله تعالى وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ثم قال في إبليس لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه سماه باطلا لا أن خلقه باطلا فمثله إرادة فعل الكفر من الكافر باطلا وظلما لا يكون منه إرادة الظلم للعباد وتأويله قوله وما ربك بظلام للعبيد


وبعد فإنه في الإعتبار به جائز لأن إرادة ما يعلم أن يكون ليكون عدلا إذ هو أراد جزاء فعله لا أن يعاقبه على أمر لم يفعله والله الكافي


ثم سئل عن إراد رسول الله إنهزام المشركين فزعم أنه أراد لينظروا فيما دعاهم إليه


قال الفقيه رحمه الله فالإنهزام طاعة أو معصية وكذلك الحال إلى وقت النظر وفي ذلك الدوام على المعصية لا بد أن يقول معصية فيجوز أن يراد به لا على قصدها لبعض المصالح ومثله قوله إني أريد أن تبوأ بإثمي






----------------------------------- صفحة 299


وإثمك إنه يجوز إرادة فعل هو معصية لا على قصد عصيان وكذلك معاصي المؤمنين كلها كانت على أفعال من عاصيهم وإن لم يريدوا معصية الله بل لو أرادوا لكفروا فهذا يبين أن إرادة فعل يكون من فاعله معصية لا يكون كإرادة المعصية فمثله إرادة الله فعل الكافر ليكون منه معصية أو فعله الشتم ليكون مشتما قبيحا لا يكون كإرادة الشتم والمعصية ولا قوة إلا بالله


ثم عارض بأن رسول الله رضي منهم الإنهزام وذلك فاسد لأن الإنهزام منهم لم يكن لرسول الله أو الله فيتكلم فيه بالرضا وغير الرضا ولا قوة إلا بالله


ثم عورض بما كان كفر أكثر عباد الله بأن أراد إبليس والله أراد منهم الطاعة فصارت إرادة إبليس في ملك الله وسلطانه أبعد من إرادة الله فأجاب بالرضا والمحبة والسخط وقد بينا نحن الفصل بين الأمرين على أنه يكون فعل يرضى به المرء ويسخط من غير أن كان وقت فعله ومحال ذلك في الإرادة ثبت أنها شرط الفعل فيما يظهر التعجيز إذ لا يخلو عنها فعل المختار وأيضا إنا لا نقول بأن الله يحب من يعلم أنه لا يؤمن أو يرضى منه لأنهما يحبان بالفعل فمن لا يفعل بالقول به بعيد وأما الإرادة فقد بينا والله أعلم


والأصل في هذا في المتعارف أن الفعل يخرج على إرادة أو غلبة أو غفلة ثم الله سبحانه لا يجوز أن يوصف في فعل العبد بالغلبة أو الغفلة ثبت أن كان بالإرادة والمعتزلة لا يثبتون لله معنى في الإرادة سوى كون العلم بعد أن لم يكن من غير ضرورة له وهذا المعنى هو في فعل كل من أهل العالم قائم فلا وجه لإنكارهم على قولهم وبالله العصمة






----------------------------------- صفحة 300


ثم قال إرادة إبليس هي التمنى ولو أراد العباد ما كفروا والله يقدر على منعهم بالقهر


قال الفقيه رحمه الله قلنا له قد صدقت والإرادة قد توجب الغلبة والتمنى لا فكيف غلب تمنى عدوه على إرادته وقوله يقدر ويقهر وهذا النوع إنما هو أثر الحيرة والوحشة ولا يجوز الإيمان بالقسر بوجه ثم قال فإن قيل هل رأيت حكيما يقدر على منع عبده عن أمر لا يريده ولا يمنعه فعارض بالجبر وذا خطأ لأنه عندنا يريده وليس المنع من شرط ما يراد ثم قال فإنه يدع لوجهين لا يريده ولا يجوز له المنع لضرب من التدبير


قال الشيخ رحمه الله إن كنت على الشاهد تقدره فلا تجده إلا أن لا يقدر عليه أو هو لم يرد الفعل به قال ومنها ما يجب المنع فدل أن المنع إن وجب وجب لعلة لا لعينه وما يذكر من العلة فإن كانت أوجبت الإضطرار فهو الذي قيل لا يقدر عليه وإن كان لا يوجب وقد يملك القهر لا بالتعدي فهو لا يسعه عندنا وهو خارج من العرف ولا قوة إلا بالله


وقال في جواب ما عورض بقوله فمن يرد الله أن يهديه أن تأويله معروف وهو أن من أطاعة أتاه من لطائفه ما لا يقدر عليه غيره وسماه بالأسماء الشريفة وحكم له بالأحكام الرفيعة ثوابا لطاعته ليزداد له الرغبة كقوله والذين اهتدوا زادهم هدى ومن عصاه منع منه ما ذكر فيضيق صدره كما وصف ولا يفعل بأحد ذلك إبتداء كالآية التي ذكرتها وقوله وما يضل به إلا الفاسقين ثم قال فلا يجوز ذلك ابتداء من غير استحقاق العداوة والولاية






----------------------------------- صفحة 301


لأمرين أحدهما أن ليس به هوادة ولا محاباة والثاني أن من يفرق عبيده بالحرف لم يكن له العود باللوم منهم على أحد


قال الشيخ رحمه الله أما ما ادعى على الآية أنها معروفة فهذا يدل على جهله بالمعروف والمنكر وقلبه القصة ثم أخطأ في صرف الآية إلى ما بعد الإسلام المعروف من النطق لأنه قال فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام فأثبت له الإسلام إذ شرح صدره لا أن شرح بعد أن وجد منه الإسلام ثم أعظم منه جرأته على الله أن مثل هذا يكون هوادة ومناجاة وما كان عليه إذ علم من صفته جرأته هذه في خاص نفسه أن لا يبدي ذلك ولا يعارض نفسه بما لا يضطر إليه لكنه عوقب بجهله بالله وصرفه كناية عن جهته طلبا لإقامة مذهب هو ينتج الزندقة فنعوذ بالله من الخذلان ثم يقال من أسلم وقت إسلامه أسلم وقلبه مشروح له ووقت كفره قلبه ضيق أو هما واحد في الشرح والضيق فإن قال كانا واحدا ظهر كذبه عند كل من يحفظ ابتداء دينه من إسلام أو كفر ثم يسمى ما يعلم كذبه كل مسلم وكافر من الله هواده مرة ومحاباة بائنا وصدا عن الحق ومنعا ليعلموا جرأته وسفهه ولا قوة إلا بالله


ثم يقال له الذي يريده بعد الإيمان أو يحرمه بعد الكفر وكان في ذلك معونة في الدين وتيسير عليه أو لا فإن قال لا بان بهته وسقط موضع جعل ذلك ثوابا أو عقابا وإن قال بلى فقد أقر عليه مذهبه ببذل شيء هو أصلح له في الدين ثم يقال هل رأيت كافرا بعد أن آمن أو أخبرت كون ذلك أو مؤمنا بعد الكفر لا بد من بلى قيل أكان إعطاء الثواب ومنعه ذلك الشرح أو لا فإن قال لا ألزمه الخلف في الوعد والكذب في الخبر وإن قال نعم قيل أي نفع له في تلك الفوائد أو أي ضرر عليه في التضييق إذا ليجعل ذلك ثوابا أو عقابا ويمنع جواز ذلك ابتداء بما سماه مرة هوادة ومرة محاباة ومرة صدا ومرة منعا نسأل الله العصمة عن قول هذا عقباه






----------------------------------- صفحة 302


ثم من احتج منهم بقوله سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا فالجواب لذلك من أوجه ثلاثة أحدها أنهم ادعوا به الأمر كقوله وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها وكذلك قوله وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب والثاني أنهم لما أوعدوا في ذلك قد أمهلوا فلما أمهلوا ظنوا كذب الرسل وحسبوا أن ذلك مما لله فيه الرضا وإلا لم يكن يمهلهم وكذلك ظن أصحاب السبت وذلك كقوله تعالى حتى إذا استيأس الرسل والثالث أن يكونوا قالوه على الإستهزاء بالمؤمنين بما يدعون أن كل شيء بمشيئة الله كقول الإنسان إذا ما مت لسوف أخرج حيا إنه قال ذلك على الإستهزاء بالمؤمنين وإن كان ذلك حقا وكذلك قول المنافقين نشهد أنك لرسول الله ولكن ذلك لما كان الهزؤ طعنوا به فمثله الأول والله أعلم


أيد ذلك آخر الأية قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين وغير ذلك ولا يحتمل لما مر بيانه وقال في قوله تعالى ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا إنه على الإكراه أن يمنعهم على الإكراه قسرا كما جعلهم شيوخا وشبابا ولكن شاء أن يبتليهم كقوله ولو يشاء الله لانتصر منهم وقد شاء ذلك بالنبي وأصحابه ولكن أراد به مشيئة القسر إذ ليس معها حمدا ولا أجرا






----------------------------------- صفحة 303


قال الشيخ رحمه الله وقد بينا ما يدل على وهمه على أنه من كان ممن سبق إلى قوله إن الله لو شاء أن يخلق فعلا ليس بفعل للخلق لا يقدر عليه حتى يجيء الكتاب بالإمتداح به والإقتدار عليه وإنما قدر ذلك من الفعل في غيره مما ظهر من فعل آخر ومما لا يبلغه حد البشر فمن كان يظن ان الله يعجز عن هذا النوع من الخلق ولا على حقيقة فعل الخلق بل لو أريد ذا لكان موضعه فيما ظن المعتزلة أنهم خلقوا خلقا ليس في العقول أرفع منه ولا أعلى في الحسن والفضل فرمت هذا المعتزلة على ألسن الضعفه فبين الله قدرته على مثل ذلك وإلا لا وجه لإنكار مثله ممن يقر له بخلق السماوات والأرض وما بينهما ولكن بين بذلك فساد قول المعتزلة إن الله قد شاء فلم يكن إذ هو لا يقدر على خلق أفعال العباد فقال وهو على كل شيء قدير جوابا لذلك وقال تعالى فلو شاء لهداكم أجمعين جوابا للأول وقوله ولو يشاء الله لانتصر منهم على أنه لو شاء تكذيب منذريه بل لا يشاء لانتصر منهم بما شاء ولكن شاء التأخير والثالث لانتصر منهم يهم ولكن شاء أن يبلو صحابة نبيه بالهزيمة ليبين الذين صدقوا كقوله تعالى ولقد فتنا الذين من قبلهم وقوله ومن الناس من يعبد الله على حرف وقال أبو حنيفة رحمه الله بيننا وبين القدرية الكلام في حرفين أن نسألهم هل علم الله ما يكون أبدا على ما يكون فإن قالوا لا كفروا لأنهم جهلوا ربهم وإن قالوا نعم قيل شاء أن ينفذ علمه كما علم أو لا فإن قالوا لا قالوا بأن الله شاء أن يكون جاهلا ومن شاء ذلك فليس بحكيم وإن قالوا نعم أقروا بأنه شاء أن يكون كل شيء كما






----------------------------------- صفحة 304


علم أن يكون فهذا الذي تقرر عندي من المحكى عن أبي حنيفة رحمه الله لا أنى ذكرته بلفظه ولا قوة إلا بالله


فإن قال قائل إذ قبح الأمر بالمعاصي لم لا قبح إرادة كونها قيل لأوجه أحدها التناقض في الأمر وليس ذلك في الإرادة لأن الفعل ربما يصير للأمر فمحال الأمر بالمعصية لأنه يصير بالأمر طاعة فيبطل معنى المعصية بها الأمر وليست الإرادة كذلك ألا يرى أن كل فاعل مريدا لفعله ومحال أن يقال أمر نفسه بفعله ثبت أنهما مختلفان ولا قوة إلا بالله


وأيضا أن الله يوصف بالإرادة في فعله ومحال أن يكون عليه أمر فيه فثبت أن أحد الوجهين ليس هو دليل الآخر مع ما كان الله تعالى مريد هلاك الأنبياء والأخبار وبقاء الأعداء والأشرار والسعة لهؤلاء في الدنيا ولم يأمر بذلك بل أمرنا بالدعاء بهلاك هؤلاء وبقاء أولئك والله الموفق


وأيضا إن فائدة الأمر رفعة الأمر وعلوه حيث استبعد الآخر وأظهر فيه حقه وعظم مننه التي بها استحق أن يكون سيدا له ومعبودا وحق الإرادة الإختيار ونفى الغلبة أن لا يقهر ولا يمنع عن سلطانه ولا يحال بينه وبين ملكه وفي دفع الإرادة هذا لذلك بطل أن لا يريد وكذلك في المنع عن الأمر والنهى لذلك لزم القول بالأمر والنهى على الأمرين ليظهر سلطانه وربوبيته ولزم الإرادة في الكل ليحق ملكه وعجز الخلق عن أن يريدوا في ملكه وسلطانه والله الموفق


وأيضا إن الله أمر إبراهيم بالذبح وفداء الكبش فلا يجوز أن يكون أراد فعل حقيقة الذبح ثم يمنع عنه بالبدل لأنه آية البداء وعلامة الجهل فكان الأمر لا بالذي به حقيقة الإرادة ولا قوة إلا بالله






----------------------------------- صفحة 305


وجملته ما بينا من انقسام معاني الإرادة والإتفاق على تحقيق المعنى الذي يذهب إليه وليس وراء ذلك إلا بمانع في اللفظ أو صرف عن جهته إلى جهة هي من تلك الجهة قبيح عند الخصم ولا قوة إلا بالله


ثم الأصل الذي يقع عليه الفعل في الشاهد أن يكون على إرادة أو غلبة أو سهو فكل من خرج في شيء عن الوصف بالغلبة فيه والسهو لزم الوصف بالإرادة التي هي للأفعال وأما التي هي لا لأنها في الحقيقة أقسام قد بينا ذلك فيما تقدم والله الموفق


على أن القول في الشاهد فيما في الحقيقة إرادة فهي التي تكون وبها الفعل لا محالة عندنا يكون معها وعند المعتزلة قبل الفعل بلا فصل وما عدا ذلك مما قد يكون الفعل إذا وجد ولا يكون فهو التمنى المعروف والله يجل عن هذا الوصف ثبت أن إرادته على الوجه الأول وأنه يتحقق الفعل على الوجه الذي أراد به ولا قوة إلا بالله


مسألة في القضاء والقدر


الأصل عندنا أن هذه المسألة ومسألة الإرادة كلها في خلق الأفعال إن ثبت ذلك ثبت هذه إذ خلق الأفعال يثبت القضاء بكونها والقدر لها على ما عليها من حسن وقبح ويوجب أن يكون مريدا لها أن تكون خلقا له وقد بينا في هذا ما نرجو به الكفاية لمن أكرم بالهداية لكن الناس أفردوا التكلم في مسألة منها فاتبعناهم في الفعل لما احتمل أن يكونوا أرادوا أن الحق قد يظهر بنوره لمن تأمل بأي لفظ من الألفاظ يعبر به عنه ليعلم أن الحق لا صار حقا للسان ولا لنوع من البيان لكن صار حقا بما له من الأدلة والبراهين ولا قوة إلا بالله






----------------------------------- صفحة 306


ثم القضاء في حقيقته الحكم بالشيء والقطع على ما يليق به وأحق أن يقطع عليه فرجع مرة إلى خلق الأشياء لأنه تحقيق كونها على ما هي عليه وعلى الأولى بكل شيء أن يكون على ما خلق إذ الذي خلق الخلق هو الحكيم العليم والحكمة هي إصابة الحقيقة لكل شيء ووضعه موضعه قال الله تعالى فقضاهن سبع سماوات وعلى ذلك يجوز وصف أفعال الخلق أن قضى بهن أي خلقهن وحكم كقوله فاقض ما أنت قاض بمعنى احكم ومن ثمة سمى العالم قاضيا بما يرد كل حق إلى محقه ويبين الذي هو حق ذلك وكذا قوله إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون وكذلك يجوز أن يقال حكم الله أن فلانا يفعل كذا في وقت كذا فيكون منه كذا في وقت كذا وحق هذا أن يكون حكم بما علم أنه يكون وحكم أيضا بالذي يستحق الفاعل بفعله من ذم أو مدح ثواب أو عقاب


وقضى أي أعلم وأخبر كقوله وقضينا إلى بني إسرائيل وعلى هذا الوجه أيضا يجوز ثناؤه ولا تمانع في جواز ذلك


وقضى قد يكون أمر كقوله تعالى وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وقوله وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا وهذا لايجوز أن يضاف إلى الله إلا في الخيرات


وقد يكون في معنى فرغ كقوله فلما قضى موسى الأجل لكن هذا النوع لا يجوز أن يضاف إلى الله لإضافة الشغل له بشيء أو فراغ له منه






----------------------------------- صفحة 307


إلا على مجاز اللغة في تحقيق انقضاء ما خلق ولا قوة إلا بالله


وقد ذكر غير هذا في القضاء مما ليس بنا إلى ذكره حاجة فيما نحن فيه


وأما القدر فهو على وجهين أحدهما الحد الذي عليه يخرج الشيء وهو جعل كل شيء على ما هو عليه من خير أو شر من حسن أو قبح من حكمة أو سفه وهو تأويل الحكمة أن يجعل كل شيء على ما هو عليه ويصيب في كل شيء الأولى به وعلى مثل هذا قوله إنا كل شيء خلقناه بقدر والثاني بيان ما عليه يقع كل شيء من زمان ومكان وحق وباطل وما له من الثواب والعقاب وعلى مثل أحد هذين المروى عن رسول الله عند سؤال جبريل عليه السلام إياه عن الإيمان أن قرن ما ذكرنا بالقدر خيره وشره من الله فالأول نحو خلق الشيء على ما هو عليه قائم ذلك في أفعال الخلق من خروجها على ما لا يبلغه أوهامهم من الحسن والقبح ولا يقدرها عقولهم فثبت أنها خرجت على ذلك بالله سبحانه والثاني أيضا لا يحتمل منهم تقدير أفعالهم من الزمان والمكان ولا يبلغه علمهم فمن ذلك الوجه أيضا لا يحتمل أن يكون بهم وهي غير خارجة عن الله وقال الله تعالى وقدرنا فيها السير وقال إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين ولا قوة إلا بالله


والكعبي زعم أن الله لا يقضى الكفر ثم فسر وجوه القضاء وجعلها في بعض ما فسر فإنكاره في الجملة على احتمال ذلك في أحد الوجوه خطأ ثم احتج بأن الكفر متفاوت وباطل وقضاء الله حق وصواب لمن لا يعلم أن القضاء بالباطل إنه باطل وبالمتفاوت إنه متفاوت عدل وحق وكذا قضاء الحكام فأفعال الجود والظلم إنها جود غير باطل ولا متفاوت حتى كاد يعرفها الصبيان فمن جهل ذلك ثم ادعى حدود الكلام فحق الكلام عليه أن يعرف ما الكلام ولا قوة إلا بالله






----------------------------------- صفحة 308


واحتج بما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال قال تعالى خبره من لم يرض بقضائي ولم يصبر على بلائي فليتخذ ربا سواي


قال الفقيه رحمه الله هذا مثل الأول وإن الرضا بقضائه أن تعلم بأن الكفر مضمحل قبيح وأنه شر وفساد وأنه يوجب مقت صاحبه وتعذيبه إلا أن يتوب فمن لم يرض بهذا فهو كافر فيكون على ما جاء به الخبر على أن الكفر والقبح هو فعل العبد ومحال أن يكون هو قضاؤه فثبت أن قضاء الله هو ما ذكرت مما عليه حقيقة الفعل ولا قوة إلا بالله


على أن حقيقة الخير في الأمراض والمصائب ألا يرى أن التخليد في النار من قضائه عند المعتزلة وكذلك الخذلان والإضلال ونحو ذلك فليرضى الكعبي لنفسه ذلك وإلا طلب ربا سواه والمعتزلة يقولون ليس لله القضاء بالأمراض والمصائب في الدين لا ذنب لهم إلا بالعوض فإذا هم لا يرضون بها حتى يعطوا عليها العوض وذلك معنى ما روى فليتخذ ربا سواي وقال علينا الرضا بقضاء الله


قال الشيخ رحمه الله وقد بينا كيف يرضى به وما عليه في ذلك أيضا ولا قوة إلا بالله


قال وفي قوله إنا كل شيء خلقناه بقدر والقدر مما ينبغي والكفر مما لا ينبغي وإنما القول بقدر منه فمن الوجه الذي ذكرناه ومن ذلك الوجه مما ينبغي


وبعد فإنه ينبغي أن يكون قدره قبيحا سمجا ثم قال سألك هل قضى الله الكفر وقدره يجب أن يستخبره عن المراد


قال أبو منصور رحمه الله فيقال إذ وجب ذا فجميع ما أجبت قبل الإستخبار عنه إغفال ولا قوة إلا بالله






----------------------------------- صفحة 309


والأصل في القضاء والقدر والتخليق والإرادة أن لا عذر لأحد بذلك لأوجه ثلاثة أحدهما أن الله تعالى قضى وخلق وما ذكر لما علم إن ذلك يختار ويؤثر وبما أراد وخلق وقضى يصلون إليه ويبلغون ما أثروه فلم يكن لهم الإحتجاج بما هو آثر الأشياء عندهم وأخيرها على ما لم يكن لهم ذلك بالعلم والكتاب والإخبار إذ كانت بالتي يكون منهم مختارين مؤثرين وبالله نستعين


والثاني إن جميع ما كان لم يحملهم على ما هم فعلوه لم يدفعهم إليه ولا إضطرهم بل هم على ما هم عليه لو لم يكن شيء من ذلك ويتوهم كونهم بلا ما ذكرت وقد مكنوا أيضا من مضادات ما عملوا فما ذلك إذ لم يضطرهم ولم يحول عنهم حقيقة بما علم كل منهم إنه مختار مؤثر فاعل ممكن من الترك لا كخلق سائر الجواهر والأعراض والأوقات والأمكنة التي فيها تقع الأفعال وإن لم يحتمل كون شيء من ذلك عذرا لهم أو حجة لم يكن ما نحن فيه حجة أو عذرا والله الموفق


والثالث إنه لم يخطر شيء من ذلك ببالهم ولا كانوا عند أنفسهم وقت الفعل إنهم يفعلون لشيء من ذلك فالإحتجاج لما ليس لذلك الفعل عند المحتج باطل وكذلك العذر بما لم يكن عند نفسه بالذي يفعل لكان ذلك باطل مضمحل ولو كان لهم بذلك احتجاج لكان لهم بالإخبار وبالعلم والتقوية ونحو ذلك احتجاج على أن لهم لو كان هذا اعتذار لكان لهم بما جهلوا الأمر والنهى والوعد والوعيد بما جهلوا موقع مأثمهم بالمحل الذي وقعت ولكان لهم بما لا يضر الله ولا يوهن سلطانه ولا ينقص ملكه عذر ولو كان لهم بذلك عذر لكان بما خلقهم على العلم بما يكون منهم عذر ولو كان لهم في ذلك احتجاج لكان بما هو واضح لهم من ذلك كله وهو الذي يكون مثله وقت الفعل متصورا في الوهم من نحو الكرم والجود والغنى عن تعذيبهم وبما هو عفو غفور وبما ليس له في طاعتهم نفع ولا عليه في معصيتهم ضرر فإذا لم يكن الإحتجاج بشيء من ذلك لم يكن في الأول فإن






----------------------------------- صفحة 310


قيل كيف لا دل ذا على أن ليس من الله ما تذكرون قلنا لما مضت الأدلة في تحقيق جميع ما بينا من الله عز وجل ولا قوة إلا بالله


والأصل في هذا أن كلا يعلم أنه فاعل ممكن مما يفعله مؤثر له غيره مما لو منع عنه لعظم ذلك واشتد وأنه اختار على ضده فلا سبيل إلى دفع حقيقة ذلك إذ يعلم كل ذلك من نفسه ولما صار ذلك لأهله كالعيان والحس الذي لا يتخيل إليه على الغلط ثم يجد كل واحد فعله خارجا على غير الذي يقدره عقله من الحسن والقبح وعلى غير الذي يبلغه علمه من التقدير بالمكان والزمان وعلى ما لا تقصده نفسه من التعب والألم ولا تستعمله قدرته في مثله على ما ليس عنده في قدرته نقصان فثبت أن أفعالهم من هذه الوجوه التي كادت تصير حسية عيانية ليست لهم فمن رام تحقيقها عنهم من هذه الوجوه أو نفيها عنهم من الوجوه المتقدمة فهو يكابر عقله ويعاند حسه ولا قوة إلا بالله


ثم نتفق والمعتزلة أن الله تعالى لا يضاف إليه شيء من الخلق أو أفعاله إلا من الوجه الذي لا يوهم القبح في الأسماء وما يوهم ذلك فحقه أن ينفى عنه ذلك ويخرج على هذا مسائل إحداها في وجه إضافة ما أضيف إلى الله من الخيرات إنها من الله قالت المعتزلة يضاف إليه من أمر ودعا إليها وقوى عليها وقلنا نحن هذا ما الإضافة وإن كان حسنا فلا هذا يراد بالإضافة إليه عند ذكر الأفعال ولكن المراد الشكر والحمد له إذا ذكرت الأفعال وقد يجوز الأول وهذا أولى لأنه من حيث الأمر والدعاء والتقوية اشترك فيه المؤمن والكافر ومن جهة الشكر والحمد يختلف ومما يبين ذلك جواز القول المطلق إن الإيمان نعم الله ومننه وإن المؤمن قد أنعم الله عليه ومن وأنه لولا فضل الله ما ذكى ولمسه عذاب عظيم ومن هذا الوجه لا يضاف إلى الله في الكافر وإذا لم يذكر الأفعال فعلى الأمر والله الموفق






----------------------------------- صفحة 311


ولهذا طعن الله من قال بالكتاب المبدل إنه من عند الله وبإضافتهم ونحوها إنهم ادعوا الأمر بذلك فبرأ الله نفسه عن ذلك وأخبر أن ذلك من عمل الشيطان وأنهم قالوا ذلك حسدا من عند أنفسهم ولا قوة إلا بالله


ولا يجوز أيضا الفعل من حيث الأمر لأنه ليس فيه إلا إلزام وفي ذلك مؤن عظيمة لا يضاف إليه بذلك بل من حهة الحمد والشكر كما قال بل الله يمن عليكم وقال فلولا فضل الله عليكم ورحمته وقال الكعبي لا يضاف إلى الله إلا الحسن الجميل ثم زعم في إضافة الطاعات إليه أنه من وجه الأمر وأي حسن في ذلك وقد بينا ما يدخل على ذلك وزعم أنه لا تضاف إليه الشرور لأنه نهى عنها ولا تضاف إليه


قال الفقيه رحمه الله وكذلك عندنا لا يضاف إليه لما بينا أن وجه الإضافة للشكر ولا وجه في ذلك


ثم قال قول المسلمين الخير والشر من الله إنما أرادوا مخالفة قول الزنادقة وأما فعل العباد لم يخطر ببالهم بل قال الله من عمل الشيطان


قال الفقيه رحمه الله مما ذكر من قول المسلمين فهو كذب بل يقولون قدر الخير والشر من الله وقدر الشر ليس هو الشر ولا كان القول في شأن الزنادقة لكان إذا قبيح إضافة الشر إلى الحكيم العليم بل من فعله الشر فهو شرير ومن فعله الإفساد فهو مفسد وقوله لم يخطر ببالهم كذب بل لا يخطر خصوص الذي ذكر ولا قوة إلا بالله


ثم قال فإن قيل لا أقول الكفر من الله من جهة الأمر ولكن نقول من جهة الخلق قال الأمر دون الفعل






----------------------------------- صفحة 312


قال الشيخ رحمه الله فنقول لا نقول الكفر من الله من طريق ولا شر بإطلاق القول من الله وكذلك من الله وكذلك لا أحد يقول إبليس من الله أو الشيطان من الله أو كل قذر ونتن من الله أو كل فساد من الله ثبت أن هذا اللفظ فاسد فيما كانت الخلق أيضا ولا قوة إلا بالله


والأصل في ذلك أن القول منه يخرج مخرج دعوى الأمر أو إضافة الأنعام وليس في ذلك واحد منهما البتة فلا يجوز الإضافة إليه وهو كما قلنا إن الله في التحقيق وإن كان رب كل شيء وإله كل شيء وخالق كل شيء وكل شيء له لا يقال ذلك في الأرواث والخبائث والشيطان ونحو ذلك من الأشياء التي لا تذكر أنفسها إلا على الإستحقاق بها فإضافتها الواحد يخرج على ذلك وإن كانت في أنها مخلوقة كفرها مما يضاف إلى الله فمثله الذي نحن فيه ولا قوة إلا بالله


وعلى هذا يكره القول في الكفر والمعاصي إنها بقضاء الله وقدره وإرادته لوجهين أحدهما ما ذكر من القبح أو هي لا تذكر إلا على الإستقباح والإستهانة والذي ذلك وصفه لا يضاف إلى الله تعالى على ما أخبرت وإن كان في التحقيق من قول ووجه آخر إنه يتكلم به على الإعتذار والإحتجاج ذلك المفهوم منه وقد بينا أن لا عذر لهم في ذلك ولا قوة إلا بالله


وكذلك عند الناس لا يقال يا خالق الخبائث والأنجاس ونحو ذلك وإن كان هو في الحقية لكل شيء خالقا فمثله الذي ذكرنا وأصل ذلك إنه يضاف إلى الله تعالى كل ما كانت الإضافة إليه تخرج مخرج التعظيم أو مخرج الشكر أو مخرج ذكر نعمه أو أمره وما خرج على غير ذلك لا يضاف إليه وإن كان في الحقيقة خلقه ولا قوة إلا بالله


وجملة ذلك إن الله يوصف بفعله وهو خارج على معنى العدل أو الفضل في الحقيقة وربما يضاف إليه ما ليس في الحقيقة فعله أو صفته فإن كان يقتضى معنى محمودا يجوز ذلك لما نيل ذلك بإنعامه وأفضاله وإن لم يكن لم






----------------------------------- صفحة 313


يضف لما ليس ذلك في الحقيقة فعله فيوصف به وهو من حيث فعله حكيم عدل وذلك الشيء فيما عند الخلق بغير هذا الوصف والله تعالى يجل ويتعالى عن غير هذين الوصفين إذ في أفعاله صفة عدل وحكمة أو فضل وإحسان ولا قوة إلا بالله


قال الفقيه رحمه الله قالت القدرية فيما أضيف إلى الله الإضلال والإزاغة وصرف القلوب فيما قال صرف الله قلوبهم ونحو ذلك إن ذلك كان بالمحنة والتخلية ونحو ذلك وفي الخيرات بالأمر والتقوية ونحو ذلك ولو كان بالذي قالوا يضاف إليه الإخراج من النور إلى الظلمات كما أضيف إله الإخراج من الظلمات إلى النور عندهم بالأمر والتقوية إذ صارت علة الإضافة في الخير إليه الأمر والتقوية وذكر الهداية وكل ذكر يقابل ما ذكر إذ الأمر والتقوية هما المحنة وفيهما التخلية فإذا استقام ذا ولم يستقم الآخر بان إن في ذا معنى ليس في الآخر مع ما زعمت القدرية إن الشرور لا تضاف إليه لأنه نهى عنها فقد نهى عن الضلال والغواية والزيغ فلم أضيفت إليه والله الموفق


وقالوا في الإضلال بالتسمية وذلك فاسد لما وجد من غيره ولم يضف إليه ولما ليس في التسمية فضل حكمة يذكر في موضع الوصف بالغنى والسلطان كقوله تعالى من يشإ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم وذلك في موضع القوة والسلطان وبالله نستعين


والأصل في هذا كله عندنا أن الله إذ هو موصوف بفعله ومعنى فعله خلقه كل شيء على ما هو أولى به متفضلا في فعله أو عادلا لا يخلو وصف فعله






----------------------------------- صفحة 314


عن هذين وحقيقته عن الأول فصار بأي وجه أضيف إليه من طريق فعله محقق له معنى خلقه ولو ذكر ذا في الإضلال وما ذكر في الطبع وغيره لم يحتمل شيء من تمويهات المعتزلة فكذلك إذ ذلك معنى فعله والله الموفق


مسألة في ذم القدرية


قال الشيخ رحمه الله أجمع أهل الكلام على ذم اسم القدرية وتبرأ كل منهم عنه وقد روى في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يمكن السبيل إلى معرفة من له حقيقة هذا الإسم وهو قوله القدرية مجوس هذه الأمة ومعلوم أنه أراد به ذم أهلها بمعنى شاركوا فيه المجوس فيما خالف به المجوس أهل الأديان من القول لا بد من تأمل ذلك ليظهر حقيقة أهل هذا الإسم ولا قوة إلا بالله


وكان الأصل الذي ذم به المجوس مما خالفوا به أهل الأديان من أوجه أحدها أنهم قالوا كان الله واحدا لا شريك له ثم حدثت منه فكرة ردية إما لما أصابته عينه أو لما ظن أن يكون له عدوا ينازعه فإذا إبليس حدث من تلك الفكرة الردية فخلق هو شر العالم والله خيره من غير أن كان لله قدرة على خلق شيء من الشر والفساد ونحو ذلك أو لإبليس قدرة على خلق شيء من الخير والصلاح فقام العالم بهما وبهذا كله خالفوا به أهل الأديان ومعلوم أن هذا كله أوصاف ذم ونعوت شبن ثم للمعتزلة عن كل صفة من هذه الصفات نصيب فلذلك لقبوا باسم القدرية ولا قوة إلا بالله


ووجه ذلك أن المعتزلة زعمت أن الله تعالى كان ولا شيء غيره ثم حدثت






----------------------------------- صفحة 315


الإرادة من غير أن كان من الله بحدوثها إرادة أو اختيار منه إليها معنى سوى أن كانت فكان بها جميع العالم إذ من قولهم إن العالم فعل الله وإنه كان باختيار وإن الإختيار إرادة كقوله فعال لما يريد فسمت المعتزلة تلك الحادثة إرادة والمجوس فكرة وهي واحدة بينهما اختلاف في الإسم لا الحقيقة ثم جعلت المجوس بها يصف العالم والمعتزلة كل العالم فيكونان في الحاصل تحت قول ذميم والمعتزلة زائدة ثم المعتزلة تجعل العالم بالله وبالأجسام من غير أن كان ذلك من الله من الإجتماع والتفرق والحركة والسكون وجميع المتولدات مما عن الخلق مفصولا أو بائنا وكذلك جميع العالم عند المجوس من الخير والشر بل المجوس ينسبون كثيرا من الجواهر إلى إبليس لا تقدر المعتزلة على نسبة شيء من ذلك إلى الله في الحقيقة والمجوس يثبتون لإبليس القدرة على خلق الشر بالله وينفونها عن الله وكذلك قول المعتزلة في قدرة أفعال الخلق ولا قوة إلا بالله


والمجوس لا تجعل لإبليس على شيء مما لله من العالم قدرة ولا لله على شيء مما للخلق لإبليس وكذلك أمر المعتزلة لكنهم جعلوا لجميع الأحياء ذلك والمجوس لإبليس خاصة والمجوس / لا تجعل لله إرادة ولا سلطانا فيما ليس فيه أمر وكذلك المعتزلة والمعنى الذي دعا المجوس إلى القول بإثنين ما استقبحوا من إضافة خلق الشر وفساد الأشياء إلى الله وكذلك المعتزلة ولو عرفوا حق معرفة الربوبية أنه في وضع كل شيء موضعه وأنه المتعالى عن أن يكون فعله لنفع له أو لخير يكتسب لنفسه لعلموا أن الوصف بخلق الكل على ما عليه وصف القدرة والجلال والقول به قول بتمام الملك والكبريا ولا قوة إلا بالله


وعبارة أخرى مما تبين أن المعتزلة أحق من يتعالى بالإسم من أهله ما أنطق الله به ألسن الخلق بالنسبة إليهم صغارهم وكبارهم من علم ما تحت الإسم أو جهله مثبت أن ذلك صار لهم لقبا لا من حيث صنع للبشر فيه ولكن بفضل






----------------------------------- صفحة 316


الله ليعلم به أهل الذمة في الدين فيحذر مخالطتهم ولهم في ذلك علمان ظاهران أحدهما في لون كل منهم على حسن خلقته وقبحها أن يظهر في وجه كل منهم الصفرة الباردة التي تستقبحا الأبصار إذا قوبل ذلك بوجوه المجوس لوجدوا سواء والثاني تخلفهم عن جماعات المجوس وإنكار عامتهم دار الإسلام من أن تكون دارهم ولا قوة إلا بالله


ولتحقيق هذا الإسم لهم أيضا وجهان إن كل ذي دين ومذهب نسب إلى المعنى الذي ادعاه لنفسه بحق الإسلام واليهودية والنصرانية ونحو هذا وكذلك المعتزلة يرون قدر أفعالهم لأنفسهم وغيرهم يرون ذلك منه فمحال أن يشتهر به من رآه لغيره ويزال عمن يدعى حقيقته لنفسه وبمثله جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في شرط الإيمان بالقدر خيره وشره من الله والوجه الآخر هو الأمر المعروف الذي لم ير معتزليا سلم عما يزيل عنه اسم الإيمان والتحلي بحلية الإسلام من ارتكاب الكبائر بالشهوات مما يبين استخفافهم بدين الله وإختيارهم الخروج منه بأدنى شهوة أعطوها لأنفسهم فهم أحق من ينسب إلى غير دين الله إذ هذا شأنهم في دينهم الذي هو عندهم دين الله ولا قوة إلا بالله


ثم ذكر الكعبي أن من عادة العرب تلقيب من يلهج بشيء فيكثر ذكره في غير موضعه حتى يجاوز الحد فيه ونسبة ذلك إليه وهم يفعلون ذلك حتى قالوا في كل فاحشة وأمر ذميم هذا قدر الله


قال الشيخ رحمه الله أخطأ في هذا القدر من الدعوى من أوجه أحدها ما حكى عن العرب والثاني ما حكى عنهم هم لا يقولون ذلك وإن كان يقوله






----------------------------------- صفحة 317


فلا يقوله من بهم يعرف أسماء النحل إنما يذكره العوام فأما الخواص فهم لا يذكرون ذلك بل يكرهون ذلك خشية أن يذكر على الإعتذار فيما لا عذر لهم والعرب لو عملت الذي قال إنما عملت فيمن ظهر على التلقيب لا للتحقيق ونحن فيما حقه التحقيق لما عن رسول الله جاء ذلك قدم أهله ولا قوة إلا بالله


وأيضا إن الذم جاء من عند رسول الله ولم يكن في ذلك الوقت من يعرف بهذا الفعل ولا كانت النحلة التي أبدعت العرب لها الإسم فلا يحتمل الإسم الذي قال لهذا ولا قوة إلا بالله


ثم سأل عنا سؤالا دل على حيرته فقال نسبتم إليه بقولكم لا قدر فأجاب بأن لا ينسب الشيء إلى النافي


قال الشيخ رحمه الله وما قاله صدق وإنما ينسب إلى المدعى والمثبت لنفسه وهو حيث يقول تخرج الأفعال على قدره الذي قدر لها ثم قال لو قيل أثبتم ذلك بقولكم نحن نقدر أعمالنا قال لا يجب لوجهين أحدهما أن الإسم منه مقدر والثاين أنه لا تمانع له في القول إنه يقدر صلاته وثوبه وداره وأمر سفره فيجيب أن يكونوا كلهم قدرية


قال أبو منصور رحمه الله فأما الحرف الأول مقدر وقدر واحد وبعد فإن الفعل في النصراني واليهودي التنصر والتهود والإسم على ما يرى فمثله في القدر والثاني قد يسمى الله تعالى بذلك ثم لا يقال قدرى فثبت أن ذلك يرجع إلى أمر خاص وإلى معنى فيما إليه فإن كان إلى أمر خاص فهو في الدين ومن نسبه إلى نفسه فهو أحق به وإن كان المرجع فيه إلى المعنى فهو لا فهم على ذلك القول يرون حقيقة الخروج على قدر الله لا على قدر العبد والمعتزلة تزعم أنه على قدرهم يخرج والله الموفق


وما قال من العرب فيجب أن يكون المعتزلة لهم اسم الجبرية لكثرة ما يجرى على لسانهم اسم الجبر ولا قوة إلا بالله






----------------------------------- صفحة 318


مع ما نسب إلى المجوس وهم لا بكثرة القول سموا به ولكن بحقيقة المذهب ولا قوة إلا بالله


ثم سئل عن وجه تسمية الحشوية لهم قدرية فزعم أن ذا من خطئهم نحو خطئهم في أكثر أمور الدين مع ما انضموا إلى بني مروان وذلك كان مذهبهم ليفرحوا بإضافتهم الأفعال الذميمة إلى قضاء الله وقدره فساعدوهم على ذلك وبرؤوهم عن الذم مما اقترفوا في الحمل على الله ورأوا ذلك شائعا لهم لفعل معاوية مع ما رأته قتله على حيث جاء به وقولهم الذي تولى كبيرة على وعظم قول المعتزلة فيهم حيث أخرجوهم عن شرائط الإمامة حتى قبلوا منهم هذا الإسم وأطنب في هذا الذي أكثره كذب


قال الفقيه أما نسبة السؤال إلى الحشوية فإنما هو تمويههم ليروا أن الذي سماهم بهذا هم وإنما هذه التسمية متوارثة في الأمة بأسرها في خبر عن النبي عليه السلام صنفان من أمتي لا تنالهم شفاعتي القدرية والمرجئة وفسرت القدرية بنفيهم القدر على الله والأصل في هذا أن المرجئة هي التي أرجت حقيقة أفعال الخلق إلى الله والقدرية هي التي نفت عن الله تدبيرها وجعلت كل التدبير فيها للخلق حتى معنى العالم وبم على تدبير الخلق هم أفنوا وأبقوا وبه قام تدبير الله من البعث وأهل الجنة والنار ليس لله في ذلك إلا الإختبار وكذا لا يحقق له في العالم أفعال سوى كونه بعد أن لم يكن والعدل هو المذهب المتوسط بينهما وذلك معنى قول الله عز وجل وكذلك جعلناكم أمة وسطا وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم خير الأمور أوساطها ونسب إلى الحشوية الخطأ ولا أحد سلم عنه والذي قاله إنما قال قوم منهم وأما المعتزلة فهم شاركوا الملحدة في إنشاء العالم وإخراجه من العدم إلى الوجود وما ذكر من السبب






----------------------------------- صفحة 319


وروى عن بني مروان وحكى عن الذين برأوا المذنبين وحملوا ذلك على ما ذكر في إيجاب القدر للعباد كذب كله فنعوذ بالله من الحيرة في الدين الحاملة على قذف المسلمين ثم احتجت القدرية في تقديم القدرة الفعل بآي من كتاب الله تعالى منها قوله فخذها بقوة وقال أهل التأويل فاعمل بها بجد واجتهاد فكأنهم رأوا القوة هاهنا الأسباب لكن الظاهر من ذلك قولنا خذها بقوة أي وقت الأخذ لأنها إذا لم تكن في وقت الأخذ يكون الأخذ بلا قوة فثبت به الذي يذهب كمن يقول لآخر خذه بيديك وانظر إليه ببصرك فهو على الإلتقاء وعلى ذلك قوله لموسى فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها واحتجوا أيضا بقول الجني وإني عليه لقوي أمين وقول المرأة إن خير من استأجرت القوي الأمين


قال الشيخ رحمه الله والحرفان مما ليس لهم التعلق به لما كانت قوة موسى التي علمت بها إنما علمت وقت النزح وهي لا تبقى إلى ذلك الوقت وكذلك قوة الجنى على ما امتحن نفسه فيما سبق والله الموفق


والثاني على إرادة وقت الإستعمال بالعادة الجارية بالحدوث في كل وقت لما شاء ولا قوة إلا بالله


وقد احتجوا بما في القرآن من ذكر الإستطاعة وقد بينا ذلك الوجه ولا قوة إلا بالله


ثم الجبرية المعروفة عندنا هم الذين يلقبوا بالجبر وأحالوا القدرة على ما في الفعل جعل الله كاذبا وأرجعوا جميع الأفعال إلى الله ولم يثبتوا للعباد في التحقيق






----------------------------------- صفحة 320


فعلا قيل يقول لهم الله لم فعلتم ذا ولم لا فعلتم ذا ونقول إفعلوا ذا ولا تفعلوا ذا في التحقيق بل إن أمر أو نهى فإنما يأمر في التحقيق نفسه وينهى نفسه ثم هو يرتكب المنهى في التحقيق ويأمر ويطيع هو في الحقيقة ثم يعاقب غيره فيعذبه ويثيبه ويسميه مع هذا حكيما رحيما جل من صفته الرحمة والحكمة وعلى ذلك يجب أن لا يجدوا الألم في الحقيقة واللذة وتكون حقيقتها راجعة إلى الله جل الله عن ذلك وتعالى ثم يبطل معنى الرسل والكتب لما هي في التحصيل تصير إلى الله بالأمر والنهى والوعد والوعيد لا منه إلى غيره ثم يبطل حكمة خلق الخلق ويحصل على العبث إن كان العلم يبلغ معرفته ومن يكون خروج فعله على كفران وجحود المنن والكذب في الإخبار والسفه في الأفعال فهو حقيق أن يكون شيطانا رجيما فهو كذلك لا ريب فيه وهو شبيه بقولهم كان الله غير عالم ولا قادر ثم صار كذلك فلعل تدبيره الأفعال التي كانت فيما نسب إلى الخلق في ذلك الوقت جل الله وتعالى عن ذلك


ثم نسب القدرية وهم الذين يلقبوا بالإعتزال الخبر إلينا على تبرينا عن ذلك عقدا وقولا لكن كذبهم في هذا نحو كذبهم علينا في اسم القدرية ثم نذكر أحقنا بذلك في مقابلة المذهبين ليعلموا جرأة المعتزلة وعظيم سفههم كما بينا في القدرية وادعوا علينا اسم الجبر بإنكارنا كون قدرة الفعل قبل وقته ثم هم حققوا الفعل في وقت لا قدرة فيه وتحقيق الفعل في وقت الوصف بلا قدرة أقرب إلى معنى الجبر من تحقيقها مع الفعل لمن عقل الجبر والإختيار ومما يوضح ذلك أن الفعل غير متوهم في حال العجز ومتوهم وجوده في حال ارتفاع العجز فكان توهمه مع الإرتفاع أرفع وأبلغ من توهمه مع الوجود إذ هو سبب المنع فكذلك القدرة التي هي سبب الفعل في الحقيقة ويؤيد ذلك فساد الدرك بالبصر مع ذهابه بما تقدم من البصر وكذا السمع وعمل كل الحواس فلذلك






----------------------------------- صفحة 321


كان فساد فعل الإختيار مع العجز وفقد القدرة أوضح منه مع الوجود ولا قوة إلا بالله


ووجه آخر أن قول المعتزلة إن الإرادة هي إختيار الفعل وإنما تكون متقدمة على الفعل وليست بموجودة وأنه وجد في وقت الوجود بلا إرادة منه ولا إختيار وحق اختيار الأول عنه زائل إذ يجوز ورود الإضطرار في الوقت الثاني ومحال وروده في الوقت الذي فيه الإختيار والإختيار قائم ثبت أن فعله في التحصيل ليس بإختيار وأنه اضطرار وعلامة الجبر هذا وبهذا الفعل يوجبون العداوة والولاية والخلود في الجنة والنار الواقع وقت وقوعه بلا اختيار ولا قدرة ولا أمر أيضا ولا نهى فمن تأمل ذلك وجده عند التحقيق قول الجبرية في التصريح لكن هو لا جبرية كاذبة وأولئك جبرية صادقة ثم من قولهم إن من أراد الفعل لأقرب الأوقات إليه يقع ذلك الفعل وإن كرهه وأراد صرفه ويقع له به العداوة والولاية وإن صار بحيث لا يمكنه الصرف قبل وقوعه أو معه ثم يكون ذلك الوقت ليس بوقت محال لفوت ذلك الفعل إذ قد يجوز عندهم فوته بالمنع والقهر ثبت بما ذكرت وقوعه بالجبر في التحقيق وأيضا على قولهم في كثرة جرى اسم القدرية في غير موضعه على ألسنتهم يسمون به فهو كذلك عندهم مع قولهم بنسبتكم الجبر إلى غيرهم وبالله المعونة والعصمة


ثم سمت المعتزلة الحسينية مجبرة بما قالت الحسينية للعبد قدرة ما هو فيه من الفعل وليست له قدرة ضده وقت الفعل وقبل ذلك الوقت الإختلاف بينهم وبين المعتزلة إنما هو في الإسم خاصة لأن الحسينية تقول هو على ما هو فيه فعند الله لطف لم يعطه والمعتزلة يقولون لم يبق عند الله شيء فيه صلاحه إلا وقد اعطى فقد اتفقا على قدر ما أعطاه ولا قوة له وقت الفعل عند المعتزلة وعند الحسينية له قدرة ما هو فيه وله اختيار ما هو فيه فكان الذي معه من






----------------------------------- صفحة 322


القدرة والإختيار أكثر من الذي عند المعتزلة فكيف سمتهم المعتزلة مجبرة لولا قلة الحيا ولا قوة إلا بالله


والأصل عند الحسين إنه عند الفعل مضيع أحد القدرتين ولا عذر له في التضييع وعند المعتزلة لا قدرة لا بالتضييع ولا غيره فأي الوصفين أشبه بالجبر لو كان ثمة إنصاف ثم الذي يحقق أن المعتزلة هي المجبرة قولهم للعبد الفعل شاء العبد أو أبى ومن زالت عنه المشيئة في فعل فهو ساه أو جاهل أو عاجز لا يخلو عن ذلك مع ما قد جعلوا للعبد أن يريد في سلطان الله ما لا يريده ويشاء في ملكه ما لا يشاؤه وهو يشاء خلافه ويريد غيره وذلك علامة القسر والجبر فعابت الجبرية في جبر العبد بما رأوا لله الملك والجلال ثم قالت بجبر رب العالمين سفها بغير علم ولاقوة إلا بالله


ثم نذكر طرفا مما عابت المعتزلة حسينا في النطق ووافقته في التحصيل قال حسين الكافر وقت كفره ليست له قدرة الإيمان وقدرة الإيمان عنده التوفيق والعصمة ووافقته المعتزلة على أنه ليس بمعصوم ولا موفق بل هو مخذول متروك على رأيه وذلك معنى قدرة الكفر عند الحسين فاتفقا على المعنى الذي اختلفا في إسمه فحق المسألة بينهم في جعل التوفيق والعصمة قوة الإيمان والترك والخذلان قوة الكفر لا إفراد التكلم في القدرة والأغضاء عن حقيقة ما يجب القول به وبالله التوفيق


وقال حسين معنى الإرادة في الله سبحانه أنه لم يغلب ولم يقهر وقد أعطت المعتزلة هذا المعنى في جميع أفعال الخلق إنه لم يغلب ولم يقهر فتبطل المسألة في الإرادة إنما بقيت في تأويل الإرادة لا غير مع ما كان من قول الحسين إن أفعال العباد مخلوقة فأارد خالقها كونها على ما خلقها ومذهب المعتزلة إنها ليست بمخلوقة لله فتكون المسألة في خلق الأفعال لا في الإرادة






----------------------------------- صفحة 323


وقال الكعبي الإرادة معناها أنه مختار غير مغلوب فمثله في كل شيء يلزمه ثم المعتزلة ليست تثبيت لله إلى العالم سوى أن كان ولم يكن عالم ثم كان عالما فصار بذلك المعنى خالقا له مريدا على الوجه الذي ذكر فقال حسين في أفعال العباد إنه إذ كان ولا هذه الأفعال ثم كانت هذه وكانت بإرادته التي تأويلها ما وصفه وبأن خلقها بأن كان ولم تكن هي ولا قوة إلا بالله


على أن حسينا يجعله في الأول مريدا لكون الخلق على ما كان وكذلك لكون كل مخلوق على ما كان بإرادته والمعتزلة تنفى معنى الإرادة لا تجعل غير أن كان ولم يكن الخلق ثم كان فحق ذلك فيه أوجب ولا قوة إلا بالله


وقالت المعتزلة الوعيد يأخذ من أخرجه فعله عن الإيمان وكذلك قال حسين وجميع أهل الإرجاء إن كان من استحق بفعله زوال اسم الإيمان فهو كله في النار أبدا ولا قوة إلا بالله


والإختلاف بين هؤلاء فيما به يخرج من الإيمان لا في حق الوعيد فالإحتجاج بآي الوعيد في المسألة خطأ


مسألة في مقترفي الذنوب وهي يخرجون بذنوبهم من الإيمان


قال أبو منصور رحمه الله تكلم الناس في محل الذنوب وتسمية مقترفيها فجمع بينها قوم في الإخراج من الإيمان بقوله ومن يعص الله ورسوله وقوله وما كان لمؤمن ولا مؤمنة والذنوب كلها في تحقيق اسم العصيان واحد فعلى ذلك في تحقيق اسم الضلال وإيجاب الخلود في النار وقوله تعالى






----------------------------------- صفحة 324


إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه يخرج على وجهين أحدهما أن يكفر بالتوبة لقوله ويخلد فيها مهانا إلا من تاب وقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم وغير ذلك من الآيات والثاني أن تكون الصغائر منها التي تقع على السهو والغفلة فهي المغفورة بما قال تعالى لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم وقال وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به وما جاء من الخبر بالعفو عنه ثم حقق قوم منهم له اسم الكفر بوجهين أحدهما بقوله لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى وقال وهل نجازي إلا الكفور وقال ومن يعمل سوءا يجز به وقال ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وقال ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره فأثبت الجزاء فيما صغر منه وأخبر أنه لا يجازى إلا الكفور ولا يصليها إلا من ذكر مع ما قال الله تعالى إن الذين يؤذون الله ورسوله وكل عاص فهو يؤذي رسول الله ولا قوة إلا بالله


والثاني أن عقد إيمان كل مؤمن أن لا يعصى الله فيما أمره ونهاه فمن عصاه لم يف به مع ما كان إعتقاده كان موقوفا على ما يظهر بالإبتلاء بقوله






----------------------------------- صفحة 325


أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وقال وليعلمن المنافقين في موضع آخر فثبت بذلك استحقاق اسم الكفر بما ظهر كذبه فيما أظهر من الإعتقاد والنظر يوجب ذلك بما هو بالذي مخالفا فيه من الله مجيب الشيطان إلى ما دعاه ومطيع له فيما أمره ومن ذلك وصفه فقد عبده ومن عبد الشيطان فهو كافر ولا قوة إلا بالله


ومنهم من يسميه مشركا لا كافرا إنما صار إلى ما صار بالفعل لا بالقوة وقد قال الله تعالى فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا فجعل في العمل شركا وكذا تسمية أهل الشرك بما أشركوا في العبادة غير الله وذلك معنى قوله وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون وقال إن الله لا يغفر أن يشرك به وقد بينا إنما يغفر من الذنوب هي التي كانت على الخطأ أو الإكراه كما جاء به الكتاب ولا قوة إلا بالله


ومنهم من قسم الذنوب قسمين فجعل منها صغائر تغفر بإجتناب الكبائر وبالعفو بالجزاء ونحو ذلك على اختلاف أقاويلهم وهو قولنا في أى ألا يجوز إخراج صاحبها من الإيمان وفاسد مع الإيمان الخلود في النار لما يوجب الخلف في الوعد بقوله فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره وما جاءت به الآيات فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن والوعد في ذلك ثم الذي يمنع اسم الكفر في الحقيقة والشرك أوجه أحدها أمر الله نبيه أن يستغفر له وللمؤمنين والمؤمنات






----------------------------------- صفحة 326


ثم لا يحتمل الأمر به على إثبات كفر أو شرك بقوله ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين وبما أمره أن يستغفر للمؤمنين ومحال يأمره بالإستغفار باسم الإيمان وهو عنهم زائل لأنه يوجب الكذب ثم قد حذره الله عن الإستغفار لأهل الشرك بما ذكرت ولأهل النفاق بقوله سيقول لك المخلفون من الأعراب وقوله سواء عليهم استغفرت لهم ونهيه إياه عن الصلاة فثبت أن أولئك الذين أمرهم بالإستغفار هم أهل الإيمان في الحقيقة ثم لا يحتمل أن يؤمر بالإستغفار ولا ذنوب لهم أو كانت مغفورة لهم لأن الاستغفار هو طلب المغفرة وطلبها لمن قد غفر له كتمان نعمة الغفران وذلك كفران النعمة بل حق ذلك الشكر والحمد وما لا ذنب له ثمة فيخرج طلب المغفرة مخرج كفران العصمة والسؤال أن لا يجوز إذ تعذيب مثله في حكمه جود ثم لا يحتمل أن يكون رسول الله والملائكة يستغفرون لمن أمروا به ثم لا يجابون فيثبت بهذا أن لا يزول اسم الإيمان لكل ذنب وأن من الذنوب ما ليس بمغفور يغفر بالتوبة عنه إذ ليس في استغفار غير المذنب توبة وفي ذلك نقض على المعتزلة في إزالتهم اسم الإيمان لكل ذنب وأن من الذنوب ما ليس بمغفور يغفر بالتوبة عنه إذ ليس في استغفار غير المذنب توبة وفي ذلك نقض على المعتزلة في إزالتهم اسم الإيمان بكل ذنب ليس بمغفور لصاحبه حتى يستغفر ونقض على الخوارج بما ذكرنا والله أعلم


وأيضا إن الله تعالى قال في الذنوب التي لا يغفرها سواء عليهم استغفرت لهم وعلى ذلك قال وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون وقال يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا فألزمهم التوبة مع إثبات الإيمان وأخبر أنه بالتوبة يغفر لهم وفي ذلك وجهان أحدهما على






----------------------------------- صفحة 327


المعتزلة في إزالتهم اسم الإيمان في كل ذنب لا يغفر عندهم إلا بالتوبة وفي ذلك إثباته وعلى الخوارج بتسميتهم كفرة وأهل الشرك ومحال مع ذلك اسم الإيمان والأمر بغيره والله الموفق


ولو كان في شيء تسمية بالكفر فهو مجاز اللغة من حيث ذلك صنيعهم ونحو ذلك على ما يقال للمرء أصم وأعمى بما لا يقف على حقيقة ما بذلك يوصل إليه وذلك نحو قوله من كفر بالله من بعد إيمانه فأثبت اسم الكفر فيما كان منه على الإكراه لفظا لا تحقيقا لما اطمأن قلبه بالإيمان فثبت أن قد يجوز تسميته لنوازل مجازا فمثله الأعمال ولا قوة إلا بالله


وأيضا إن الله تعالى قال فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ثم معلوم أنه لا يرى الخير وجزاه مع الشرك ولا جزاه شر في حال الكفر يرى ذلك بعد الإيمان لقوله تعالى ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه وقوله وإن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وقال فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات دل ما ذكرت من تحقيق حال فيها جزاء الأمرين وذلك لا يكون على قول المعتزلة في وقت الكبائر ولا في وقت الصغائر وكذا في قول الخوارج ولا قوة إلا بالله


ثم الله تعالى قال إن الله لا يغفر أن يشرك به ومعلوم أن الشرك قد يغفر بالتوبة فبطل به قول من يجعله لما قسم الكتاب وبطل قول من يبطل المغفرة في الكبائر بلا توبة لأن الله جل ثناؤه جعل لنفسه مشيئة المغفرة وذلك






----------------------------------- صفحة 328


فيما كان في الحكمة لكن دفعه سفه جل الله عن ذلك وتعالى فلزم الذي ذكرت القولين جميعا


ثم الذي ينقض قول الخوارج الذين يكفرون بالصغائر ما بلى بها الأنبياء والأولياء وما يكفر يسقط النبوة والولاية ومن ذلك وصف إيمانه بالأنبياء فهو كافر بهم فبلغ من تعظيمهم الذنوب إلى أن كفروا به وهو أعظم الذنوب وهذا حق من تعدى حدود الله في الحكم وغلا في دين الله أن يكون عطبه من أرجى ما يكون عنده من أسباب النجاة ولا قوة إلا بالله


وعلى قول المعتزلة في ذلك وصف الله الأنبياء بالدعاء له تضرعا وخفية وطمعا وخوفا وببكائهم على ما كان منهم من الزلات وتضرعهم إليه حتى أجيبوا في دعائهم وأعطوا سؤلهم ولو لم تكن ذنوبهم بحيث احتمال التعذيب عليها في الحكمة أو كان عليهم من ذلك خوف التعذيب لكان في ذلك تعدى الحد والوصف بالجود والتعدي منه وذلك أعظم من الزلات فهذا ينفى قول المعتزلة في إثبات المغفرة في الصغائر وإخراج فعل التعذيب عن الحكمة وقول الخوارج بإزالة اسم الإيمان عنه ولا قوة إلا بالله


ثم القول في جعل الصغائر كفرا أو شركا أو التخليد في النار جزاء لها قول مهجور بما يسقط معنى تسميته عفوا غفورا رحيما إذ لا يسعه مأثم ولا زلة بلا توبة ويوجب به المعاداة بعد أن عرفه عفوا غفورا كريما وعادى لأجله من أزال عنه هذا الإسم إلى كل ما يوصف كل قاس وكل لئيم وبه يستحق الذي قال إذ هذا أعظم الذنوب حيث صفات الرب ثم بما بلى به الأنبياء فيكفر بهم في تلك الأحوال ومن كفر بنبي في وقت فهو كافر لا ريب فيه ثم بهذا وصف الرب بالجود لما فيه إبطال الحسنات بزلة والعدل هو الذي يجزى بالإحسان والإساءة فيما أظهر عز وجل من كرمه ثم التجهيل بما لم يعرف من يصلح للرسالة ويقوم بأداء الأمانة ثم بما لا أحد عنه فيكون في الذي ذكر






----------------------------------- صفحة 329


تكليف ما لا يطاق ثم ينقطع منه الخوف والرجاء ويحصل الأمر على الأمن والإياس وقد شهد عليها بالضلال والكفر ولا قوة إلا بالله


ثم نذكر ما قيل في الكبائر فإنها إذ صارت بحيث إحتمال العفو فما دونها أولى وبما للقول به فيها على الإختلاف أثر بين في الأمة فصرف الكلام إليه أحق وبالله التوفيق


مسألة اختلاف المسلمين في مرتكبي الكبائر


ثم اختلفت الأمة في مرتكبي الكبائر من المسلمين دفعته إليها الغلبة من شهوة أو غفلة أو شدة الغضب والحمية أو رجاء العفو والتوبة من غير استحلال منه ولا استخفاف منه بمن أمر ونهى فمنهم من جعله كافرا ومنهم من جعله مشركا ومنهم من جعله غير مؤمن ولا كافر ومنهم من يجعله منافقا ومنهم من جعله مؤمنا على ما كان عاصيا بما فعل فاسقا به من غير أن يطلق له اسم الفسق والفجور إلا مع من يعلم ما به سمى ذلك ويرى أن يكون لله تعذيبه بقدر ذنبه والعفو عنه بما علم منه من الصدق له في العبودة وغيره من الحسنات ومنهم من وقف في الوعيد إنه أريد به المستحيل أو غيره ورآه واجبا فتفريق من ذكرت بين الصغائر والكبائر فيما يثبت في الصغائر من إمكان العفو أو إبقاء اسم الإيمان أوجب صرف الوعيد إلى الكبائر وما يثبت من ذكر جزاء الكفر والشرك ونحوه يوجب تحقيق اسم الشرك وقول قوم والكفر على قول وأيد ذلك قوله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون وقال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون مع ما كان صاحب الكبيرة حاكما بغير الذي أنزل






----------------------------------- صفحة 330


الله وتاركا الحكم به وقد قال الله تعالى ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون


وبعد فإنه قد سمى بالأسماء التي سمى الله بها الكفرة من الفسق والفجور والظلم لزمه أيضا اسم الكفر مع ما قسم الله البشر الذين جرى عليهم القلم فيما عليه أمرهم في الدنيا والآخرة فقال هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن وقال فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر وقال فمن يرد الله أن يهديه وقال يضل من يشاء وقال أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون


ثم بين كفر المسمى فاسقا وقال في أمر الآخرة يوم تبيض وجوه وقال فأما من أوتي كتابه بيمينه فجعلهم جميعا متسمين فلا ثالث في التحقيق مع ما بين أن النار أعدت للكافرين فإذا ثبت الوعيد لصاحب الكبيرة جعله كافرا


وبعد فإن الله تعالى وصف أنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون وقد لزم ألا يأس على قول هو لا لزمه اسم الكفر على أن الأسماء لا منافع لها ولا مضار بها على أهلها إنما المضار والمنافع في حقائق ما لها الأسماء فإذا لزم الخلود في النار بطلت فائدة الإسم إن كان مؤمنا أو كافرا لا يمنع عنه اسم الكفر إذ عوقب بعقوبته ولا قوة إلا بالله






----------------------------------- صفحة 331


وألزموا الوعيد بما في الرفع لحوق الكذب والله يجل عن ذلك وكل الذي ذكرت يلزم المعتزلة في منعهم تسمية الكفر على أن قولين من أقاويل منتحلى الإسلام حصلا في حق الأسماء على عبث وإبطال ما جبل عليه البشر من جلالة قدر الإيمان في قلوبهم وعظم الله دين الإسلام في العقول فصير أحد فريقي الإسلام أسم الإيمان لكل خير يقطع فزع تبدل دين الإسلام وأزال جلالة قدره حيث أشركوا في إسمه كل شيء مما يحتمل أن يكون له اسم الخير فاشترك في هذا الحشوية والمعتزلة وانفردت المعتزلة بمنع اسم الكفر عن أصحاب الكبائر على تحقيق جميع ما في الكفر من العقوبة في ذلك فلم يحصل لهم بما تحرجوا عن التسمية بما كان فزعهم عن إسمه إلا لعظيم الوعيد في ذلك وإلا التسمية إذ ألم لنفع يرجى أو لضرر يتقى فكانت من المسلمين بها إباحة إن ساءت أو حسنت إذا لم تكن يجب بحسنها حسن أو قبح ولا قوة إلا بالله


فدخل تسمية الشرك والكفر فيما مر بيانه ومن حقق له اسم النفاق فلمخالفة ما أعطى بلسانه من الإيمان وتعاهد حدوده وحفظ حدود الله ما ظهر بأفعالهم وبذلك قال الله تعالى وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين وقال آلم أحسب الناس أن يتركوا أخبر ببيان ما أعطته الألسن من الصدق والكذب بالمحنة وكذا روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ثلاث من كن فيه فهو منافق من إذا حدث كذب وإذا وعد خلف وإذا اوتمن خان فقد ظهر له ذلك كله من مرتكبي الكبيرة ولا قوة إلا بالله


واحتجت المعتزلة في الإسم بما سمى صاحب الكبيرة بأسماء خبيثة والإيمان من الأسماء الطيبة لا يسمى به مع ما جاء من الوعد باسم الإيمان والوعد لا يحتمل الخصوص ثم صاحب الكبيرة قد جاء فيه الوعيد فبطل أن يكون






----------------------------------- صفحة 332


مؤمنا ولم يسم به كافرا بما لم يرد به التسمية فسمى به الذي أجمع أنه له اسم وهو الفسق والفجور والظلم ثم لهم في الوعيد أمران عموم أخباره والثاني قوله إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه بين ما لا يغفر مع ما كان الوعيد بالتخليد أعظم في المنع وأبلغ في الزجر فهو أحق على أن الوعيد إذا وجب لزم دخول النار ولم يذكر فيهم الخروج ولا قوة إلا بالله


قال الفقيه أبو منصور رحمه الله نقول وبالله نستعين أجمع هو لا على اختلافهم أن الوعيد مما لم يشرك فيه المؤمنين بل هو في كل ذنب أخرج صاحبه عن الإيمان وأسقط عنه اسمه والمرجئة توافقهم أن كل ذنب يخرج صاحبه عن الإيمان فالوعيد له لازم ثم إن المرجئة تخاف على المؤمنين فيما ارتكبوا من المأثم مع قيام الإيمان بالعقوبة وأولئك لا يخافون عليهم وكان احتجاجهم بعموم الآثار فثبت بالذي ذكرت من قول الجملة أن المرجئة وهي التي أرجأت الذنوب أشد استعمالا لها على العموم من الذين ادعوا عمومها إذ هم عند التحصيل جعلوا الوعيد في أحد فريقي البشر وهم الذين ليسوا بمؤمنين ولا قوة إلا بالله


ثم قد ثبت بأدلة القرآن وما عليه أهل الإيمان والذي جرى به من اللسان أن الإيمان هو التصديق به نؤمن وبذلك جرت أحكام القرآن في الحلال والحرام وما به قيام العبارات والإشتراك في الجماعات والإجتماع في مجالس الذكر والخيرات على غير تناكر منهم وفيهم القبول بحق المؤمنين وكذا جميع ما جرى به الخطاب لم يوجد معتزلي ولا خارجي ولا حشوى مع ما فيهم أنواع المعاصى والسيئات التي بان لهم أنها كبائر أو لم يبين لهم حقيقتها بخبر في أمر الخطاب أن يكون غير أحد له لما فيه فثبت أن الإيمان لم يزل عنه وأن الإسم قائم له فيبطل بهذه الجملة التي من دفعها يعلم أنه مكابر معاند ما قالت الخوارج والمعتزلة ولا قوة إلا بالله


وأيضا أن الله سبحانه أبقى له اسم الإيمان مع تحقيق ما عليه الوعيد في






----------------------------------- صفحة 333


حكمه بقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون فأوجب في المقت عنده مع اسم الإيمان بحرف العتاب الذي لا يحتمل النطق قبل مقارفة الذنب بقوله لم تقولون والمقت لا يوجب الذنب الذي في الحكمة لزوم المغفرة له وقال وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا أثبت لهم اسم الإيمان مع إلزام اسم البغي لأحدهما في القتال وألزم من حضر موته المبغى عليه حتى يرجع الآخر إلى أمر الله ولو كان ذلك خروج من الإيمان لكان الحق في مثل ذلك غير الذي ذكر وقال يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى ومعلوم أنه لا يجب إلا بقتل العمد فأثبت لهم في ابتداء الآية اسم الإيمان وأبقى بينهما الأخوة وأخبر أن ذلك تخفيف من ربكم ورحمة وتبعد هذه الأوصاف فيمن أخرجهم الفعل من الإيمان وقال والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولا يتهم من شيء ثم قال وإن استنصروكم في الدين أثبت لهم اسم الإيمان وجمع بينهم في الدين على تخلفهم عن الهجرة مع عظم ما فيه من الوعيد بقوله الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم وقال يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء وقال أيضا لا تخونوا الله والرسول فأثبت لهم اسم الإيمان مع قبح صنيعهم ولا قوة إلا بالله






----------------------------------- صفحة 334


وأيضا أن الله تعالى قال يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا وقال وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون أخبر أن عليهم ذنوبا تغفر بالتوبة ويكفر بها على إبقاء اسم الإيمان وفي قول هؤلاء لا يجوز ذلك فثبت أن القول هو قول من لم يزل عنهم اسم الإيمان ولا قوة إلا بالله


ونوع آخر أن الله تعالى أوجب كثيرا من العبادات باسم الإيمان وجعل علم الحل والحرمة في كثير من ذلك اسم الإيمان وزواله ثم شارك من أحدث أفعال الفسق مع الإيمان فيها غيره ثبت أن اسم الإيمان غير زائل عنهم مع ما قد تقدم بيان ما له اسم الإيمان ما يكفى ذا العقل عن الإطناب ثم إجماع النقلة في إثبات الشفاعة وتوارث الأمة في الصلاة على جميع من مات من أهل القبلة والإستغفار لهم والترحم عليهم هو الدليل لمن أبت نفسه تكذيب الأخبار الصحاح ومخالفة أئمة الهدى ولا قوة إلا بالله


ثم قول المعتزلة في تحقيق الإياس من روح الله مع نفيهم اسم الكفر وقد قال الله تعالى إنه لاييأس من روح الله إلا القوم الكافرون قول متناقض إذ الله جمع بين الكفر والإياس فمن أثبت أحدهما لزم الآخر فإذ ثبت عندنا وعندهم أنه ليس بكافر إذ الكفر في العرف تكذيب وصاحب الكبيرة بالتصديق في حالة يرجو عفوه ويخالف عذابه ويعلم أن من أيأسه من رحمة ربه ضال جاهل بالله ثبت أنه ليس بمكذب وفي الحقيقة الكفر اسم للستر وصاحبه لا يستر شيئا من نعم ربه ولا ينكر حقه فيبطل أن يكون كافرا فمثله الإيمان في العرف والسمع تصديق ومعلوم أنه لم يكذب الله في شيء ثبت أنه مؤمن والله الموفق


ثم الحق أن يقال جميع الخوارج والمعتزلة عند ارتكابهم الكبائر كفرة على






----------------------------------- صفحة 335


قولهم مستوجبون للخلود في النار وغيرهم من أصناف منتحلى الإسلام لأوجه أحدها أنهم أجمعوا على من رحمه الله وذلك وصف الكفر بما ذكر من الآية وبقوله والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي فلزم الفريقين اسم الكفر والخلود في النار وأما المؤمنون بآيات الله وصفوه عفوا غفورا رحيما محققين لذلك فهم لهم الرجاء ولا يجوز لهم الشهادة بواحد من الأمرين فتولى كل قول كما قال الله تعالى نوله ما تولى ونصله جهنم ولا قوة إلا بالله


والثاني أنهم جميعا ضيقوا رحمة الله فجعلوها بحيث لا تتسع لذنب إذ الذنوب التي ليست بكبائر لا يجوز معها التعذيب فليس لرحمة الله فيما ليس له التعذيب ولا لعفوه فيما استغنى عنه بالحكمة وجعلوا الغضب والسخط هو الذي يسع كل ذنب في الحكمة يجوز له التعذيب فلا عفو إذا على قولهم ولا رحمة فحق هذا القول الحرمان وأما من يصفه بسعة الرحمة وعظيم العفو فحق له المغفرة والعفو لأن كل كريم يوصف بهذا فهو أميل له من الوصف له بما وصفته الخوارج والمعتزلة ولا قوة إلا بالله


والثالث قال الله تعالى إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ولا يجوز أن يكون الذي به الإنتهاء غير محدود ولا معروف الوصول إلى جميع الطاعات والقيام بجميع الأمور بتأخر الحياة على قول الخوارج فتصير بحيث لا انتهاء عنه وكذلك على قول المعتزلة فثبت أن الإنتهاء هو الذي يملكه كله في كل وقت وهوالبرء عن كل أنواع الكفر والمعاصي والإيمان بالله تعالى وبجميع ما يؤمن المرء به ولا قوة إلا بالله






----------------------------------- صفحة 336


وهذا على قول المعتزلة إذ جعلوا بين الكفر والإيمان منزلة والله تعالى وعد ما ذكر بالإنتهاء عن الكفر يلزم أن يكون صاحب الكبيرة مغفورا له وخاصة الكافر إذا كان مع الإنتهاء من الكفر مرتكب الكبائر فيجب بالذي ادعى من العموم في التخليد دفع العذاب والمغفرة والله الموفق


ثم نقول للمعتزلة قولكم لا يسمى صاحب الكبيرة باسم الإيمان ولا باسم الكفر ولايسمونه بما لا يستحق واحدا من الإسمين أو له أحدهما ولا تعلمونه أنتم فإن قالوا بالأول فيقال لهم أو قد أتى هو بكل الإيمان أو بعضه أو لم يأت بشيء لذلك بطل اسمه فإن قال بالأول أعظم القول ومنع عنه اسم فعله وقد أتى به وجهل بربه حيث لم يحقق ما له اسمه ولو جاز ذا لجاز أن لا يكون أحد جاء بالصدق عند الله في الحقيقة صادقا وكذلك قائم وقاعد وذو حال لا يجوز عند الله كذلك أو الله يعلمه كذلك وعلى ذلك مضادات التي ذكرنا وهذا آية جهلهم بالله وإن قال بالثاني فقد شهد الله للذين آمنوا ببعض وكفروا ببعض بأن قالوا نؤمن ببعض ونكفر ببعض كفارا حقا لزمهم التسمية بذلك وهو رأي الخوارج وإن قالوا بالثالث فهو أبعد إذ الله تعالى سمى المؤمن ببعض كافرا فمن ليس معه شيء أحق بذلك وأيد هذا الأصل وجهان أحدهما ما ذكرت من قسم الله البشر قسمين في أمر الدنيا والآخرة فقسمة المعتزلة على ثلاثة أقسام تعدى لحد الله وحق مثله أن يقال له الله أذن لكم أم على الله تفترون أو يقال أأنتم أعلم أم الله كما قيل لليهود والثاني أن الله تعالى نفى الإيمان في محكم تنزيله عن قوم على تحقيق الكفر إذ قال وما أولئك بالمؤمنين ولم يخطر ببال عاقل أنهم لعلهم ليسوا بكفار بل إذا أزيل الإيمان عمن يكون له فعل الإيمان فإنما يزال بالكفر ولا قوة إلا بالله


وإن قالوا لا يعلم له أحد الإسمين وله ذلك عند الله كفوا مؤونة الجدل لأن ما لا يعلمونه أكثر مما يحصى لو لزم محاجتهم فيها ليذهب العمر باطلا ولا قوة إلا بالله






----------------------------------- صفحة 337


ثم الأمة على اختلافهم اتفقت على أن لصاحب الكبيرة إسما من الأديان من شرك أو كفر أو إسلام فمن أبطلها توقيا أن ينطق بالشك أبطل ما أجمع على القول به وشهدوا على مجي الكتاب به والسنة بما لديه يرتفع الريب عمن تلقى السمع وهو شهيد أو له قلب ولا قوة إلا بالله


ثم القول بالفاسق والفاجر مطلقا مما يتوزع فيه ومن سماه كافرا أو مشركا أطلقه ومن سماه مؤمنا أبى ذلك وكذلك جحدوا اسم أعداء الله وأبدعت المعتزلة هذين الإسمين على منع ذينك الإسمين خلافا لما عليه الأمر ولا قوة إلا بالله


ثم قوله إن الله لا يغفر أن يشرك به تأويل الخوارج فيه من الخطأ فاسد لأنه ليس بذنب فيغفر وفي هذا ذكر المغفرة ولا يحتمل إضمار التوبة لما يغفر بمثله الشرك والآية في التمييز بين الذنبين وكذلك لا يحتمل قوله إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه لما فيه التكفير وما لا ذنب لا يكفر والخطأ لا يحقق الذنب والتكفير يكون لشيء يجز به ولا يحتمل ما قالت المعتزلة لأن قولهم يمنع تحقيق الشبه إذ هي تقع من مجتنب الكبائر مغفورة وفي هذا اثباتها ثم التكفير وهم يجعلونها مغفورة لا مكفرة إذ المغفورة هي التي تستر عليها وفي بقائها إلى مدة دفعها والمكفره هي التي يأتي من صاحبها فعل حسن يكفر به نحو قوله فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وقوله هل أدلكم على تجارة وقوله إن تبدوا الصدقات






----------------------------------- صفحة 338


إلى ذكر التكفير وكذلك قوله توبوا إلى الله توبة نصوحا وأصله قوله إن الحسنات يذهبن السيئات


وبعد فإن الآية لا تحتمل قول المعتزلة لما هم يجعلون المصر على الذنب صاحب الكبيرة ومن لا يصر عليه فهو تائب عنه نادم عليه وفي ذلك إنه يغفر بالتوبة وكل الذنوب تغفر بها والإثنان جريا بالتفريق من قوله إن الله لا يغفر أن يشرك به وقوله إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه فهو والله أعلم أن الشرك لا يغفر إلا بالتوبة عنه وغيره يجوز أن يغفر بالتفضل أو يكفر بغيره من الحسنات ليصح القول مع تحقيق الفائدة لتمييز القرآن ولا قوة إلا بالله


ثم للآية وجوه تمنع المعتزلة والخوارج أحدها أنه قال إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه وليس في ذلك بيان حكم من لا يجتنب والثاني أن الكبائر نوعان أحدهما كبائر في الإعتقاد من أنواع الكفر والتكذيب التي بها اختلفت الكفرة وأخرى كبائر الأفعال التي صاحبها مجتنب عنها بالإعتقاد في أن يراها على ما جعلها الله عليه من عظم الفعل والذنب وهذا اجتناب وقد يواقعها بالفعل فهو الإرتكاب وليس في الآية وجها الإجتناب فجائز أن تكون أن يجتنب كبائر الإعتقاد وهي أنواع الشرك يكفر عنهما دونها لمن يشاء بم شاء من غير ذلك من الحسنات أو بالتفضل كما بينا في إحدى الآيتين بالتكفير وفي الأخرى بالمغفرة ولا قوة لا بالله






----------------------------------- صفحة 339


والثالث أنه لم يبين في الكبائر قدر العقوبات ومعلوم أن الله نفى أن يجزى في السيئات إلا مثلها ومثل الشرك والمعاندة إنما هو التخليد ولا ريب أن ليس بمعاند ولا مشرك له في العبادة ذنبه دون من يفعل ذلك بل صحة الإعتقاد في ذلك حمله على الخوف مما حذره ورجاء ما أطمعه في الإعتقاد وهو الذي سبق كل شيء لكفره هو ومحاه عنه لم يجز أن يكون قدر ذنبه قدر الأول فلم يجز أن يخلد في ذلك فيدخل فيه أمران أحدهما الكذب في الوعد حيث قال ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها ومعلوم أن الكافر المعاند لو جمع عليه جميع ما يعاقب به على شرط النجاة والراحة يحتمل ويختاره فثبت أن مثل سيئته هو الخلود في العذاب فإذا عذب بمثله من كان ذنبه دونه كان جازيا أكثر من مثله وهو ما يعاقب بما يرتكب وفي الحكمة عقوبته وهذا مما يمنع الحكمة والله الموفق


والثاني إنه معلوم أن الذي يقابل الجحود والمعاندة من الخير أعظم وأجل من الذي يقابل ما كان في قبوله أن يفعل من الترك على نحو ما كان الجحود والمعاندة من الآخر فجاء بالذي هو في الخير أعظم الخير وفي الشر لم يبلغ نهايته فإذا خلده في النار أبطل ثواب أفضل الخيرات بإرتكاب ما دونه من الشر ورد ذلك وصف الجود لا العدل والعدل أن يزيد في ثواب ما جاء به على عقاب ما أتى به والله جل ثناؤه قد أخبر أنه يجزى الحسنة بعشرة أمثالها والسيئة بمثلها وفي هذا لم يبلغ المثل في الحسنة ولا قصر على المثل في السيئة جل الله عن ذلك وتعالى


واستدلال من استدل بترك الفعل على الكذب في الأول محال فاسد لأن في عقل كل واحد لزوم اتقاء الكذب كما في القبول إبقاؤه ثم لم يصر وجوده دليلا على كذب عقله لما في عقله منعه وإن تعدى ذلك فمثله في قبول وقت






----------------------------------- صفحة 340


تعديه ولو كان في ذلك تبين لكان كل شيء بالأول أو حل يجب فساده وحرمته ولو كان كذلك لكان لا يجب على المرتد خلاف على الكافر الأصلي بل بتصريح الكفر لا يظهر كذبه في الأول فكيف فيما فعل ولو كان بذا ذا فيظهر أيضا بإيمان الكافر من بعد أو بتعاطيه ما لا يقبحه على كذبه في العرف وأصله وجهان أحدهمال لو كان يظهر به الكذب في الأول لأزيل اللزوم وإذا زال ليبطل أن يصير وجوده سببا لإظهار ذلك وفيه بطلان ما قالوا ولا قوة إلا بالله


والثاني إن كلا يعلم من نفسه في وقت إعتقاده أنه غير كاذب في ذلك ثم يعلم من تعدى في دينه ولو كان به ظهور لكان لا علم يقع في الحقيقة ولا قوة إلا بالله بل مدعى هذا يلزمه ذلك إذ في اعتقاده أن لا يكذب وكل مؤمن يعلم أنه بهذا القول كاذب وكذلك الله سبحانه إذ هو يعلم حقيقة كل شيء بما هو عليه لا بغيره يعلم صدقه في الأول وإن تعدى من بعده فيصير صاحب هذا القول عند الله وعند من شهد عليه بالكذب كاذبا فيستوجب به من كل أحد القضاء عليه بالكفر في قوله الذي يريد به تثبيت كفر غيره ولا قوة إلا بالله


وقوله تعالى إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ولو كان في ذلك ما ذكر لم يكن ليثبت لهم إيمان أبدا فثبت به فساد قولهم فهذا في الكفر فكيف فيما دونه ولا قوة إلا بالله


وعلى ذلك اختلاف الأحوال في الخلق لا يوجب فساد مضاداتها في غير تلك الأحوال وبالله التوفيق






----------------------------------- صفحة 341


وهذا أيضا يلزم المعتزلة في الكبائر ثم العجب من هؤلاء يثبتون لأصحاب الكبائر اسم أهل الصلاة والقبلة وسبب إثبات هذا الإسم لهم الإيمان بمحال زواله على بقاء ذلك وما به ثبت قد زال والله أعلم


وقد روى في الآية القراءة على أن تجتنبوا كبير ما تنهون عنه وإن كان المعروف ذلك فإنه قد يجوز إرادة الآحاد بحرف الجمع فلا ننكر أن تكون الآية على ذلك يبين ذلك قوله تعالى ومن يكفر بالإيمان وقوله ومن يتبع غير الإسلام دينا وقوله ومن يرتدد منكم عن دينه وعلى ذلك تأويل قوله إن الله لا يغفر أن يشرك به ثم قال ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء كما قال في هذا ويكفر عنكم سيئاتكم فيكون الإتيان بحكم واحد ومعلوم أن لا درك للمعتزلة والخوارج في أحدهما فكذلك في الأخرى ثم الأصل أن قوله إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم على قول الخوارج كأنه قال إن تجتنبوا الكفر والشرك وعلى قول المعتزلة إن تجتنبوا الخروج من الإيمان نكفر عنكم ما ذكر فلا كبيرة إذن على قولهم إلا الخروج من الإيمان فصارت الآية على قولهم راجعة إلى خاص وهو ما يخرج عن الدين والإيمان فأبطل ذلك قولهم في دعوى العموم فيها وألزم القول بالخصوص فمن قضى شيء دون شيء بلا بيان فهو متحكم وفي ذلك لزوم قول الحسين من الوقف في جميع ما فيه الوعيد وبطلان قول من ذكر والله أعلم






----------------------------------- صفحة 342


ثم الأصل أن الله وعد على كثير من الخيرات وعدا من غير ذكر اجتناب الكبائر معه وأوعد على كثير من السيئات وعيدا في مخرج العموم كما وعد على الخيرات فمن وجه الآيتين جميعا إلى العموم ألزم التناقض في جميع الأمرين في واحد وذلك آية السفه


ثم اضطربت في ذلك الأقاويل فزعمت المعتزلة والخوارج أن آيات الوعيد أحق بالعموم لها هي أبلغ في الزجر والموعظة وزعمت المرجئة أن آيات الوعد أحق في العموم لأنه أحق بالذي عرف من صفات الله من الرحمة والعفو والغفران فتقع عن الكبائر والصغائر مع ما يشهد لذلك قوله إن الله لا يغفر أن يشرك به مع احتمال الوعيد للمستحلين والوعد لو وجب التخصيص ليجب غيره والوعيد لنفسه فهو أولى به بالخصوص مع ما شرط الدوام ليقع الوعيد وذلك آية الخصوص وليس ذلك في الوعد فيلزم به الصرف إلى المستحلين أو إلى أن ذلك جزاؤه لولا الذي معه من الحسنات فيجب لديها المقابلة أو أن ذلك جزاؤه ولله التفضل بالعفو عن ذلك بما علم من رجائه برحمته وعلمه بعظيم عفوه فلا يحرمه ذلك بما ظهر من فضله وإحسانه الذي بعثه على الرجاء ولا قوة إلا بالله أو يشفع فيهم الأخيار من عباده ويجيبهم في الإستغفار لهم إذ بعيد الإستغفار له ولا قوة إلا بالله


ثم الأصل في ذلك أن الله تعالى ألزمه اسم الإيمان قبل إرتكابه مما ارتكب وأزال عنه اسم الكفر بقوله قولوا آمنا بالله وقوله آمن الرسول فبين بما يكون المرء مؤمنا وحرم على من يقول لمثله لست مؤمنا بقوله ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا وبين رسول الله حين سأله جبريل






----------------------------------- صفحة 343


عن الإيمان فبين ذلك وحقق له اسم المؤمن بإتيان ذلك وكذلك أمرت أن أقاتل الناس إلى آخر ما ذكر فهذا الآن مؤمن بالكتاب والسنة وما أجمعت عليه الأمة وما شهدت له أهل اللغة


ثم اختلف في صاحب الكبيرة لا يزال الذي ذلك وصفه بتعنت المعتزلة وتمرد الخوارج بل يدعى لهم بما آثروا لأنفسهم وأيسوا من رحمة الله ولم يروا الله في حكمته جواز العفو عنهم ولا قوة إلا بالله


ثم المعاني التي هي للفسق والعصيان والظلم ليست بمضادة للإيمان إذ الفسق اسم الخروج عن الأمر وجائز ذلك على أقسام ثلاثة يخرج مما هو أمر إرشاد وفرض وإعتقاد وكذلك الظلم إذ هو اسم لوضع الشيء غير موضعه والعصيان إسم للخلاف فمن رتب الكل في الجزاء أو في حقيقة المعنى وأراد أن يزيد اسم الإيمان بكل ذلك فنفسه يظلم ولدفع ما فرق الله ورسوله والأئمة يتعرض ولا قوة إلا بالله


وقد تقدم بيان ما له اسم الإيمان ثم نذكر بعض الذي ذكره الكعبي لمذهبه من القول الذي اختاره وارتضاه ثم الحجاج له بما يعلم من تأمله مبلغه في دين الله ولا قوة إلا بالله


فزعم أن قول أهل الحق إن كل طاعة من الإيمان واسم الإيمان يستحق بما يوجب تركه اسم الفسق قال وليس قولنا مؤمن بمشتق من الفعل فقط لما لا يسمى به كل من يصدق أحدا وأطاعه وخضع له اسما مطلقا ولا هو أيضا اسمه فقط إذ لو كان اسمه لجاز التسمية به لمن ليس هو كذلك كما تسمى الحسناء قبيحة وإذا لم يكن كذلك ثبت أنه اسم مشتق من فعل ومدح في الدين وإسمه للتفرقة


قال الشيخ رحمه الله نقول وبالله نستعين قوله أهل الحق كذا حق إن لم يرد بقوله كل طاعة من الإيمان غير أنه من الإيمان وهو كما يقول






----------------------------------- صفحة 344


كل نعمة من الله أي به نيلت وكانت وكذلك الإيمان وقوله اسم الإيمان يستحق بكذا فقد نقضه حيث زعم أن مع صاحب الكبيرة فعل لكن لا يطلق له الإسم ووصف في هذا ما ذكر وذلك عنده في التحقيق اسم المؤمن لا اسم الإيمان إذ يحققه بدونه ولا يسميه به فبهذا مبلغ علمه بقوله وقوله ليس باسم مشتق من فعله عجيب إذ حقق لفعله ذلك الاسم ثم منع التسمية به وذلك يوجب جواز كل أحد بغير اسم فعله في الحقيقة ومنع التسمية به وفي وذلك لزوم اسم كل فاعل غير فاعل وكل من ليس بفاعل فاعلا وكذا ذا في الحركة ونحو ذلك وما قال من قوله صدق كذا لا يسمى بذلك واتبع ذلك قوله أجمع أهل الملة تخطئة من فعل ذلك كذب من وجهين أحدهما أنه قال لا يطلق له الاسم بل هو مطلق له لكن لا يعرف ما براد بذلك الإيمان فلهذا يجب تثبيته لا لأن ذلك ليس باسم له وكذلك لا يقال أطاع فلان مطلقا بما أطاع أحد من حيث لا يعرف المراد لا لأنه لم يستحق بفعله الإطلاق ولكنه طاعة من لا يعرف الأمر به وكذلك الإيمان فإذا صار إلى المعرفة لزم القول وكذلك لا يقال فلان مصدق أو مكذب بما كان منه ذلك في أحد حتى يتبين ثم كل من كفر بالله يقال مكذب لما عرف حقيقته فمثله المؤمن والله الموفق


وكذلك حكايته عن أهل الملة والعجب منه لا يزال يروى في هذا الكتاب عن الأمة في أشياء لعل وجوده عن واحد منه يعسر فضلا عن الأمة ويجعل ذلك دريعة لباطله كأنه آمن أن يتأمله من له لب أو أحد ممن ينازعه في المذهب ولا قوة إلا بالله


وقوله ليس باسم له فيقال له لو لم يكن الإسم لتحقيق الفعل لم يكن ليمنع جعله اسمه لكنه في جعله تلبيس أنه سمى به بحق الإسم أو بحق






----------------------------------- صفحة 345


حقيقة الفعل وكذلك جميع ما عليه أمر الأسماء المشتقة عن الأفعال إن لم تجعل إسمه لمن ليس له حقيقة إلا على المجاز والهزؤ به ولا قوة إلا بالله


ثم قال لا نقول في الفاسق عند التحقيق إنه ليس بمؤمن بل لا نسميه به فيقال له هو في التحقيق مؤمن أو ليس بمؤمن أو لا مؤمن ولا كافر فإن قال بالأول فهو رجل دعته نفسه إلى تكذيبها فيما هي ليست بكاذبة فأطاعها فحق مثله الإغضاء عنه لأنه دون كل مقلد فإن قال بالوجهين الآخرين فقد أكذب نفسه فيما حكى عنها والله الموفق


ثم استدل على تسمية جميع الطاعات إيمانا بما هي من الدين عند الجميع وبقوله ومن يتبع غير الإسلام دينا وقد بينا بعد من تعلق بالآية عن حقيقتها مع ما لا ريب أن مبتغى شيء من العبادات على الإشارة إليها بلا إعتقاد الإسلام دينا غير مقبول منه وإنما تقبل كل عبادة بدين الإسلام ثبت أنه اسم عبادة مشار إليها بها يقبل كل عبادة ولقوتها يرد وهذا معنى قول الجميع من الدين ولا كل شيء يضاف إلى شيء بأنه منه يجب له اسمه قال الله تعالى وما بكم من نعمة فمن الله لا أنها هي هو بل في ذلك دليل على غيرية الدين حتى يضاف إليه فأقام به بعد الفراغ منه والله الموفق


ثم احتج بقوله وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا ونحو ذلك من الوعيد للمؤمنين باسم المطلق ثم لم يكن ذلك لمرتكب الفسق فيه وقد أجمع على عموم الوعد وإن اختلف في عموم الوعيد


قال الشيخ رحمه الله نقول وبالله التوفيق دعواه الإجماع في عموم آيات






----------------------------------- صفحة 346


الوعد كذب لا يزال يجعله مفزعا لنفسه في كل نائبة وقد قال الله فأثابهم الله بما قالوا جنات وليس يجب مثله للقول خاصة في قول الجميع فثبت به كذبه في الحكاية ثم لما استدل بالآيات أجوبة ثلاثة أحدها الإخبار عن منتهى الأحوال وإلى ذلك مرجع كل مؤمن والثاني أن يكون الوعد للذين حققوا الإيمان بأخلاقه وما دله عليه وجائز تسمية أحد بشيء ذلك اسم لأمر تتصل به أمور عند جميع تلك الأمور ويجوز عند إقرار الإسم بالذي به سمى والله أعلم والثالث أن يكون له ذلك الجزاء وما يعاقب به فهو يعاقب بحقوقه وليس الذي يصيبه بحق دينه مقصر عنه حق دينه مع ما بين الله أن له من الله فضلا كبيرا ليعلم أن الجزاء للخيرات منه أفضال وما كان حكمة الأفضال فإلى من يقوم به ذلك من اختيار أحوال وأوقات


ثم تكلف نصب قول للمرجئة بما يعلم كل متأمل فيه ممن قد عرف مذاهبهم كذبه فيه ليكون له سبيل الطعن عليهم تركت ذكره لقلة النفع فيه إذ هو كذب ثم قال إذ ثبت بمتفق القول على أحد الوعيد الفاسق إن مات قبل أن يتوب بين أهل الإرجاء وأن يجوز أن يكون هو المعنى به ويجوز أن لا يكون إلا ما قال مقاتل إنه من أهل الوعد لا محالة ولا يترك لمثله الإجماع إنه ليس بمؤمن فيقال له لو كان بالذي ذكرته يثبت الذي ادعيت فإذ كان القول عنهم هو ضد ما حكيت يفسد ما ادعيت ثم أكثر المنتسبين إلى الإرجاء ينكر الوعيد أن يكون في غير المستحلين معروف ذلك بينهم فهو يوضح ما ادعينا عليه من الكذب في الحكاية والله أعلم






----------------------------------- صفحة 347


ثم أكثر أسئلة لا يسأل عنها ولا أجاب بأجوبة يرتضى بها من له أدنى فهم فتركتها لقلة النفع في ذكرها والله الموفق


ثم زعم أن ترك الصغائر إيمان لما يعاقب عليها لو لم يجتنب الكبائر فيقال له إذا يجب أن يكون إيمانا عند ارتكاب الكبائر ولما يعذب على ضد ذلك وليس بإيمان إذا اجتنب وذلك غاية الحيرة


ثم احتج بها بما لا يجوز عند الأمة الإستغفار للفاجر فيقال له ما يعنى بالفاجر الكافر أو الذي يرتكب كبيرة في حال إيمان بلا استحلال فإن قال بالأول حاد عن الإعتدال وإن قال بالثاني كذب على الأمة وجعله دليلا لاستحقاقه الخلود في النار بما ظهر من صنيعه فمبذول له ما تمنى في نفسه ثم عليه فيه أمران أحدهما إطلاق الإسم بالفجور مرة وهو في حالة فيه ولا فعل فجور يجوز إطلاق الإسم بالإيمان وهو فيه ومعه حقيقة فعله بالسمع والعقل جميعا بل لا يجوز إطلاق اسم الفجور حتى يبين وجائز ذلك في الإيمان بما جاء به القرآن واتفق عليه أهل اللسان ولا قوة إلا بالله


والثاني أنه صرف استغفار الأنبياء والأولياء إلى ما هو مغفور وذلك كتمان نعمة الغفران وإعراض عن الشكر فيما ذلك حقه وذلك بعيد ممتنع والله الموفق


ثم احتج بآية القذف إن الله أخبر أنه ملعونون بلا ذكر استحلال وغيره ولا يكون الملعون مؤمنا بقول وبالله التوفيق إنما في الآية لعنة الله عليه إن كان كذلك وليس فيها أن الله سماه ملعونا فأول ما في اعتلالك أن كذبت على القرآن ثم كيف ألزمته اللعنة بقوله أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ولم يلزمه اسم الإيمان وهو يقول به ويحقق أيضا أنه رد أحد اللعنتين إلى الحد






----------------------------------- صفحة 348


فكذلك الآخر على أن الآية نزلت في المنافقين بقوله فأولئك عند الله هم الكاذبون ولا كل قاذف كذلك وجملة ذلك أن من اجترى على ذلك القول واستخف بمقت الله ولعنه حلت به والأصل أن الكفر هو الطرد ولا كل مطرود بارتكاب مأثم ولا يقبل لو عذب قدر ما استوجب ولا كل من يقول عليه لعنة الله يستحقها ولو كان أحد يستحقها كان أحقها بها صاحب هذا القول إذ هو معلوم أنه كان يتعاطى الفسق ويختلف إلى الأئمة الحائرة وكل ذلك على مذهبه يوجب اللعن حقيقة وما في الآية قول اللعن لا حقيقة الوقوع ولا قوة إلا بالله


ثم احتج بقوله ومن يعص الله ورسوله في تعطل الحدود وقد ذكر في مثله الخلود في النار من غير ذكر كبيرة ولا صغيرة فإن كان ذا على التأويل فمثله الأول مع ما قال الله في مثله ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون فذلك أيضا في تعطيل الحدود وهو يأتي القول به ويصرف الآية إلى الإستحلال فمثله الذي ذكر ومثله في احتجاجه بقوله أضاعوا الصلاة مع ما قال الله تعالى فإن تابوا وأقاموا الصلاة وما ذكر من الأخوة والتحلية واجب بالقبول دون الفعل فكذلك الإضاعة تكون بالرد دون التأخير ولا قوة إلا بالله


وقد قال الله تعالى والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولا يتهم من شيء وقال ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا ثبت أن الذي يقوله لا يزيل الإيمان ولا إسمه والله أعلم






----------------------------------- صفحة 349


وقد احتج بقوله فإن تابوا وأقاموا الصلاة لكنا بينا أن ذلك في حق القبول إذ لو ينتظر الفعل به لكان لا يجب الأخوة أبدا ولا يخلى سبيلهم وفي الأعياء إلى حول وذلك مما لا معنى له وقد بينا أمر الهجرة وأنها كانت من الفرائض التي جاء في التخلف عنها الوعيد الشديد ثم قد أثبت إسم الإيمان مع عدم ذلك والله أعلم


واحتج بقوله ومن يقتل مؤمنا متعمدا وقوله ياأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وما ذكر في أكل مال اليتيم فأما القتل العمد فله أوجه ثلاثة أحدها أن يكون فيمن تعمد القتل لدينه وهذا أحد وجوه الخطأ في القتل والله أعلم والثاني أن يكون ذلك جزاؤه ولله التفضل عليه بالعفو والمقابلة بالحسنات ولا قوة إلا بالله والثالث أن تكون الآية في الكفرة وفي القصة دليل ذلك


ثم دليل ما بينا قوله تعالى ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص وإنما يكتب عليهم إذا قتلوا قتل العمد وأبقى لهم بعد القتل الإيمان ثم قال فمن عفي له من أخيه شيء فأبقى له اسم الإخوة ثم قال ذلك تخفيف من ربكم ورحمة أطمعه في رحمته جل وعلا وبعيد أن يكون له مع هذا خلود في النار


ثم رأى المعتزلة في ذلك إلزام القصاص بعد التوبة وإزالة عقوبة الآخرة






----------------------------------- صفحة 350


وصرف الآية وإن كان فيها ذكر الإيمان إلى الخروج منه وذلك تخصيص ما ذكر من أكل المال بالباطل فكل يجمع على التخصيص إذ ذلك اسم يأخذ القليل وذلك غير مراد فيه وكذلك أموال اليتامى والثاني أنه ذكر فيه عدوانا وظلما وذلك على العذاب على حد الله والظلم على صاحبه مع احتمال ذلك ما ذكرنا في القتل ثم يقال لهم الآية التي فيها ذكر الإيمان أتزيله أو تبقيه فإن أزاله فقد أقر بالتخصيص وإن أبقاه رجع إلى رأى من نسبهم إلى الإرجاء والله الموفق


ثم قال إن الذي قال امتحن رسول الله لأعرف أنه رسول الله فأرد عليه بعد المعرفة فعرف صدقه إنه لا يكون بتلك المعرفة مؤمنا دل أن إطلاق الإسم ليس على ما كان في اللغة


قال الفقيه رحمه الله فنقول وبالله التوفيق ما أعظم جهله إذا أثبت ألإسم في اللغة كأنه قال أطلقته اللغة وأنا أمنعه فهو إذا يكذب نفسه عند جميع ذلك إسمه مع ما فيه إيجاب أن الله قد منعهم عن العمل بما عرفهم والزمهم العمل بما جهلهم ذلك جل الله عن هذا الوصف


ثم المعرفة ليست بإيمان وإن سميت مجازا كما يسمى فضل الله ورحمته بما هي تدعو إلى التصديق وما ذكر كله خيال لا معنى له ولا قوة إلا بالله


ثم استدل على منع اسم الإيمان بما جعل الله لما أطلق له اسم الإيمان أحكاما منعت منه واسم الكفر أحكاما لمن يقرن به فيقال له ما الدليل على أن الذي أوصيت إليه من الأحكام لإطلاق دون معان تتصل به في الوجهين جميعا ثم قال منها التعظيم والتزكية والموالاة وقبول الشهادة فيقال ما الدلالة على أن كل هذا لإطلاق الإسم خاصة دون تحقيقه بالشرائط المضمومة إليه والعادات التي دعا إليها الإيمان


وبعد فإن ولاية الإيمان لازمة وجميع ما منع منه منع بحق الإيمان الذي






----------------------------------- صفحة 351


فيه إذ حقيقته فيه منعنا عما ذكر مع ما كان الثابت مما فيه الحدود والقصاص يثبت له الولاية ويجب له الشهادة وجميع ما ذكر وتقبل ويحد على ذلك ولم يكن لأحد نفى الإسم بما عفى عن عذاب الله بل ذلك كله كما قال صلى الله عليه وسلم فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ولا قوة إلا بالله


وأيد ذلك قوله ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إنه لو كان الإيمان زائلا عنه لكانت الرأفة لا تأخذه بل رأفة الإيمان هي التي تأخذه حتى لعلها تبلغ إلى تعطيل الحد فحدد ذلك وأيد ذلك ما لو تاب ولا قوة إلا بالله


وإقامة الحد من الرحمة لأنه يكفره ويزيل عنه والأصل أن عقوبات الكفر لا تطهر صاحبها بل تسلمه إلى عذاب الأبد كقوله أغرقوا فأدخلو نارا والحدود والقصاص جعلت كفارات فثبت أنها جعلت كذلك لم يزل الإيمان عنه والله أعلم


ثم نقول إذ الله يقسم الأحكام أقساما ثلاثة من حيث الإنقسام من اسم الكفر والإيمان وما ليس بكفر ولا إيمان حتى إذا زال حكم ذلك عنه لزم الواسط فما الدليل على أن ثمة واسط في الأسماء بل الله قسم في الجملة البشر المحتمل للعلم قسمين في أمر الدنيا والآخرة جميعا فمن زاد عليه فهو المبدع في دين الله مالم يؤذن له وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من آوى محدثا فعليه لعنة فكيف بمن هو الذي أحدث الحدث فنسأل الله العصمة


واحتج بما ليسوا بكفرة بآيات قتال الكفرة وأخذ الجزية ونحو ذلك بما ليسوا بمؤمنين بأيات البشارة والولاية ونحو ذلك فبهذا خرج عن جملة قول المؤمنين






----------------------------------- صفحة 352


كأنه أغفل عن جملة أخرى لهم وهو أن البشارة عند من يرى صاحب الكبيرة مؤمنا كانت بشريطة أو كانت هي العاقبة


وعند الخوارج كان الحكم في الكفرة على نوعين أحدهما على القتل وأخذ الجزية والآخر لا كالنساء وأهل النفاق ونحوهم فيمن رام أن يجعل ثمة واسطا في الأحكام بما هي عند الفريقين يلزم لا بما ذكر من الواسط أغفل عن جملة قول الأمة ولا قوة إلا بالله


مع ما كان الله تعالى قد بين الأقسام الثلاثة الكفرة والمؤمنين وأهل النفاق وهم المذبذبون بينهما وأخبر أنهم ليسوا من هؤلاء ولا من هؤلاء فمن رام تثبيت الواسط لا على ما جاء به النص وأراد أن يجعله مقابلا له على نفى الحقيقة التي جعل الله لها الواسط فقد ضيع حقوق القسمة ونقض الترتيب الذي جاء به القرآن فاستوجب المقت به من جميع منتحلي الإسلام ولا قوة إلا بالله


ثم عارض نفسه بالمرأة فزعم أنها مخصوص وهذا النوع من الخيال بل أحكام الكفر مختلفة لا يستدل بها على شيء وقد رأيته أطنب في معارضات الخوارج وتكلف الخروج مما قابلوه به مما يعلم كل من تأمله أنه لم يحقق ما رام الرامي ولا تخلص مما قوبل به حق التخلص فأغضيت عن ذكره


ثم احتج بنفى اسم الكفر والإيمان عن صاحب الكبيرة إن المرجئة والخوارج اتفقوا على أن اسم الإيمان لا يوجد بالقياس مما أوجبته اللغة وإنما كان من جهة السمع فلا تجوز التسمية بواحد إلا بالتواتر بالسمع أو الإجماع وزعم أن هذه حجة كافية


قال الشيخ رحمه الله نقول وبالله التوفيق كذب في الحكاية عمن بلغ ذلك بل هم أجمعوا على تحقيق الإسم بما أوجبته اللغة لكن الخوارج استدلت بإرتكاب الكبيرة على كذبه فيما أظهر من التصديق بقوله أحسب الناس






----------------------------------- صفحة 353


والمرجئة زعمت أن الإستدلال لظهور الصدق والكذب في الغالب لا أن التصديق في الحقيقة لا يكون دونه والإيمان هو ذلك التصديق في الحقيقة لو كان ليس في الكبيرة نفيه ولا في إبقائها بحقيقة في حق الوجود وإن كان في حق الدلالة على المستدل والله أعلم فحصل إذا القول منهم على ما توجبه اللغة وظهر كذبه في الحكاية ثم الأمة كانت قبل حدوث الإعتزال وأهله على قولين في صاحب الكبيرة على أنه مؤمن فاسق أو كافر فاسق ليعلم وجه كفره عند من يراه كافرا ووجه فسقه عند من يراه فاسقا وذلك ما يقال حرام مكروه وحلال مكروه ليعلم أن الحرمة هي بيان أخف الحرمتين وهي حرمة الكرامة لا حرمة الإطلاق وإن الحل ليس هو حل الإيثار والرغبة بل فيه بعض ما يورث الشبه فمثله أمر الأمة فيما ذكرت ثم اسقطت المعتزلة أحد الأسمين وهو الذي يعرف معنى التنازع وألزم الآخر على الإتفاق في منع ذلك مطلقا دون معرفة حقيقته فخالفوا بذلك الأمة وهذه حجة مقنعة لمن تصح نيته لله ولا قوة إلا بالله


ثم عارض نفسه بأنك اتبعت الإسم الأحكام هلا فرقت بين أصحاب الكبائر بما اختلفت أحكامها مهما قال أفعل فأسمى هذا سارقا وهذا قاذفا فيقال فإذ سميته فاسقا مع تحقيق اسمه الذي به فسق ولم تمنع عنه اسم فعله مما بالك منعت عن المؤمن اسم الإيمان الذي هو له مستحق لفعله إلا أن توسع التسمية بما يقبح من الفعل ويمنع بما يحسن وذلك جور في الفعل


ثم اسم الفسق لم يجب بجلد الثمانين ولكن بالموالاة والتعظيم وهذا بين الحيد عن تقدير المعارض له وإنما أراد والله أعلم أن الأسماء لم تقدر عن الأحكام بوجود الإختلاف في الأحكام على الإستواء في الأسماء وبذلك كان تقديره في الإبتداء ولا قوة إلا بالله


ثم الموالاة والتعظيم متفاوت على تفاضل المنازل والدرجات في المنازل في الدين كالرسل ثم الأئمة ثم العلماء ثم المؤمنين وعلى ذلك لازم الأمران جميعا في الدين ارتكبوا الكبائر على قدر ما أوتوا من الحسنات والمقت بما أوتوا من السيئات






----------------------------------- صفحة 354


فمن رام دفع ما جاء به من الخيرات بسيئات لسن بأضداد لهن فهو جائز في الحكم ولا قوة إلا بالله


ثم احتج بالآية التي فيها يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه في صاحب الكبيرة إنه لو كان مؤمنا لكان لا يعذب ولا يوعد عليه والآية ترجع إلى وجوه أحدها أن لا يجزيه عن شفاعة رسول الله بل يشفعه فيه وينجيه بها والثاني أن يكون ذلك عندما يقول لهم تواهنوا مظالمكم وعلى معذرتكم والثالث أن يكون لا يجزيهم خزى الكفرة من الخلود في النار إذ هو أنواع كما قال الله تعالى ليس لهم طعام إلا من ضريع وقال في موضع فليس له اليوم ها هنا حميم ولا طعام إلا من غسلين على اختلاف الدركات فمثله على إختلاف الأوقات ويحتمل لا يجزى أي لا يفضح فيهتك ستره وذلك كذلك في كل مؤمن


ثم الذي ينقض على المعتزلة إبتداء الآية وهو قوله يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا ألزمهم التوبة وجعلها شرطا للمغفرة على إبقاء اسم الإيمان لهم والصغائر مغفورة بإجتناب الكبائر على قولهم ثبت أن الآية في أصحاب الكبائر وقد بقى لهم اسم الإيمان ولا قوة إلا بالله


والدليل على أن اسم الإيمان لا يزول بزوال العدالة قوله تعالى ياأيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية إثنان ذوا عدل منكم ولو كان كل مؤمن عدلا لكان يقول إثنان منكم إذ كان ابتداء الآية في مخاطبة المؤمنين ثبت أن قد يكون مؤمنا عدلا وغير عدل وقال






----------------------------------- صفحة 355


الله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى قوله ممن ترضون من الشهداء فلو كان كل مؤمن مرضيا لم يكن للشرط فائدة وكذلك قوله وأشهدوا ذوي عدل منكم ثبت أن المؤمن يكون عدلا وغير عدل وكذلك قوله فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ثبت أنه قد يكون منهم رشيد وغير رشيد ولو كان كل مؤمن عدلا وكل من ليس بعدل ليس بمؤمن لكان لا شهادة ترد بالفسق بعد الإمتحان ولا يجوز السؤال عن الأحوال ليعلم بها العدالة والفسق بل على المكان الذي يسأل عما عليه من الإيمان في ذلك ويمكنه الوفاء فيجب قبول شهادته بلا سؤال عنه ولا اعتبار بأحواله وفي إجماع الأمة على الفحص عن الأحوال وترك النزول على ما يظهر من الأموال التي يكتفي بها فيما كان شرائطها الإيمان من الحل والحرمة والتوارث ثم العبادات دليل يبين أن الإيمان وما به يصير المرء مؤمنا ويستوجب أحكامه ليس هو كل ما يبقى أنواع الفسوق والعصيان ولاقوة إلا بالله


وعلى ذلك معنى أمر هذه الأمة في تعاهد الصلوات في الجماعات والصيام وإخراج الزكوات على ما هم عليه من الإختلاف في هتك الحرمات والإنهماك في المعاصي ثبت بالذي عليه الأمة عدول المعتزلة والخوارج عن الحق ولا قوة إلا بالله


ثم نذكر ما ذكر الكعبي فيما احتج عليه من القرآن بالحيل المستبعدة ليصرف عن نفسه وإتباعه اسم الإيمان ويوجب الإياس عن رحمة الله والإختيار لعداوته بكبيرة كأنه به يحصل على نفع في الدنيا وحمد في الدين ولا قوة إلا بالله






----------------------------------- صفحة 356


فقال لمن احتج عليه بقوله يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة والتوبة لا تكون إلا عن ذنب بوجهين أحدهما أن التوبة عن الصغيرة وإن كانت مغفورة والثاني على التعبد كتكرار التهليل وكدعاء الملائكة بقوله فاغفر للذين تابوا


نقول له الوجه الأول دل على جهله بمعنى التوبة إذ هي الرجوع والندم ومحال ذلك عما ليس عليه وهو مغفور له لا يجوز عليه التعذيب والثاني إن حق عليه إذا غفر له الحمد له والشكر على العفو وفي التوبة كفران ذلك لأنه يوهم بقاءه بالتوبة والثالث أنه قال عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم فجعله موقوفا على ما يكفره بالتوبة ثبت أن الذنب باق وهو لم يزل مستحقا إسم الإيمان والله أعلم


والتسهيل له في كل وقت حكم التحديد لأن حقيقة الأفعال أن لا يبقى والتوبة يكون عن ذنب ولا ذنب


وبعد فإنه يجوز الأمر بالتهليل على التعبد ولا يجوز بالتوبة والإستغفار عن ذنب مغفور لما فيه إيهام أنه ليس بمغفور وذلك كفران النعم وغير جائز ذلك كما لا يجوز الدعاء بأن لا يجوز ولا يظلم ودعاء الملائكة لما قد يكون لمن ذكر ذنوبا غير مغفورة فإلى ذلك ينصرف الدعاء ولا قوة إلا بالله


ثم قال في قوله يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون إلا أن ذا يكون فيما لم يكن فعله كمن يرى آخر يدعوه بعض الغواة إلى أمر قبيح فيقول على سبيل النهى لم تفعل يا أخي ما ينقص دينك ويوجب عليك سخط ربك لا أنه فعله لكن لئلا يفعله






----------------------------------- صفحة 357


فيقال له إن كان جهدك في صرف اسم الإيمان عن المبتلى بكبيرة على ما فيه من تعظيم الرحمن وخشية العواقب لئلا تسمى أنت به فلك ما اخترت في نفسك وسويته وإن كان ذلك لتزيل هذا عن غيرك فهو يعلم جرأتك في ذلك على الله بما فهم من تسمية الله إياه بغير الذي سميته فلا يحتمل أن يرتاب في خبر الله مع ما يعلم من نفسه كذلك بإفترائك على الله بتسويل الشيطان ولا قوة إلا بالله


ثم الذي ذكرته لا يحتمل إلا سفيه أن يقول ويعاقب على ما يعلم كذبه فيما يعاتبه عليه فأما الله سبحانه الذي لا يخفى عليه شيء يتعالى عن هذه الرتبة التي يأنف منها كل ذي لب والله المستعان وأما أنت فحقيق لذلك لأنك تيأس به من روح الله وتؤثر شهوتك عداوة الله وولاية الشيطان ويتعرك في مذهبه لمقته ولعنه فهنيئا لك ما خترته لنفسك عند الكريم والرحيم ولا قوة إلا بالله


ثم قال في قوله تعالى ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله إنه أثبت اسم الإيمان وإن لم تخشع قلوبهم إن أول ذلك إثبات إسم الإيمان بلا خشوع وأنتم لا ترون إلا التصديق باللسان والمعرفة بالقلب والثاني أن قد يقول لمن يخشى الله ويقوم بالغاية في شكره أما ينبغي لك أن تخشاني وتشكرني لا أنه غير شاكر له ولكن على التنبيه


قال الفقيه رحمه الله فأما الأول فإنما الآية إنما هو في الخشوع لذكر الله وأن من لا يخشع له مذموم فاسق وخشوع الإيمان هو الذي يكون بمعرفة جلاله وكبريائه وهذا لا يزول عن المؤمن ومع الإيمان قد سمى مؤمنا وإن كان به مذموما وفي الآية دلالة طول ذلك فيهم وذلك يوجب الوصف بالكبيرة عندهم وقد أبقى لهم اسم الإيمان فبطل بذلك قولهم والله الموفق






----------------------------------- صفحة 358


والثاني هو وصف من لا يعرف المنة والشكر فيعرض عن قبولهما ويعاتب على ما كان حقه التعظيم والقبول فإن كان هذا وصف الله عند المعتزلة فهو قد بلغ مناه من التسمى بأقبح اسم والخلود في أسفل الدرك نعوذ بالله من الشقاء ثم أطنب في هذا القول لكن من أصل بنائه ما ذكرت فما نريد إطنابه إلابعدا عن الإصابة وبالله المعونة


ثم أجاب في قوله وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا أنه كقوله ومن يرتدد منكم عن دينه وقد كان سماه مؤمنا من قبل والثاني أن يكون الإقتتال بغير سلاح نحو المجاذبة أو كانوا مجتهدين فلا يخرجون به من الإيمان


فيقال إذ جرى الأمر بالإصلاح بينهم وتسمية الإخوة بطل معنى الردة وقوله فقاتلوا التي تبغى دل أن الباغي كان معلوما لا أن كان ثمة اجتهاد مع ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم أبى لهم الإجتهاد إلى ذلك الحد ثم دل الأمر بالقتال والصغيرة تكون مغفورة لا يقابل عليها على أن ذنوبهم قد كبرت وقد أبقى الله لهم اسم الإيمان والله الموفق


وقال في قوله إنما المؤمنون إخوة بمثل ذلك وقد بينا وهمه ثم على قوله إن صاحب الكبيرة عدو الله لا يسع له الدعاء بالخير ويلزم لعنه وما الإصلاح إلا الدعاء بالخير والصلاح ولا قوة إلا بالله


وقال في آية القصاص وما فيه من تسمية الإخوة إن الله لم يعد على الإخوة المطلقة ثوابا ولا مدحا وإنما كان ذلك في الإخوة في الدين فيقال لهم قد سماهم مؤمنين في أول الآية ثم أبقى لهم اسم الإخوة في آخرها ولا معنى سبق يحتمل حرف ذكر الإخوة إليه ثبت أنه في الدين مع إبقاء اسم الإيمان






----------------------------------- صفحة 359


وأما الثواب فقد شرط مرة باسم المطلق ومرة باسم المقيد من ذلك قوله فأثابهم الله بما قالوا ثم قد يجوز عندك التحذير مع وجود القول وإن وعد عليه الثواب فمثله المؤمن باسم الإطلاق وقال والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون وكذلك قوله والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم وصاحب الكبيرة يقال آمن بالله ورسله ولم يفرق بين أحد من رسله ثم جائز في مثله التخويف والوعيد ولذلك قال الله وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما وصاحب الكبيرة قد أتى بحسنة ويستحق الذي جاء به اسم الحسنة فما تنكر أن يستحق اسم المؤمن وإن أوعد ولا قوة إلا بالله


ثم عارض نفسه بالحقوق التي أوجبت باسم الإيمان وأحلت به وقد دخل في ذلك أصحاب الكبائر فأجاب بأن إدخالهم بالإجماع لا بالإسم كما أدخلتم في قوله حقا على المتقين حقا على المحسنين وإن لم يكن الفاسق كذلك قيل له الإجماع أدخلهم في ذلك بالفهم من الخطاب بالإيجاب والتحليل بالآيات إذ ليس أحد منهم ذكر وجها به عرفوا سواه ولا أحد من متعاطى الفسق سأل أحدا عن خاص بل عرف تضمنه تلك الآيات ولم يجز الخطاب بالوجهين باسم التقوى لذلك بطل التقدير وقوله حق على كذا أي حق على من يريد التقوى ذلك وليس فيه إيجاب مع ما كان في الذي يذكر تخصيص معنى التقوى في حق الخطاب فيما نحن فيه يدخله في الخطاب بلا اسم الذي به خوطب لا بالإطلاق ولا بتخصيص ولا قوة إلا بالله






----------------------------------- صفحة 360


وعارض في التحليل بالمجنون والصغير قيل لهما حكم الإيمان بغيرهما إذ لولا ذلك الغير لم يجب لهما ذلك كما لو لم يجب لأولاد الكفرة وما نحن فيه لا غير في ذلك يتبعه فثبت أنه أستوجبه بإيمان نفسه ثم عورض بما يصلى الفاسق ويصوم فقال لئلا يزداد فسقه ويزول عنه عذاب تركهما


قال الشيخ رحمه الله يقال له لم يفهم السؤال إنما معنى ذلك أنهما يجوزان بالإيمان فولا أنه مؤمن لم يكن ليمضيا له ويزيلا عذاب تركهما عنه بل لا شيء عليه في تركهما ولا يجوز أن يفعله لو لم يكن مؤمنا ولا قوة إلا بالله


وقد أفردنا في بعض كتبنا في هذه الآيات كتابا أغنانا عن الإطناب في هذا الباب


ثم نذكر الفصل بين ما يخلد له العذاب ولا يخلد من طريق الحكمة وذلك يخرج على وجهين أحدهما من طريق الإعتبار بتفاوت الذنوب في أنفسها وقد وعد الله أن لا يجزى إلا مثله وكذلك حق الحكمة إذ التعذيب يكون بما يوجبه الحكمة لا بما يختار إذ ليس هو نوع ما يختار وبخاصة ممن لا يضره الخلاف ثم هو الموصوف بالعفو والرحمة ولهذا ما أوجب المغفرة والعفو عن كثير من الذنوب ثم يخرج ذا على وجوه أحدها أنه ما من أحد يعصى الله بنوع من الكبائر دون الشرك إلا وهو لوقت العصيان مكتسب الطاعة من خوف عقاب والفزع عن مقته ورجاء رحمته والثقة بكرمه وذلك عن خيرات لو قوبل بها ما ارتكب من الخلاف بغلبة شهوة وقهر غضب أو نحو ذلك ليرجح ما كان منه من خير على ما كان من شر فلا يجوز أن يحرم نفع الخير ويوجب له عقوبة الشر ومن ذلك فعله موصوف بالجود والكرم ولا كذلك معناهما ولا قوة إلا بالله


وليس مع من يكفر بالله ويشرك به معنى يستحق اسم الحسنة والخير لأنه يكذبه وينكر أمره ونهيه فلا يحتمل أن يكون له الرجا وفي دوام عذابه مضادة معنى الكرم والجود ولا قوة إلا بالله






----------------------------------- صفحة 361


والثاني أن الله جل ثناؤه وعد أن لا يجزي إلا مثلها ومثل الشرك الذي في العقل أكبر من كل ذنب مع ما لا حسنة يكون معه ومع غيره إنما هو الخلود في النار إذ معلوم أن الكافر يرضى بأضعاف ما يعذب مع النجاة يوما من الدهر فيبين ذلك أن تمام جزائه الخلود فإذا كان لغيره مثله فيجزى غيره أكثر من مثل الفعل وذلك جور في حكمته والله يجل عنه فهذا مع ما كان مرتكب ما دونه حسنات وليس معه ولا قوة إلا بالله


وأيضا أن الحدود في الدنيا جعلن كفارات لما يرتكب من الذنوب فلو لم يكن فيها تكفير كانت تكون زيادات على عقوبات الكفر ومحال أن يزداد عقوبة ما دون الكفر فثبت أنها كفارات ولا كفارة للكفر في الدنيا ثبت أنه لا يحتمل في العقوبة فجعلت أبدية وعقوبة غيره بحد فكذلك العقوبة الموعودة فيه ولا قوة إلا بالله


وأيضا أن الله جل ثناؤه أخبر أن الموعودة عقوبة الذين كفروا وأضلوا غيرهم ضعف عقوبة من كفر ولم يضل غيره ثم لو كان للكافر عقوبة غير الإضلال مثل عقوبة الإضطلال لكان كل كافر عقوبته مضاعفة لأنه لا كافر إلا معه سوى الكفر كبائر وقد خص الله بالمضاعفة المضلين بقوله وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وقول الأتباع ربنا هؤلاء أضلونا وجعل لكل ضعفا فبطل أن يكون ذلك عقوبة الكبيرة بل هل لو كانت في الكفر كان أحق للضعف منه في الإسلام للمثل ألا ترى أنه يعاقب الكافر بجميع الآثام من صغائر وكبائر ولا كذلك أمر من اعتقد دين الإسلام ولا قوة إلا بالله






----------------------------------- صفحة 362


ثم الوجه الآخر من طريق الإعتبار أن الكفر مذهب يعقد والمذاهب تعقد للأبد فعلى ذلك عقوبته وسائر الكبائر يفعل للأوقات وهو عند غلبة الشهوات لا للأبد فعلى ذلك عقوبتها ولا قوة إلا بالله


والثاني أن الكفر قبيح لعينه لا يحتمل الإطلاق ورفع الحرمة فعلى ذلك عقوبته في الحكمة لا يحتمل الإرتفاع والعفو عنه وسائر المأثم جائز رفع الحرمة عنها في العقل وإباحة ما له العقوبة فمثله عقوبته والله الموفق


والثالث أن العفو عن الكافر عفو في غير موضع العفو لأنه منكر المنعم ويرى ذلك حقا فيكون في ذلك تضييع العفو وإبطال النعمة ولا كذلك أمر سائر المأثم بل يعرف صاحبها المنعم فله أعظم الموضع ولإكرامه أبين المحل فجائز المغفرة له والعفو عنه في الحكمة وبالله المعونة


والرابع أن يكون الله تعالى قد أحسن إليه في الدين في الوقت الذي خفاه هو بفعله في أن جعل حقه أعظم في قلبه من الدارين وأنبيائه ورسله أجل في صدره من أن يحتمل نفسه الإستحقاق بشعرة من شعورهم أو الإستهانة بشيء من أمور دين الله أو الركون إلى أحد من أعدائه فيما قد اختاره وآثره من الخلان لله وكل ذلك هو إحسان الله إليه وإنعامه عليه فلا يحتمل أن يضيع مننه ويغير نعمه بجفوة يعلم أن قدرها من الذنوب لا يبلغ حرفا مما لا يحصى من نعمه عليه وإحسانه إليه وهو يؤمن خلقه بأن لا يغير نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن يضيع جميع ما أكرمهم به فمثل الذي ذكر وقد أنطق لسان رسوله أنه يدخل الجنة إلا من أبى ذلك ويجمع بين من ذكرت وبين أعدائه مع كثرة مجاهدته إياهم في نصر دينه وإعلاء كلمته وقد ختم عليه لا والله ما يفعل ذلك وهو الغنى الكريم وهو العفو الغفور وهو الرحيم الودود مع ما جاءت البشارة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في لحوق العبيد لمن أحبوهم ثم كان الذي ذكر أحب رسول الله فيجعله قرين الشيطان ويحرمه زيارة رسوله جل ثناؤه عن هذا الوصف الذي وصفته به المعتزلة والخوارج على ظهور هذا الصنيع في جملتهم حتى لا يسلم من






----------------------------------- صفحة 363


ذلك أحد ولعله لا يذكر عن خارجي أو معتزلي قبض سليما عن ذلك وبعيد في الحكمة أن يوفق للصواب في الدين من آثر عداوته في شهوته وآيس من رحمته في أدنى منفعة ويؤثر الخروج من دينه في مذهبه إشفاقا على نعمة يسيرة من الدنيا ويحرم من هو في ضد هذا الوصف ولا قوة إلا بالله


قال الشيخ رحمه الله ثم جملة ما جاءت به الآثار في الوعيد بالتسمية من فسق أو فجور أو عصيان أو ظلم أنها أسماء لخصال ثلاث منها ما قد يجوز أن يصير في الحكمة على الإشارة إلى الفعل الذي سمى لأجله به غير فسق ولا غيره من الأسماء الذميمة ومنها ما لا يجوز ومن البعيد قصد شيئين بينهما هذا التباعد فحق ذلك أن يصرف إلى ما لا يرتاب في الإسم والحكم وإذ كان على أقسام ثلاثة ولم يتضمن كل الأقسام ثبت الخصوص في ذلك فلزم صرف ذلك إلى ما لا يشك فيه ولا قوة إلا بالله


على أن في الصرف إلى العموم يحقق له التناقض لمجيء أخبار العفو فثبت بذلك الخصوص ولا قوة إلا بالله


أو إذا احتمل الخصوص والعموم بما ينقسم المسمى به ما ذكرت فحق مثله الخوف لا القطع فمن قطع جرح مما يوجبه الحكمة عند الشبه ولا قوة إلا بالله


ثم الدلالة على وعيد الخلود لا يحتمله ما دون الشرك الأمر الذي جبل عليه الخلق من نفارهم عما به الخروج من أديانهم التي اعتقدوها وإن كانوا اعتقدوها عقلا أو حجة أو تقليدا على وجود ما دون ذلك من الزلات فيهم وإن اختلفت أديانهم فدل أن ذا مما جبل عليه الخلق بل أيد ذلك العقول إذ الإعتقادات تكون عند أربابها أبديات ولا كذلك الأفعال التي تشار إليها وعلى ذلك أضدادها وكذلك السمع في الأفعال المشارة أنها على الإختلاف فعلى ذلك






----------------------------------- صفحة 364


تركها فدل ما ذكرنا على خروج مذهب الإعتزال عن الأمر المجبول عليه والمدفوع إليه أيضا بالتدبير ولا قوة إلا بالله


ثم نذكر طرفا مما يلزم المعتزلة على مذهبهم الوقف في التسمى بالإيمان وهو أن من مذهبهم أن الحد الذي بين الصغيرة والكبيرة من المعاصي غير معروف ليكون المرء خائفا راجيا لا آمنا آيسا فنقول إذ لا أحد منكم يدعى براءة نفسه من كل ولا العلم ببلوغ الحد الذي يوجب الأمن والإياس فذلك تردد الحال بين الكبيرة والصغيرة والكبيرة تزيل اسم الإيمان والصغيرة لحقكم الشك في اسم الإيمان وزواله كما لحقكم في اسم الكبيرة والصغيرة فإذا منع ذلك الشك القول بالأمن والإياس ثم لما منع التسمى بالإيمان والذي يدفع هذين واحد ثم لما جاز إثبات الإسم مع الخوف وأمركم أن المؤمن لا خوف عليه ولم لا يخافون من تسميتكم أنفسكم مؤمنين الكذب الذي لعله كبيرة يزيل عنكم اسم الإيمان فيكون بالتسمية من كبر أنفسكم وقد حذرتم عن تزكية الأنفس بقوله تعالى فلا تزكوا أنفسكم ثم تعارضون بالبر والتقوى أتشهدون أنفسكم بهما أو لا فإن شهدوا لزمهم بالخوف في المتقين الأبرار أن يكونوا استوجبوا مقت الله والخلود في النار فيكون جهنم دار المتقين الأبرار لا دار الفاسقين وقد قال الله تعالى إن الأبرار لفي نعيم ويبطل الدعاء بقوله وتوفنا مع الأبرار وإن أبوا التسمية بذلك لزمهم مثله في الإيمان إذ هو اسم لما به النجوة من مقت الله كالبر والتقوى ثم يقال إنه قد ثبت عن الأنبياء والرسل أنهم كانوا يدعون الله رعبا وهبا وخوفا وطبعا ويزعمون أنهم لم يبتلوا بكبائر فقد كان هذا الخوف مم لم يبل بها لم لا دلكم أن ليس ترك بيان الحد لما يخاف ويرجى بل ذلك لما لله معاقب من شاء بالصغائر ومن قولكم إن ما يوجب






----------------------------------- صفحة 365


العقوبة يزيل اسم الإيمان فاعتبروا بأن لستم مؤمنين على ما أخبرتم في الحقيقة والله الموفق


وقد قال الله تعالى إنما المؤمنين الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وعندكم المؤمن لا يخاف نقمة الله ولا يرجو رحمته بل قد استوجب رحمته لو كان مؤمنا وليس لله أن يعذبه لو كان مؤمنا والإيمان هو الذي حملهم على ذلك فكيف ألزمتموهم الخوف وذلك ليس على المؤمن في الحقيقة ومنعتموهم على الإرتياب في الإيمان والإرتياب فيه بما رأى الخوف وذلك بين التناقض ولا قوة إلا بالله


مسألة الشفاعة


ثم قال بعضهم لو كانت الكبيرة مما يجوز الشفاعة له لكان من يحلف بفعل شيء يستوجب به الشفاعة يؤمن بإرتكاب الكبيرة


قال الفقيه رحمه الله فنقول ذلك وهم لأنه ليس الذي له يشفع هو الذي به يستوجب الشفاعة بل يستوجب بالحسنات التي بها يجب الولاية فيما ترك فحق من حلف بذلك ليس أن يقال له اعص ولكن يقال له اطع ليستوجب به الشفاعة فيما عصيت وكذلك من يحلف لأفعلن الفعل الذي استوجب به المغفرة لا يقال له ارتكب الصغائر بل يؤمر بإتقاء الكبائر والتوبة عنها ليغفر له فمثله أمر الشفاعة


والشفاعة من أعظم ما احتج بها وقد جاء القرآن بها والآثار عن رسول الله والشفاعة في المعهود والمتعالم من الأمر تكون عند زلات يستوجب بها المقت والعقوبة فيعفى عن مرتكبها بشفاعة الأخيار وأهل الرضا ثم كانت الصغائر






----------------------------------- صفحة 366


مما لا يجوز التعذيب عليها عند القائلين بالخلود في الكبائر والكفار مما لا يعفى عنهم بالشفاعة فإذا بطل عظيم ما جاء به من القرآن والآثار في الإمتنان وسقط ما جبل عليه أهل العلم من الرجا بالله وبرحمته ويبطل دعاء المسلمين بشفاعة الرسل ولا قوة إلا بالله


وقال بعضهم الشفاعة تخرج على وجهين على ذكر محاسن أحد عند آخر ليقدر له عنده المنزلة والرتبة والثاني أن يدعو له فالأول هو الذي يحتمل توجيه الشفاعة إليه والثاني قد بين فيمن يقوله الذين يحملون العرش إلى قوله وذلك هو الفوز العظيم وقوله ولا يشفعون إلا لمن ارتضى والحرف يدل على وجهي الشفاعة لأن المرتضى هو ذو منزلة وقدر هو ممن تضمنته آية شفاعة الملائكة


قال الشيخ رحمه الله فنقول وبالله التوفيق الوجه في الآخرة لا معنى له لوجهين أحدهما أنه في تقدير الأمر عند من يجهله والله جل ثناؤه هو العليم بحقيقة ذلك بل غيره مما يجوز عليه خفا الحقايق كقوله يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لاعلم لنا وقال عيسى ما قلت لهم إلا ما أمرتني به فكان في ذلك عبدالله وهم قد تبروا عن العلم بذلك وأقروا بأن الله هو المتفرد بعلم ذلك ولا قوة إلا بالله والثاني أن ثمة كتب يقرأ فيها أعمال بني آدم وما سبق منهم من صغير أو كبير فهي الكافية في التقدير إن كان في حق الإحتجاج وإن كان في حق الإعلام فعلم الله بهم مغن عن ذلك ولا قوة إلا بالله






----------------------------------- صفحة 367


وأما الآية في الدعاء فكذلك نقول بدعاء لمن له ذلك الوصف ويشفع له فيما كان في ذلك منه من المآثم والذنوب لا أنه إذا كان أفعالهم ذلك فيشفع لهم لأنه لا يجوز في الحكمة تعذيبهم على ما ذكر من الأفعال بل لهم عليها أعظم الثواب وأرفع المأوى فطلب الشفاعة والمغفرة لمثله يقبح من وجوه أحدها أن ذلك إذ لا يجوز في الحكمة تعذيبه فكأنهم طلبوا منه أن لا يجوز ولا يسفه وذلك لأفسق الخلق يخرج مخرج التفسيق فضلا من أن يتضرع إلى الله جل الكريم الحكيم عن هذا الوصف والثاني أن الحق في مثله إذ هو مثاب غير معاقب يلقى ذلك منه بالشكر والحمد وفي الدعاء كتمان ذلك وكفرانه ومحال الإذن في مثله والدعاء والله الموفق


والثالث أن ذلك في الموعود له الجنة والمبشر بها فبطلان مثله يوجب الجهالة في ذلك إلا أن يكون الوقت لم يبين يكون ذلك في الإستعجال وهو قولنا في أصحاب الكبائر أنهم لو عذبوا بقدر الذنوب لكان ذلك في الحكمة عدلا فيشفع لسائلهم بالفضل والإحسان دون العدل والإستيفاء ولا قوة إلا بالله


قال أبو بكر الكسائي قوله تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء أن الله وعد المغفرة فيمن شاء ثم بين ذلك في الصغائر بقوله إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وقد ثبت الوعيد في الكبائر بقى الوعد فحقه لم يزل بالذي ذكر لإحتماله ما وصفت






----------------------------------- صفحة 368


قال الفقيه رحمه الله فنقول له بأوجه أحدها أن الوعيد الذي ذكرته يحتمل الإستحلال والإستخفاف بالأمر والنهى فلا يترك ما أطمع بهذه الآية من المغفرة فيزال الطمع والرجاء بالوعيد المتوجه وجهين أو يوقف فيهما فأما القطع في أحد الوجهين بالمحتمل ومنع القطع بالآخر للإحتمال فهو تحكم ولا قوة إلا بالله


والثاني أن الآية في التفضيل بين المحتمل للغفران والذي لا يحتمل فإذا صرفت إلى الصغائر بطل تخصيص اسم الشرك وتلبيس على السامع محله وليس أمر الوعيد فيما جاء بموضع التفضيل بل الذي جاء بحق التفضيل ذكر الغفران بالتكفير والتكفير يكون بمقابلة الجزاء من حسنات أو عقوبات كقوله تعالى إن تجتنبوا كبائر ماتنهون عنه والله الموفق


والثالث أنه قال لمن يشاء وهذا كنابة عن الأنفس المغفورات لا عن الآثام التي تغفر لم يجز صرف التخصيص إلى الآثام بالآية المكنى بها عن الأنفس وفي آيات الوعيد تحقيق في الذي جاءتهم وفيما جاء على ما قيل لا صرف في ذلك فهو أولى والله الموفق


وبعد فإنه قال لمن شاء والصغائر عندكم مغفورة بالحكمة لا بالوعد والآية في التعريف ولا قوة إلا بالله


ثم قالت المعتزلة صاحب الصغيرة إذا أصر عليها يصير صاحب كبيرة والإصرار على ذلك الفعل ليس هو لزومه لأنه لا فعل يمكن لزومه حتى لا يتحول منه إلى غيره فليس إذا الإصرار إلا ترك التوبة والندامة عليه وكل الذنوب من الشرك وغيره مغفور بالتوبة عنها والندامة عليها فيبطل على قولهم حق هذه الآية من التفضيل بين الشرك وما دونه وحق الأية الأخرى من التفضيل بين الكبائر وما دونها ويحصل على أن كل دنب يوجب الخلود إلا أن يتاب عنه وذلك بين لمن تأمله ولا قوة إلا بالله






----------------------------------- صفحة 369


وقال قائل إذا كان كل خلاف لله فهو مما دعا إليه الشيطان ويسر به لو فعل لم لا صار ذلك طاعة له ومن فعل فعلا لطاعة الشيطان يكفر أو يصير به عابدا له إذ ذلك منه وضع شرع مقابل لشرع الله وداع إليه ومن عبد الشيطان فقد بين الله منازل عباد الشيطان


قال أبو منصور رحمه الله ليست هذه المسألة للخوارج والمعتزلة لإقرارهم في الأنبياء بالزلل والأخيار لكنها لبعض الموسوسين يوسوس إليهم الشيطان هذا ليكفرهم بهذا إذ ذلك معلوم أنه من تزيين الشيطان وما دعا إليه فيصيرون على قولهم مطيعين له كفار نسأل الله العصمة عنه


ثم نقول في ذلك بوجوه أحدها أن ليس في ذلك طاعة للشيطان وإن كان هو يسر به ويتلذذ لشوم طبعه وسوء اختياره إذ لم يكن الذي يتعاطاه بفعله لأمره ودعائه إليه والطاعة هي التي تؤدي على الأمر لا على ما يسر ويتلذذ لأن للعباد فيما أعطاهم الله الشهوات لذات وسرورا ومحال وصف الله بالطاعة لهم أو يمكن الأمر منهم إياه بالفعل دل أن ليس ذلك الوجه هو سبيل معرفة الطاعة ولا قوة إلا بالله


والثاني أن الديانات هن اعتقادات لا أفعال تكتسب إذ الإعتقادات لا يجرى عليها القهر والغلبة ولا لأحد من الخلائق على اعتقاد آخر ومنعه سلطان وهن أفعال القلوب خاصة وربما كان للألسن بها تعلق من حيث لا يقدر على استعمال لسان غيره وكذلك قلبه ويقدر على سائر الجوارح وإذا كانت الديانات ما ذكرنا والكفر والإيمان دين لم يصر الذي ذكرت لو كان طاعة دينا والكفر دين فكيف وهو من الوجه الذي ذكرت ليس بطاعة وقد روى عن أبي حنيفة رحمه الله أنه أجاب لهذا السؤال أن الذي ذكرته حق القصد لا حق الوقوع على حال لا يقصد ذلك وعلى ذلك أمور علقت بالقصد وذلك يخرج على ما بينا من ترتيب الإعتقادات ولا قوة إلا بالله






----------------------------------- صفحة 370


وأيضا إن كل مؤمن فيما يعصى الله في شيء يكون كالمدفوع إليه بما يغلب عليه من شهوة أو غضب أو حمية أو نحو ذلك وبما به يصير إليه إذا لم يقصد عصيان الرب أو طاعة الشيطان يصير من الوجه الذي ذكرت كالمدفوع لم يلزمه الكفر به ولله أن يجزيه عليه بما ملكه ما به يمتنع عن الدفع إليه ولا قوة إلا بالله


وأمكن أن يقال ذلك فضل الله إلى عباده إذ لم يلزمهم بمثل ذلك طاعة الشيطان وعبادته أو علم شدة ذلك عليهم على ما أكرمهم الله حال العصيان بمعاداه الشيطان وأنه لا أحد أبغض إليهم منه ولا شيء أثقل على طباعهم وعقولهم مما فيه سروره ولذته فضلا عن طاعته وعبادته فتجاوز الله عنهم عن ذلك لوجهين أحدهما في العاجل بمنع اسم الطاعة والعبادة له والثاني باطماع المغفرة والتجاوز بما آثر عداوة الشيطان في وقت عصيانه رحمة رب العالمين المعروف بالكرم والجود الذي لم يزل يعودهم بإحسانه إليهم وأفضاله عليهم له الحمد على ذلك أوفره


وبعد فإن العبد إذا إعتقد طاعة الرب وعرف العبودية وأشعر قلبه عظيم نعمه عليه وآلائه لديه ثم أراه عظيم سلطانه وقدرته بما ذكره حكمته في خلقه ونفاذ مشيئته فيه كف نفسه عن أن يميل إلى طاعة من لا يكون طاعته طاعته وصانها عن توهم عبادة دونه لم يجز صرف فعله الواقع منه بعد أن اطمأن قلبه على هذا وصير ذا آثر عنده من الدنيا والآخرة لشهوة غلبته أو لرحمة يأملها أو لأمر دفعه إليها طاعة لغيره أو عبادة منه أحدا دونه وما ذكرته هو لازم قلبه وقت فعله وإنما يكون مثله من الكافر الذي اعتقد طاعة من دونه وعبادة من لا يستحقها أن يصرف ذلك إلى من به صار إلى ذلك من الشيطان أو النفس ولا قوة إلا بالله


قال الفقيه أبو منصور رحمه الله ثم الأصل في كل شيء أوعد عليه أن حقيقة ذلك تقع من صاحبه على وجوه من القبح مما يعلم كل تفاوت ذلك في






----------------------------------- صفحة 371


العقول وكذلك كل اسم جاء به تسمية الفاعل أن ذلك يقتضى مختلفا من معان لا يعقل لا تكون هي من كل الوجوه على وزن واحد في القبح ولا فاعله في الذم وذلك عيب عن السامع لزمه بعقله الذي أكرم معرفة اختلاف مواقع ذلك أن لايجمع بينها إلا أن يمتحن ما عليه الأمة من الأفهام فوجدها حصلت على ذلك أو يمتحن جميع ما ورد في السمع فوجده محققا لذلك أو جعله يحتمل الإحاطة بكل فنون الحكمة فوجد ذلك يضيق عن التخصيص ويلزمه القول بالعموم فأما أن يحصل على المخرج من العموم في القضاء وقد علم أن ذلك لو كان حقا في الحكمة أو واجبا في التدبير ليجد أهل الإلحاد أوضح طعن في القرآن وأيسر سبيل إلى القول بأنه غير منزل من عندالرحمن إذ به وصفه أنه لو كان من عند غيره الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا وقال لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وقال إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ثم وجد أكثر ما فيه الحكم منصرفا إلى غير المخرج ومحصلا على غير مجرى اللفظ من العموم والخصوص وذلك على هذا القول صرف عن طريق الحكمة ومزيل حق التدبير جل الله عن أن يلحق حجته هذا الوصف أو دليله هذا التناقض


ثم قد بين جل ثناؤه لما أرسل من الأسماء المحمودة والمذمومة المقابلات التي لديها يظهر لزوم حق صرف المطلق من ذلك فقال إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم ثم وصفهم فقال كلا إن كتاب الفجار لفي سجين إلى آخر السورة فبين الفاجر المطلق المقصود بالوعيد وما منه من






----------------------------------- صفحة 372


التكذيب لما قد بينه في غير موضع علمه ثم قال أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون ثم بين من المراد بالمؤمن وما له من المآب والفاسق وما إليه مرجعه مع تكذيبه في ذلك باليوم وقال فيما قال كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم إلى قوله والله لا يهدي القوم الظالمين وقال قالوا لم نك من المصلين وفيمن لم يؤد الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون وفي أمر الربا ما ذكر من قوله ومن عاد وقوله وأخذهم الربا إنهم أحلوا حيث قالوا إنما البيع مثل الربا وكذلك أموال اليتامى لم يكونوا يعطون الذين لم يبلغوا القتال ولا ضربوا بالسهام في المغانم وأمر القتل كذلك كانوا يقتلون بغيا واستحلالا على ما ذكر من قوله واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فهذا الآن طريق حقائق الوعيد وما فيه إبطال تسمية الإيمان وعلى ذلك القسمة في الآخرة فريق في الجنة وفريق في السعير والمعطى بيمينه وشماله والمؤمن والكافر وقوله تعالى واتقوا النار التي أعدت للكافرين ففيهم تحقق الوعيد ولزمت الأسماء التي هن نهايات في القبح إياهم وأما من لم يبلغ ذلك الحد فإن الذي جاء فيهم من الوعيد يخرج على وجوه على تحذير اختيار تلك الأحوال التي ذكرت أو على أن ذلك جزاؤه لو






----------------------------------- صفحة 373


لم يكن معه غير ذلك من المحاسن أو على أن لله في حكمته فيهم على ما استحقوا وجه عفو ولشفيع الأخيار فيهم أو تكفير بغير ذلك من الحسنات أو وجه من العذاب على قدر ذنبه من ذنب الشرك وله من الثواب فيما جاء به على ما أكرم به وأنعم في الدنيا من التوفيق لطاعة ربه والحمد على ذلك ولا قوة إلا بالله


مسألة في الإيمان


قال قوم الإيمان هو الإقرار باللسان خاصة وليس في القلب شيء


قال أبو منصور رحمه الله ونحن نقول وبالله التوفيق أحق ما يكون به الإيمان القلوب بالسمع والعقل جميعا أما السمع فما قال الله تعالى في المنافقين الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم وقال قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم أبطل أن يكون قولهم إيمانا إذا لم يؤمن قلوبهم وقال يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين فأخبر أنهم لو كانوا بما ادعوا من الإيمان مؤمنين بهداية الله لكانوا مؤمنين لو صدقوا


ولو لم يكن الإيمان إلا باللسان لكان إذا نطقوا به فقد صدقوا وقال تعالى يا أيها






----------------------------------- صفحة 374


الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن أخبر أن الله تعالى أعلم بإيمانهن ولو كان الإيمان ليس إلا القول باللسان لكان كل سامع واحد في العلم وقال تعالى ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم أخبر أنهم كذبوا في ذلك وقال فلا وربك لا يؤمنون ولو لم يكن غير اللسان لم يكن لينفى إيمانهم بوجود الحرج في الأنفس وقال تعالى فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ثم قال والله أعلم بإيمانكم بين أن الإيمان حقيقة حيث يعلم الله به وحده وقال تعالى ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين نفى أن يكون الذي قالوا بألسنتهم إيمانا إذا خالفت قلوبهم ذلك ولا قوة إلا بالله


ثم إن الله عز وجل وعد للمؤمنين الثواب الدائم وأخبر في المنافقين أنهم في الدرك الأسفل من النار فلو كان ما أظهروا إيمانا في الحقيقة لكان حقه على الموعود الجنة لا الزيادة على عقوبة الكفر وقال تعالى يخادعون الله والذين آمنوا صير إيمانهم الذي أظهروا مخادعة الله فمن زعم أن مرتبة دين الإسلام والإيمان بالأنبياء وبالله وبما أرسلهم به يحصل على مخادعة الله فهو عظيم القول في دين الله جاهل بربه ولا قوة إلا بالله


وقال الله عز وجل سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم وقال تعالى وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله وغير






----------------------------------- صفحة 375


ذلك مما أخبر الله عن المنافقين أنهم كفروا والكفر ضد الإيمان وبالإيمان ننتهى عن الكفر وقال الله تعالى إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وقال تعالى ومن يفعل ذلك يلق آثاما إلى آخر تلك الآيات


وإذ ثبت أن المنافقين كفرة في التحقيق كذبة في قولهم بما قال الله والله يشهد أن المنافقين لكاذبون وقال يوم يبعثهم الله جميعا أخبر أنهم كذبة فجعل قول الإسلام منهم على جحوده القلب كذبا فمن جعل ذلك إيمانا والإيمان في اللغة هو التصديق فقد جعل الشيء ضده وذلك فاسد وقال لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم وقال سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم وقال ليخرجن الأعز منها الأزل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون أخبر أنهم كفرة وأنهم لا يعلمون لمن العزة وأنها لمن ذكر ولو كانوا منهم لكانت لهم ولا قوة إلا بالله


مع ما جعل الله ذلك منهم استهزاء ومخادعة وسخرية وأوجب لهم جزاء ذلك ولم يجز أن يكون الإيمان هذا وصفه ولا قوة إلا بالله


وقد قال الله إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان لم يجعل لهم كفر باللسان إذا لم يكن عبارة عن القلب ومنع ذلك بإيمان القلب فثبت أن القلب هو موضع الإيمان وبالله التوفيق






----------------------------------- صفحة 376


وليس بما يقاتلون إلى أن يشهدوا باللسان دليل أن ذلك هو الإيمان أو لا إيمان بالقلوب بل ذلك منهم دليل الإيمان وعبارة عنه فيقبل قولهم في الأحكام الظاهرة بحق العبارة بما لا سبيل لنا إلى حقيقة العلم به وعلى ذلك عامة الأمور بين الخلق محمولة على ما يحتمله وسعهم من المعارف وإن كانت لها حقائق غيرها مع ما كان في الذي بينا دلالة ذلك وكذلك الأمر المتوارث في التفصيل بين الكفرة وبين المؤمنين بالإعلام وأنواع أو المخالطة من الأهل وإن لم يكن تلك بكفر ولا إسلام فمثله أمر العبارة باللسان وعلى هذا ما بينا من الآيات في العلم بالإيمان وأمر القلوب فيما جاء به النصوص فمثله الذي نحن فيه والله أعلم


وعلى ذلك أمر المكره على الكفر وقول نبي الله صلى الله عليه وسلم إنما يعبر عما في قلبه لسانه وعلى ما ذكرت أمر الأملاك والشهادات وأنواع المذاهب في الأديان بما علمه ذلك الأمور الظاهرة فمثله حكم القبول وقد تجد الله أمر بأن يقاتل ليعطوا الجزية وأن يجاروا إلى أن يسمعوا كلام الله وفي ذلك الترك بين المسلمين يتعيشون لينظروا في أمورهم ويتدبروا في أحكامهم فيعلموا بذلك حقائقها وإن كان لا يحتمل تأسيسها على ما فيها من تأليف القلوب ودفع التظالم وأنواع الفساد إلا بالله ليطمئن قلوبهم بالإيمان ويحتمل أنفسهم الإجابة إلى الإسلام فمثله في الدين أظهروا الإيمان بالله وأجابوا المؤمنين إلى ما عندهم من الأحكام ولا قوة إلا بالله


ثم يقال لهم فإن كان ما يقبل منهم من الإيمان في ظواهر الأحكام باللسان دليلا على أنه خاصة فلما حرموا به الغفران والموعود على الإيمان من النعيم الدائم والثواب الجزيل ثم بما لا يجوز لهم عبادة في الحقيقة ولا ينالون بها فضيلة عند الله دليل على أنهم ليسوا بمؤمنين ولا قوة إلا بالله






----------------------------------- صفحة 377


ثم يقال لهم قال الله عز وجل قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وقال وقاتلوا المشركين كافة وقال فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ويقاتل على ما يظهرون من الشرك والكفر دون ما يضمرون ولم يجب بهذا أن لا يكون الشرك والكفر بالقلوب فما يبعد أن يؤمر بالقتال حتى يؤمنوا ثم يمنع عن القتال إذا أظهروا الإيمان باللسان وإن كان حقيقة موضع إيمان القلب إذ لا يمنع هذا كونه فيه والله الموفق


ثم يقال لهم في الخبر أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وقيل حتى يشهدوا فيكون الشهادتين سبب منع القتل لا حقيقة الإيمان والله الموفق


وأما العقل فلأنه دين والأديان تعقد وما به إعتقادات الأديان القلوب وكذلك المذاهب مع ما كان الإيمان في اللغة التصديق وحقيقته الذي لا يحتمل القهر والجبر هو الدين في القلب إذ لا يجرى سلطان أحد من الخلق وجملة ذلك أنه يجوز أن لا يكون لسان ولا يحتمل رفع الدين الحق ولا الإيمان بالله والرسل من أحد ثبت أن حق ذلك القلب مع ما كان ذلك من المحال ارتفاع فعل الإيمان عن الممتحن في حال الخطاب بحال وباللسان عامة الأوقات على الخلق يمر بدونه بل من الأحوال أحوال ينهى المرء فيه أن يقول آمنت بالكتب والنبيين والبعث ونحو ذلك نحو الكون في الصلاة فيصير الإيمان على هذا القول بحيث ينهى ودين الإسلام بحيث يفسد عبادته والله جعله شرطا للجواز وجعله دائما لا يتغير ولا يتبدل ولا يجوز فيه النسخ ثبت أنه على غير






----------------------------------- صفحة 378


ما ظنت الكرامية على أن الله تعالى أعلا درجة الإيمان في القلوب حتى صيرها أعلا الدرجات وصير الإيمان مما يقوم به الخيرات وعند وجوده يصلح العبادات وما يحتمل ما وصفت إنما هو القلوب لا الألسن لذلك كانت أحق


وبعد فإنه الخطاب بالإيمان يلزم بالعقول ويعرف حقيقة ما به الإيمان بالفكر والنظر وذلك عمل القلوب فمثله الإيمان مع ما كان الألسن قد تستعمل وتخبر كغيرها من الآيات والله تعالى يقول لا إكراه في الدين لم يجز أن يجعل حقيقته فيما فيه الإكراه وقال الله تعالى فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله وليس الكفر بالطاغوت باللسان خاصة فمثله الإيمان ألا يرى إلى قوله ألم تر إلى الذين يزعمون إلى قوله وقد أمروا أن يكفروا به فيصير الميل والتحاكم ترك للكفر وإن أخبر عن لسانه أنه يزعم أنه مؤمن بالذي عليه الإيمان به والله الموفق


وفي كتاب الله الخطاب بقوله يا أيها الذين آمنوا في غير موضع ثم لم يرتب أحد ممن ينسب إلى الإسلام والإيمان في ذلك أنه مما تضمنه وإن لم يكن هو وقت فرغ الخطاب معه يستعمل لسانه في فعل الإيمان ثبت أن حقيقته التي بها سماهم بهذا قائمة فيهم وقت الخطاب وهي لا تحتمل إلا أن تكون في القلب ولا قوة إلا بالله


وفي هذا النوع آيات هي تنقض على المعتزلة والخوارج والكرامية والحشوية مذهبهم على اختلاف مذاهبهم نحو قوله يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا






----------------------------------- صفحة 379


تفعلون إلى قوله كأنهم بنيان مرصوص وقوله تعالى ياأيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله وقوله تعالى وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال وقوله تعالى ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله فعاتب عز وجل على صنيعهم ذلك وأعظم الوعيد في ذلك ولم يزل عنهم اسم الإيمان بل به عاتبهم وكذلك في العقل تكون المعاتبة بالتقصير يكون بين الأولياء ويكون بين الأعداء محاجة ومحاربة فبان أن قد بقى لهم اسم الإيمان فيبطل قول من يخرج من الإيمان وقول من يكفره وكذلك إذ لا أحد التبس عليه تضمنه تلك الآيات ممن يصدق بالله وبرسوله ثبت أن الإيمان اسم لمعروف الحد وأن كلا ممن ذلك لسانه يعقل فيبطل به قول من يقول الإيمان اسم لجميع الطاعات مع ما ذلك الخطاب على المتروك من الفرائض فلو كان اسما للك لكانوا يا أيها الذين آمنوا ببعض الإيمان أو آمنوا مع الثنيا فيه وكما لا يصلح في مثل ذلك المعاتبة باسم الأبرار والمتقين ثبت أن الإيمان اسم للخاص من العبادات لا للكل ثم لا أحد منهم في وقت نزول الآية يعرف منهم استعمال اللسان بذلك ثبت أن التسمية كانت لأنه بالقلب ولا قوة إلا بالله






----------------------------------- صفحة 380


مسألة الإيمان تصديق بالقلب أم معرفة


وظن قوم أن لا يكون بالقلب تصديق وإنما يكون به معرفة خاصة والأصل أنه يكون وإن كان لا يقدر على الإشارة إلى ذلك بحرف يفضل إلا من طريق الدلالة بالمعروف من القول إن الإيمان تصديق في اللغة والكفر تكذيب أو تغطية فضد المعرفة في الحقيقة النكرة والجهالة ولا كان جاهلا بشيء أو منكرا له من حيث المعرفة مكذب على ما قال قوم منكرون أي لا يعرفون وكذلك كل من جهل حقا لا يوصف بالتكذيب له ثبت أن للإيمان بالقلب في التحقيق غير المعرفة على أن المعرفة هي سبب يبعث على التصديق كما قد يبعث الجهالة على التكذيب ربما فكذلك لكل معنى ليس للآخر في التحقيق


وعلى هذا قول من يقول الإيمان معرفة إنما هو التصديق عند المعرفة هي التي تبعث عليه فسمى بها نحو ما وصف الإيمان بهبة الله ونعمته ورحمته ونحو ذلك بما يظفر به لا أنه في الحقيقة فعل الله لكن لا يخلو حقيقته عن ذلك فنسب إليه فمثله أمر الإضافة إلى العلم والمعرفة وذلك أيضا كما سمى كل خطيئة المؤمن جهالة وكل مآثم الكافر نسيانا وكذلك المؤمن بما كان على الجهالة تعظيم ما يحل به أو النسيان أو بما كان كل منسى متروك فسمى به لا أنه اسم حقيقته والله الموفق


وعلى ذلك جائز القول بالإيمان بجميع الرسل على غير القول بمعرفة جميع الرسل بالقلوب وعلى ذلك قوله من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان لو لم يكن في القلب إلا المعرفة لكان لا يزيلها الكفر ولا يفيد الشرط في ذلك وقد يختار المرء لدفع الإكراه غير الذي هو






----------------------------------- صفحة 381


حق عنده لدفع ذلك عنه فله شرط طمأنينة القلب وكذلك القول لإبراهيم أولم تؤمن قال بلى وإنما يقال أولم تؤمن بخبري أو بالذي عرفت قال بلى ولم يكن أو لم تعلم ولا قوة إلا بالله


على أن المعارف ربما تقع بأشياء بلا أسباب لا يوصف بالإيمان بها وكذلك قوله فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فهو التكذيب بالطاغوت فيما يدعون والإيمان بالله لا على القول به ولكن على حقيقة الإنكار والتكذيب بالقلب والقبول والتصديق بالله والأصل في ذلك أثبت من الأمر المتعارف أن لا يوصف كل جاهل بالشيء بالتكذيب ولا كل عارف به بالتصديق به لكن المعرفة تبعث على التصديق والجهالة عل التكذيب فسمى بذلك نحو السبب لا الحقيقة والله أعلم


مسألة في الإرجاء


ثم اختلف في المعنى الذي سمى به من سمى مرجئا بعد اتفاق أهل اللسان على الإرجاء أنه التأخير وعلى ذلك قوله أرجه وأرجاه وقال مرجون لأمر الله


قالت الحشوية سميت المرجئة بما لم يسموا كل الخيرات إيمانا وهذا مما لا يحتمله اللسان ولا العقل فأما اللسان فهو أن الإرجاء هو التأخير ولا وجه لهذا الإسم فيما يسمى كل خير بإسمه الخاص ومنع هذا الإسم العام ثم لا يخلو من أن يكون هذا في الحقيقة أسما لكل أو لا فإن كان إسما له فمن يأبى تسمية






----------------------------------- صفحة 382


الشيء باسمه الذي هو إسمه في الحقيقة جهلا به أو تعنتا فلا أحد يسميه بهذا الإسم فما بال هؤلاء سموا به خصوصا من بين جميع الخلق ولو كان بذا يلزم هؤلاء هذا الإسم فهو لازم لمن سماهم به لأنهم وقت التسمية بهذا تاركون لإسماء الخاصة لها فيصيرون بذلك مستحقين لهذا الإسم ثم بقولهم الإيمان إسم لاجتماع الخيرات إبطال هذا الإسم عن كل خير على الإنفراد فيلزمهم هذا أو ليس بإسم لها في الحقيقة فلا يوجه لتسمية من لم يسم الشيء بما ليس ذلك بإسم له ويكون ذلك في الحقيقة سمة الصادقين بالإسم المذموم عنده في الدين فقد أعلا درجة الكاذبين عند الله وحط درجة الصادقين وذلك عظيم عند من يعقل


وأما العقل فإنما يدرك حقائق الأشياء بجهتين إما بما تؤدي المشاعر المجعولة مسلكا وهي الحواس أو بالتدبر في علم الحس وما أظهر الدليل وليس في شيء من المحسوس إيجاب ذلك ولا كان فيه مما يستخرج بالتأمل حقيقة الإرجاء أنه فيمن لا يسمى الخيرات إيمانا ولا قوة إلا بالله


بل ذلك في الحقيقة مذهبهم حين أرجوا دينهم ولم يشهدوا لأنفسهم واستثنوا في ذلك ولا قوة إلا بالله


وقالت المعتزلة المرجئة هي التي أرجت الكبار لم تنزل أهلها نارا ولا جنة


قال الشيخ رحمه الله هذا الذي قالوه حق في لزوم إرجاء تلك الأعمال لكن المروى بالذم ليسوا هم إن ثبت خبر الذم وهذا هوالحق وعن مثله سأل أبو حنيفة رحمه الله مم أخذت الإرجاء فقال من فعل الملائكة حيث قيل لهم أنبئوني بإسماء هؤلاء إن كنتم صادقين إنه لما سئلوا عن أمر لم يكن لهم به علم فوضوا الأمر في ذلك إلى الله وكذلك الحق في أصحاب الكبائر إذ معهم خيرات الواحدة منها لو قوبلت جميع ما دون الشرك من الشرور لمحتها






----------------------------------- صفحة 383


وأبطلتها فلا يحتمل أن يحرم صاحبها ويخلد في النار لكن يرجى أمره إلى الله فإن شاء عفا عنه إذا هو لم يحرمه عند فعله معرفته ومعاداة أعدائه له وتعظيم أوليائه فعند شدة حاجته إلى عفوه وإحسانه يرجو أن لا يحرمه والله الموفق إذ قال هو الغفور وهو الرحيم الودود وإن شاء قابل بسيئته ما أكرمه به من الحسنات فجعلهن كفارات لها كما قال تعالى إن الحسنات يذهبن السيئات وقال في غير موضع نكفر عنكم سيئاتكم وقد ذكر الأنواع التي وعد بها التكفير ولا قوة إلا بالله


وذلك كقوله إولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم وقوله والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ونحو ذلك والله أعلم


وإن شاء جزاه قدر عمله وما كان منه من الحسنات فقدرها أيضا بقوله فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره وغير ذلك من الآيات التي فيها ذكر جزاء الخير والشر وذلك وصف العدل في المؤاخذة وإن كان هو فيما أعطى الثواب مفضلا وبالله التوفيق


وهذا النوع من الإرجاء حق لزم القول به والمعتزلة أرجت فعل نفسه حيث أبى تسميته مؤمنا وكافرا فجهله بحقيقته ألزمه القول بإرجاء الإسم لكنه جهل حقيقة فعله فلا عذر له والأول جهل حقيقة ما يعمل به الله وذلك لا يعرف إلا بالسمع ولم يجيء ما يقطع القول بشيء فهو لازم






----------------------------------- صفحة 384


وقال بعضهم المرجئة هم الذين أرجوا أمر علي بن أبي طالب ومن خرج معه وعليه فإن أرادوا به الإرجاء من الوقف في القول فيهم فلا معنى لذلك من غيره وإن أرادوا الإرجاء المذموم فهو قريب ولما لم يكن أحد يعدل عليا في الإستحقاق مع دلالة الخبر المرفوع له في عهد أبي بكر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن وليتم أبا بكر تجدونه ضعيفا في بدنه قويا في دينه وإن وليتم عمر وجدتموه قويا في بدنه قويا في دينه وإن وليتم عليا وجدتموه هاديا مهديا يسلك بكم طريق الهدى أو كما قال عليه السلام ثم إدخال عمر إياه في الشورى ثم إتفاق أخيار الصحابة عليه لم يكن أمره بحيث الخفا ليعذر من جوز القول جائز أن يلحق أهله الذم بذلك إذ هو جهل ما لا يحتمل الجهل إلا عن إغفال أو ترك التأمل في أمر الدين والله الموفق


ثم إن ثبت الخبر المرفوع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال صنفان من أمتي لا تنالهم شفاعتي القدرية والمرجئة وما ذكر أن المرجئة لعنت على لسان سبعين فهو يخرج والله أعلم على وجهين أحدهما أن يراد به الجبرية بما جمع إلى القدرية وهما قولان متقابلان جمعهما الخبر في الذم وهو أن القدرية تحقق قدر أفعال الخلق للخلق لا تجعل لله فيها مشية ولا تدبيرا والجبرية أرجتها إلى الله تعالى لم تجعل للخلق فيها حقيقة البتة فحملت الجبرية كل قبيح وذميم جل الله تعالى من أن يكون ذلك وصف فعله وحملت القدرية الأمر على الخلق على ما هم بها من الجهل والحق هو الوسط من القول أن يكون من العباد أفعال على ما هي منهم ومن الله خلقها على الحد الذي كانت عليه وبالله التوفيق


وقد تقدم بيان المعنى بالقدرية






----------------------------------- صفحة 385


والوجه الثاني أن يكون ذلك فيما عليه حال الفاعل في فعله من الوقف في ذلك نحو ما قالت الحشوية في اسم المؤمن والثنيا فيه ومعلوم أن الإرجاء هو الوقف في الجواب والإمهال للنظر ثم لا يقطعون في أنفسهم القول بالإيمان بل يستثنون والثنيا إرجاء وقد ذكر ذلك في بعض الأخبار لكن لا يشهد بصحته وفي العقل بيان معنى الإرجاء إذ هو الوقف في الأمر في أمر هو فعلهم وما قالت المعتزلة في إرجاء صاحب الكبيرة بالتسمية أنه مؤمن أو كافر مع ما قسم الخلق الذين امتحنوا قسمين في التحقيق مؤمن وكافر وصير القسم الثالث المنافق إذ هو مع هؤلاء في الظاهر ومع هؤلاء في السر فاستوجبوا أحكام أهل الإيمان في الظاهر مما عليه أهل الأديان في الدنيا وفي الباطن من الأحكام على ما عليه أمر الكفر في الظاهر من أمر الآخرة والله الموفق


خلق الإيمان


ثم القول في خلق الإيمان فيما بيننا وبين فريق من الحشوية مع ما قد بينا القول في خلق أفعال العباد ما يكفى ذلك من تأمل أمر الإيمان أن الإيمان لا يخلو من أن يكون معروفا أو مجهولا فإن كان مجهولا لا يعلمه أحد فنقول من يقول بنفى الخلق لا معنى له لأن الذي يجهل حتى لا يصل إلى العلم به من طريق الدليل هو الخلق الذي لم يجعل الله فيما يشهده عليه دليلا يعرف مائيته وحقيقته وذلك خلق في جملة القول وبدلالة المحسوس على أن كل شيء سوى الله خلق كائن بعد أن لم يكن فأما الله تعالى وما يوصف به ففي الشاهد دليل على التحقيق والإثبات فلا وجه للجهل به وفي ذلك تثبيت جعله خلقا مع ما لا يجوز الجهل به إذ الأمر بفعله عن الله في جميع كتبه المنزلة ورسله الذين أرسلهم وبه خوطب العباد بجميع شرائع الإسلام فمحال يعرفها






----------------------------------- صفحة 386


على الجهل بحقيقة ما به وجب التكليف وجرت به المحنة وعلى ذلك جرت البشارات وبالإغفال عنه جاء الإنذار والوعيد وعلى ذلك اتفق قول الأمة على اختلافهم في الإضافة إلى ما يعقله الخلق فثبت أنه معلوم ثم لا يخلو إذ علم من أن يكون إيمان كل أحد يوصف في الأزل بالكون بعد أن لم يكن فإن لزم الوصف له بالكون في الأزل لزم الوصف بما في العقل دفعه وفي السمع إحالته لإحالة كون إيمان أحد فعلا له قبل كونه والدليل أنه في العبد الأمر به والنهى عن تركه ومجئ الوعد لمن أتى به والوعيد على من أعرض عنه ومحال كون ذلك كله على غير فعل ثم الأخبار في القرآن عن الذي جاء به وتسمية ذلك عملا وتسمية صاحبه به والمعقول في ذلك أن يكون هو الذي يشهد بوحدانية الله ويؤمن برسله ويعتقد ذلك وذلك أنه فعله على أنه لو لم يكن فعله فيكون سائر ما له مما لا صنع له فيه خلقا عند الجميع وإن كان فعله فهو عند القائلين بهذا إن كل فعل العبد مخلوق وقد بينا ذلك فيما تقدم فعلى ذلك الإيمان بل هو أحق أن يوصف بالخلق من سائر أفعال العبد إذ هو أعلا أفعاله وأجلها ومن البعيد وصف الرب بخالق الأشياء الدنية والخبيثة وتنزيهه عن خلق الأشياء الرفيعة الحسنة فيكون واصفه بهذا شرا من المجوس والزنادقة حيث أضافوا إلى الله خلق الخيرات ونفوا عنه خلق الشر وهم لا نفوا خلق أرفع الخيرات وهو الإيمان مع ما كان فيهم من يرى جميع الخبرات إيمانا ثم لا يرى الله يخلق الإيمان فيكون على قوله هو خالق كل شر وليس بخالق خير البتة جل الله عن هذا الوصف


ثم لا يخلو تعرف الخلائق من أن يكون طريقها السمع من غير أن كان للعقل من ذلك نصيب فيجب بمطلق القول خلق الإيمان بقوله خالق كل شيء وهو شيء غير الله فيجب به القول بخلقه أو القول بخلقه بما هو من






----------------------------------- صفحة 387


الأعمال وقد قال الله تعالى خلقكم وما تعملون يحق القول وفعل الضمير دون غيرهما من الجوارح وقد قال الله تعالى وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير فهو داخل في جملة الشيئية بالأول وفي جملة الأعمال في الثاني وفي جملة ما يسر ويجهر مع ما قد يكون في السماوات والأرض مما لا إشارة إلى خلقه بإسمه داخل ذلك فيما بينا وفي قوله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما فمثله الإيمان من الذي بينهما والله الموفق


أو أن يكون للعقل في تعرف ذلك نصيب فوجد جميع ما في سائر المخلوقين من آثار الصنعة والخلقة ما في الإيمان فيجب من طريق النظر الجمع بين ذلك على أنه مما هو يحدث للعبد لحدثه وعرف خلق الأشياء بما كان بعد أن لم يكن


على أنا نسأل من أنكر سؤالا مقررا عن حقيقة ذلك من تصديق أو إقرار أو جميع الأعمال أو إقرار ومعرفة ذلك أو نحو ذلك فيلزم الإعتراف بشيء من ذلك بما يقابل به كل نوع ذلك ولا قوة إلا بالله


وقد روى في ذلك خبر عن رسول الله عليه السلام أنه قال إن الله خلق الإيمان فحفه بالسماحة والحيا وروى أن الله خلق مائة رحمة ومعلوم تسمية الإيمان رحمة فيجب أن يكون فيما خلق ثمة له ضد يدفعه وشكل يعضده أو يوافقه وكل ذي ضد وشبيه خلق ثم هو طريق يسلك فيه ودين يدان به ومذهب يختار ونحله تعتقد وكل ذلك مخلوق ثم الله تعالى ضرب مثله مرة






----------------------------------- صفحة 388


بالشجر ومرة بالسمع والبصر ومرة بالحياة ومرة بالأرض الطيبة ومرة بالسراج وكل ذلك مخلوق فمثله الإيمان ثم قد ضرب مثل الكفر بمضادات ما بينا على الإجتماع في الحدثية والخلقة فمثله أمر الإيمان والكفر والله الموفق


ثم الإيمان حسن وخير وهدى وزين لصاحبه وكل ما ذلك وصفه فهو مخلوق قال الله تعالى ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم ثم قال ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وقال ولم تؤمن قلوبهم دل أنه في القلب وهو فعله وبعيد كون ما ليس بمخلوق فيه ثم كذب الله تعالى في ذلك قوما ادعوا لأنفسهم فلو لم يكن فعلهم لم يكن ليكذبهم لأنه موجود وإنما يعدم من حيث الفعل والله الموفق


مسألة ترك الإستثناء في الإيمان


قال الفقيه رحمه الله الأصل عندنا قطع القول بالإيمان وبالتسمى به بالإطلاق وترك الإستثناء فيه لأن كل معنى مما بإجتماع وجوده تمام الإيمان عنده مما إذا استثنى فيه لم يصح ذلك المعنى فعلى ذلك أمره في الجملة نحو أن يقول أشهد أن لا إله إلا الله إن شاء الله أو محمد رسول الله إن شاء الله وكذلك الشهادة بالبعث والملائكة والرسل والكتب وبالله العصمة


وأيضا أن حرف الثنيا إذا ألحق بالقول منع مضيه على ما تفوه به لولا هو من الإقرار والعقود والمواعيد وغير ذلك فعلى ذلك أمر الإيمان وكذلك قال






----------------------------------- صفحة 389


الله سبحانه ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله وقال ستجدني إن شاء الله صابرا فلم يلحقه وصف الخلف إذا كان العهد مقرونا بالثنيا وبالله التوفيق


ثم العرف الظاهر في الخلق أنهم لا يستعملونه في موضع الإحاطة والعلم ومن سمع ذلك استعظم القول نحو أن يشار إلى محسوس ويستثنى ويستعملونه في موضع الشكوك والظنون وقد حذر الله تعالى بقوله ثم لم يرتابوا أو بما وصف أهل النفاق بالشك والريب لم يجز الثنيا في كل ما لا يجوز أظنه وأحسبه وأشك فيه وبالله التوفيق


ثم إن الله عز وجل شهد لمن آمن بالله ورسوله واليوم الآخر بالإيمان بقوله آمن الرسول وقد مدح بقطع القول به بقوله قولوا آمنا بالله ثم خاطب الله في كثير من العبادات بإسم الإيمان وفي كثير من الحل والحرمة في ذلك ثم لم يوجد أحد يخرج في شيء مما أحل بإسم الإيمان وأمر به ظنا منه بنفسه أنه ليس تحقيق لذلك الإسم وأن المراد ينصرف إلى غيره فكذلك في التسمى


ثم الأصل في ذلك أن الإيمان مما ينسب إلى الله بالإنعام كقوله تعالى صراط الذين أنعمت عليهم وبالإمتنان بقوله يمن عليكم وبالتزيين في القلوب والتحبيب بقوله ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم






----------------------------------- صفحة 390


وبالأفضال قوله فلولا فضل الله عليكم ورحمته فلا يخلو من يستثنى من أن يكون عرف صدق نفسه وعظيم نعم الله وأفضاله أو لم يعلم ذلك أو علم أنه على غير ذلك فإن علم أنه على غير ذلك فبعدا له فإن الثنيا لا تنفعه سوى الإرتياب فيما زعم أنه لم يعلمه وإن لم يعلم صدقه فيما قال ولا إمتنان الله وأنعامه فويل له إذ جهل أعظم نعم الله وكفر به وإن علم ذلك فإن في حرف الشك عند السامعين ستر نعم الله وكفران مننه فذلك آية الزوال وسبب المحق والله الموفق


ثم الأصل عندنا أن الثنيا حرف يستعمل في موضع التحرج وهذا موضع لو تحقق الذي له يتحرج لا ينفعه التحرج بل يلزمه مقت الله ونقمته ولو لم يتحقق يلحقه حكم كفران نعم الله حيث لم يره منه ولم يشكر له إذ أوجب له ولايته وأضاف إلى نفسه الأخراج من الظلمات إلى النور ولا قوة إلا بالله


ثم الحق على مذهب المعتزلة والخوارج والحشوية الإستثناء في الدين وبخاصة في الإيمان فأما عند المعتزلة والخوارج فإنه يخرج من حيث لا يشعر به ويمتنع عن الإجابة من حيث لا يعلم به وإذا كان كذلك فهو أبدا في جهل من حاله فحقه أن يتسمى به وعلى ذلك لم يسمع أحد سمى نفسه برا تقيا زكيا طيبا مطيعا لله إذ هو اسم لأحد نوعي الخيرات أو لها جميعا فالإيمان عند ذلك ما كان لهم التسمى به دون الثنيا


وكذلك الحشوية إذ القول عندهم في الإيمان وفي كل من أسماء المدح واحد ولا يسمون بغير ذلك بلا ثنيا وفي لزوم هو لا في مذهبهم الثنيا ثم الله تعالى قال ياأيها الذين آمنوا في غير موضع باسم مقطوع لم يجز أن يستحق شيئا مما جرى الخطاب به من أمر ونهى ووعد ووعيد وترغيب وترهيب






----------------------------------- صفحة 391


فيكون عامة آيات الله في الخطاب خارجة مخرج عبث إذ الحق من جملة المذاهب من لا يلزمه هذا القول بمذهبه قال أو لم يقل والله الموفق


فإن قال قائل فقد ذكر الله الثنيا في غير موضع الشك فيجوز الثنيا على ذلك ثم قوله لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين قيل هذا ليس لكم لأنا قد بينا تحقيق الشك على مذهبكم ثم لم يكن الإحتجاج بخروج عن موضع الشك ولو كنتم كذلك إذ قد ذكر الله أهل اليقين في غير موضع بإسم القطع فقولوا لا يتم بلا ثنيا ولا قوة إلا بالله


ثم يقال قد ذكر الله تعالى الظن ولعل وعسى والخوف في موضع اليقين فقولوا عند السؤال نظن ونخاف ولعل ومثل ذا فإذ لم يجب هذا بما العرف فيه عبر وإن اعترض في مواضع لهذه الأحرف مساغ في حق اليقين لعلك وكذلك أمر الثنيا ثم يعارض لجميع ما ذكر من الإيمان بالله ومحمد مع الثنيا فإيذا كان القول ممتنعا والواصف به في حق من لم يؤمن قلوبهم فكذلك الأول وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن أفضل الأعمال فقال إيمان لا شك فيه وجهاد لا غلول فيه وحج مبرور فقال الله تعالى إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا فإن قيل ما الحكمة في قوله لتدخلن المسجد الحرام قيل يخرج هذا عندنا على وجوه والله أعلم بحقيقة ذلك لكنه خبر أخبر عن قول غيره لم يقل لتدخلن إن شئت ولكن قال إن شاء الله ليعلم أنه قول غيره ثم احتمل أن يكون الله علم رسوله أن يقول ذلك ويستثنى لما هو وعد






----------------------------------- صفحة 392


وقد كان قال ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله ولأفعلنا ولتدخلن واحد لكنه أمر بالثنيا إن كان وعده له أو لا ليعلم الناس حق الوعد كما أمره بالمشورة ليعلم الناس خطرها أو لما كان أضاف الله إليه الدخول وقد كان وعد خاصته أو من بقى منهم فالثنيا لما خشي الفناء على بعض المخاطبين أو كان في قوله لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق ثم هو يتوجه وجهين أحدهما أن يكون رأي كذلك قولا مقرونا بالثنيا فذكر على ذلك إذ كان رسول الله أخبر القوم بالدخول لوقت لم يبين له فاستثنى في ذلك وذلك حق في كل ما يرتاب لا ما يتقين فيه على ما ذكرنا فمن كان على يقين من دينه وعلم من صدق ممن يعلم حد الإيمان وأنه قد أوفاه فعليه أن يقوله شكرا لما أنعم الله به عليه وليس في ذلك تزكية لاشتراك الجميع في ذلك ولما أمروا به ولما هو معلوم الحد ولما باليقين به يعلم مواقع الخطاب ودخوله فيه ولما يعلم أن الله إذ سماهم به سماهم بما استحقوا ذلك مع ما ألزم الله عز وجل بظاهر الدين أحكاما من معاملات الخلق وأنواع الحقوق مما يلزمهم إظهار ذلك للقيام بالحقوق التي يلزم الناس بها ولا قوة إلا بالله العظيم






----------------------------------- صفحة 393


مسألة ألحقت بالمتن في نسخة


مسألة الإسلام والإيمان


تكلم الناس في الإسلام أنه اسم الإيمان في التحقيق أو غيره فأما من يقول بأن الإيمان اسم لجميع الخيرات فقد اختلفوا في ذلك خلافا يشبه أهل القول به وإلا فلا معنى لاختلافهم إذ احتجوا بقوله تعالى ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وصيروا لكل شيء يقبل إسلاما وكل خير إيمان وكل مقبول خير وكل خير مقبول فيكونان في الحقيقة واحدا لكنهم فرقوا بينهما استدلالا بتفريق الكتاب بقوله قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا فأذن لهم بالخبر عن الإسلام ولم يأذن لهم بالإخبار عن الإيمان


وكذا روى في قصة جبريل فيما سأل رسول الله عن الإيمان فقال أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره من الله وسأل عن الإسلام فقال أن تشهد أن لا إله إلا الله وتقيم الصلاة وتؤدي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت فقال في الأول فإن فعلت هذا فأنا مؤمن وفي الثاني فأنا مسلم قال نعم صدقت


قال ففرق الكتاب بين الأمرين ثم السنة ثم تصديق جبريل في ذلك ثم الشهادة بالإسم الذي ذلك فعله ثم أخبر عليه السلام أن هذا جبريل أتاكم ليعلمكم أمر دينكم ولا يحتمل إجتماع أمناء السماء والأرض على تعليم أمر بالتفريق والحق فيها الجمع فثبت به التفريق بينهما






----------------------------------- صفحة 394


ثم اختلف الذين قالوا الإيمان هو التصديق لا غير في الإسلام فمنهم من يوافق هو لا في جعل الإسلام إسما لما ظهر من القرب والإيمان للتصديق خاصة إستدلالا بالذي ذكرت من حكم الكتاب والسنة إنه إذن للأعراب بالتسمى بالإسلام بالظاهر ولم يأذن بالتسمى بالإيمان لما لم يكن لهم حقيقة في القلب ومثله الخبر إذ رد الإسلام إلى ظواهر الأمور والإيمان إلى التصديق بالذي ذكر وهذا القول أقرب بظاهر القولين من الأول لأن الأولين لم يجعلوا اسم الإسلام على الظاهر والإيمان على التصديق بل جعلوا الإسلام على الظاهر والباطن جميعا فهم خالفوا جميع ما احتجوا به مع ما كان كل منهم إذا سئل عن الإيمان أضافه إلى جميع الخيرات فعلى قولهم خالفوا ما احتجوا به من القرآن ببيان الموضع له وبما جاء من تفسير الأمناء في ذلك ولا قوة إلا بالله


وأما القول عندنا في الإيمان والإسلام إنه واحد في أمر الدين في التحقيق بالمراد وإن كانا قد يختلفان في المعنى باللسان ولما فيه من الإختلاف أبت أنفس الكفرة التسمى بالإسلام وليس أحد منهم يأبى التسمى بالإيمان أو لما كان من المعروف من الإسلام أنه اسم الذين وليس كذلك المعروف من الإيمان ولذلك قيل دار إسلام ودار الكفر ولم يقل دار إيمان ولا تكذيب وإن كان الكفر تكذيبا فعلى ذلك أمر التسمى به ثم من جهة التحقيق بالمراد في الدين إن الإيمان هو اسم لشهادة العقول والآثار بالتصديق على وحدانية الله تعالى وأن له الخلق والأمر في الخلق لا شريك له في ذلك والإسلام هو إسلام المرء نفسه بكليتها وكذا كل شيء لله تعالى بالعبودة لله لا شريك فيه فحصلا من طريق المراد فيهما على واحد إلا أن الأول بالإيمان بالله وأن له ما ذكرنا والثاني في جعل ما ذكرنا لله يشهد لما بينا قوله جل ثناؤه ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاركون أن وصف المسلم بمن هو سلم لرجل والكافر بمن فيه شركاء متشاكسون






----------------------------------- صفحة 395


ثم قال قوم الإسلام في اللغة الإخلاص وعلى ذلك قوله إذ قال له ربه أسلم وقوله آمنا بالله إلى قوله ونحن له مسلمون فهو على إخلاص العبد نفسه لله تعالى ولا يجعل لأحد فيها شركا وهو يرجع أيضا إلى ما بينا


وقال قائلون الإسلام الإستسلام والخضوع لله وعلى هذا أمر الأعراب أن يقولوا أسلمنا لكن ذلك على الإستسلام للمؤمنين لا لله كما قال جل وعلا لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله وكما وصفهم في قوله يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو وغير ذلك مما أظهر به خوف المنافقين من أصحاب رسول الله ولذلك كانوا يظهرون الإيمان بالله ورسوله وينكرون بقلوبهم والإسلام هو الخضوع لله تعالى والإستسلام له بالإختيار على ما هم عليه لله بالخلقة والجوهر والإيمان لا يتوجه إلى هذا الوجه فنفى عنهم وإن كانوا أظهروه من عند أنفسهم لأن حقه القلب واللسان معبر عنه لذلك شهد الله تعالى على المنافقين بالكذب بما أخبروا من إيمانهم إذ حقيقته بالقلب ولم يكن لهم ذلك ولهذا ما بقى إيمانهم وأثبت لهم القول به لا غير ولا قوة إلا بالله


ثم إذا كان حقيقة الإسلام ما ذكرنا وحقيقة الإيمان ما ذكرنا ففاسد وجود أحدهما بالحقيقة والآخر ليس وجوده بالحقيقة فلذلك قيل هما واحد في التحصيل وإن كانت العبارة من الإسم في الإطلاق ربما تختلف كالإنسان وابن آدم ورجل وفلان يختلف من ظاهر الإسلام المعنى وفي التحقيق واحد من حيث كان بوجود واحد وجود الآخر إلا من الوجه الذي وصفت في حق الإسلام الذي هو باللسان والله أعلم






----------------------------------- صفحة 396


ثم الأصل أنه من البعيد عن العقول أن يأتى المرء بجميع شرائط الإيمان ثم لا يكون مسلما أو يأتي بجميع شرائط الإسلام ثم لا يكون مؤمنا ثبت أنهما في الحقيقة واحد ومعلوم أن الذي يسع له التسمى بأحدهما يسع بالآخر وأن الذي به يختلف الأديان إنما هو الإعتقاد لا بأفعال سواه وبالوجود يستحق كل الإسم المعروف لذلك وجب ما قلنا وقد قال الله تعالى إن الدين عند الله الإسلام وقال ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه فالمؤمن بالصفة التي يصير بها مؤمنا لا يخلو من أن يكون أتى بالإسلام الذي هو الدين عند الله أو أتى ببعضه لا كله أو ابتغى غير دين الله فإن قال بالأول أذعن للحق وإن قال بالثاني فهو إذا لم يبتغ به دينا إنما ابتغى بعضه وذلك بعيد بل شهد الله على مثله بأنه كافر حقا


وبعد فإن كل كافر قد يأتى ببعضه ثم لم يجب به الإسم وقد سمى به من ذكرت ثبت أنه قد أتى بالكل وإن قال بالثالث صير دار المؤمنين النار وأبطل جميع ما جاء به الرسل من الأمر بالإيمان بهم ثم لم يصر مسلما بذلك وجاء بما لا يقبل منه من الأديان ثبت أنه التام من الدين ولا قوة إلا بالله


ثم الإختلاف الذي من خبر جبريل عليه السلام قد روى في ذلك اختلاف في اللفظ روى عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الإيمان ثم عن شرائع الإسلام فأجاب بالذي ذكر في السؤال عن الإسلام فيكون هذا الخبر تفسيرا للخبر الأول ويحمل الخبر الأول على جهتين إما على أن الراوي لم يسمع الشرائع في السؤال أو في الرواية عن الذي رواه فروى كذلك يؤيده خبر ابن عمر أن ذلك قد كان ومن البعيد أن يكون مقدار الأول ويؤيده ابن عمر لما يسقط الشهادة بما يخبر عن جبريل وعن الرسول بغير الذي قالا وغير مدفوع حقا البعض على بعض فيرونه على ما






----------------------------------- صفحة 397


وقع عنده وأيد هذا ما ذكر في بعض الأخبار أن النبي عليه السلام قال هذا جبريل أتاكم ليعلمكم دينكم وروى في غيره ليعلمكم أمر دينكم فكان في الخبر أمر دينكم وإن خفى على الآخر فمثله الخبر الأول والجهة الثانية على أن الإكتفاء به بوجهين أحدهما أنهم قد علموا أنه لا يجوز أن يكون مؤمنا غير مسلم في الحقيقة أو مسلما غير مؤمن فرأوا أن ذلك القدر كاف عن الإبلاغ في الذكر لظهور ذلك والآخر أن يكون الثاني عنده البيان عن أفعال الإسلام يرويه بإسمه على مجاز اللغة في تسمية الشيء بإسم سببه وإسم المتصل به ثم قد ثبت أنهما واحد في التحقيق على ما جرى به أحكام القرآن قال الله تعالى قولوا آمنا بالله إلى قوله ونحن له مسلمون فألزمهم اسم الإسلام بالذي به صاروا مؤمنين ومثله في يونس وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين فصيرهم بالذي آمنوا مسلمين وقال عز وجل يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين صير ذلك منهم إسلاما لو صدقوا في إيمانهم وكذلك به يكونون مؤمنين وقالت الملائكة فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين فصير الذين كانوا مسلمين مؤمنين ثم كذلك إن الله تعالى ذكر البشارة مرة بذكر الإيمان ومرة بذكر الإسلام ثبت أنهما في الحقيقة واحد وقد روى عن نبي الله عليه السلام أنه قال لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة وروى أنه لا يدخلها إلا نفس مسلمة






----------------------------------- صفحة 398


ثم الأمر المتوارث من غير تنازع في تسمية كل مسلم مؤمنا وكل مؤمن مسلما


ثم اتفاق أهل المذاهب في الإسلام أن ما يخرج من الإيمان يخرج من الإسلام وكذلك الذي يخرج من الإسلام يخرج من الإيمان ثم ما لا تنازع في الآخرة في جميع الفرق أن الدار التي هي لأهل الإسلام هي لأهل الإيمان وأن التي هي لهؤلاء هي لهؤلاء وكذلك قسم الله الخلق في الدنيا والآخرة فقال فمنكم كافر ومنكم مؤمن وما نظر صاحب القول في المسلم من هو منهما وقال الله تعالى يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فما فتوى صاحب هذا القول في المسلم أنه ما صفة وجهه وقال ومن يسلم وجهه إلى الله وقال ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين فما حاله لو قال أنا من المؤمنين وقال ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن كما قال ومن يسلم وجهه إلى الله


ثم يقال لصاحب هذا القول تحقق هذا الإسم بأحدهما ويمنع الآخر حكما في أمر الدنيا والآخرة أو لا فإن حقق فيقال ما ذلك إلا أي الدارين يرد المسلم أو المؤمن ثم في الشاهد أي الإسمين أحمد وأي حق فيما بين العبد وربه أو بينه وبين الخلق تحقق له عند وجود أحد الإسمين ولا تحقق عند وجود الآخر فلا يجد إلى تحقيق ذلك سبيلا


فيقال عند ذلك إذ لم يجعل الإسم بأحدهما علما لأمر منعت المسمى بالآخر وكذلك فيما يلحق الضرر فإذا صرت أنت بالتفريق عابثا ملبسا






----------------------------------- صفحة 399


ثم الناس في عهد رسول الله ثلاثة مؤمن وكافر ومنافق لم يعرف للمسلم درجة خارجة من هؤلاء ولا للمؤمن وفي التفريق ذلك وذلك خلاف ما عليه الأمر الأول من الخلق على أن أهل الأديان جميعا فروا عن إسم الإسلام فلو لم يكن الإسلام معروفا عندهم أنه ما معناه وما الذي نفر عنه طباعهم لكان لا معنى لذلك وبه وصف الرسل أنهم سموا وإذا ثبت أنه معلوم عند الخلق فمن رام صرفه إلى معنى زائد في الدين أو إلى معنى زائد على الإيمان أو ناقص عنه يجب إن ذهب إلى معنى ناقص عنه أن يجعل الإسلام دون الإيمان فيجب حقيقته والتدين بذلك الدين ثم لا يكون مؤمنا وإن كان زائدا فيجب أن لا يقع النفار عن قدر ما يدعون إلى الإيمان وإن لم يوصف لهم أنه أسلم فإذ وجد ذلك ثبت أن معنى ذلك غير زائد على الآخر ولا له وجود دونه ولا قوة إلا بالله


وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدل دينه فاقتلوه ثم بين الله دينه فقال فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فيقال أهو مسلم أو لا فإن قال لا فقد بدل إذا دين الله وإن قال نعم صار مسلما بفعل الإيمان لا غير على أن هذا الخبر في تبديل الدين وأنه معروف أنه الإعتقاد لا غير وأن المراد في ذلك راجع إلى الدين الذي هو الإسلام ثبت أنه معروف الحد والقدر يعرف مبدله ولو كانت الأفعال سوى الإعتقاد دينا كان كل واحد في كل أحواله مبدل الدين لوجود تلك الأفعال أفعال من القرب في كل وقت ولا قوة إلا بالله


ثم يقال له الخبر الذي رويت في هذا الباب في تفسير الإسلام فيه ذكر الأمور الظاهرة وكذلك أهل النفاق يوافقون المؤمنين في الأمور الظاهرة وقد






----------------------------------- صفحة 400


قيل لهم قولوا أسلمنا أهو الإسلام في الحقيقة أو لا فإن قال نعم هو الإسلام في الحقيقة صير قوله إن الدين عند الله الإسلام وقوله ورضيت لكم الإسلام دينا هو الذي ذكر فيجب أن يكون قوله ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين وقال كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم هو ذلك الذي قال لهم قولوا أسلمنا وما جاء به الخبر لوجود تلك الشهادة في أهل النفاق وتلك الأفعال فيكون المخلصون والمؤمنون قد ابتغوا غير الإسلام دينا وتركوا ما رضى الله عنهم وأهل النفاق الذين جاءوا به وذلك بعيد فثبت أن ذلك الإسلام الإنقياد والإستسلام وأما حقيقته فهو الدين في الحقيقة لا ما ذكر من الظواهر دليل ذلك الأمر الذي ذكروا أن الله قال في آخر السورة يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا على إسلامكم ولو كان الإسلام ما أظهروا كيف قال إن كنتم صادقين ثم فيه أنه جعلهم مسلمين كما قالوا إن هدوا للإيمان لا بما أظهروا ثبت أن الإيمان هو الإسلام وكذلك قال ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ثم بين ذلك الدين الذي هو الإسلام وقال






----------------------------------- صفحة 401


كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم صير ذلك لم يقبل دينا غير الإيمان الذي وصف ثم جعلهم مبدلين دين الإسلام بالكفر بعد الإيمان ليعلموا أنهما واحد مع ما كان فيما تقدم كفاية من قوله قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا إلى قوله مسلمون


والأصل عندنا أن الأسماء إنما جعلت لمعرفة أهلها فيما أريدوا بأمور جعلت لهم وعليهم وفيما وعدوا وأوعدوا ثم لم يكن أحد يخير فيما جرى آية الذكر بإسم الإيمان أو الإسلام ممن ينتحل دين الإسلام في اقتضاء الذكر إياه من حيث الإسم ثبت أن حقيقتهما واحد وأن من يروم التفريق بينهما من بعيد يخترع و لا قوة إلا بالله تعالى وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرينyağlarıNashi argan

Bu Blogda Ara